الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تطرف التكفيريين.. وقود العنصريين

تطرف التكفيريين.. وقود العنصريين
2 ديسمبر 2015 21:31
منذ ربع قرن وأنا أقولها بالفم الملآن: المشكلة الأصولية ستكون المشكلة رقم واحد للقرن الحادي والعشرين. كل كتبي المتلاحقة تشهد على ذلك: بدءاً من كتاب «مدخل إلى التنوير الأوروبي» وانتهاء «بالانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ» مرورا «بالانسداد التاريخي» و«معضلة الأصولية الإسلامية» ثم بالأخص: «الإسلام والانغلاق اللاهوتي». وسوف أوضح الإشكالية أكثر في كتاب جديد يصدر قريبا عن دار الساقي في بيروت بعنوان: «العرب والبراكين التراثية». لكن بعض المثقفين وبالأخص الحركيين السياسيين المسيطرين على وسائل الإعلام يرفضون الاعتراف بذلك ويلقون بالمسؤولية كما العادة على الخارج، على الطليان.. وهذه حيلة سهلة لم تعد تخفى حتى على العميان.. إنهم يرفضون الاعتراف بوجود مرض داخلي ينخر في أحشاء الأمة ويضرب في العمق. وهو مرض ليست داعش إلا أحد تجلياته وأن كانت الأكثر شراسة وإجراما. إنها الزبد الذي يرغو على السطح. وأما ما تحتها فتوجد قارات سحيقة من الفكر العفن الذي يغذيها ويوقد نارها. وبالتالي فيخطئ من يظن أن المشكلة المتفجرة حالياً ستقتصر على بلاد الشام والعراق. ينبغي أن يعلم الناس أن الحريق سيمتد لكي يشمل الجميع. ذلك أن المرض مستفحل، عضال. وسوف تصل الأمور إلى مداها الأخير: أي إلى كل مكان يحظى فيه الفكر الداعشي بتجذر واحتضان وتعاطف شعبي واسع. هناك سوف تجرى المعركة الحقيقية. وبالتالي فما نراه الآن ليس إلا مقدمات تمهيدية وأكاد أقول تبسيطية لما سيحصل لاحقا: الآتي أعظم! فهذه المشكلة، مشكلة الأصولية الداعشية، مدعومة من قبل عقلية جماعية مترسخة على مدار القرون الانحطاطية وليس فقط منذ القرن الثامن عشر أو منذ عام 1928 (تاريخ ظهور حركة الإخوان المسلمين). ثم زادتها استفحالا برامج تعليم طائفية وفضائيات ظلامية وخطب جمعة حامية تصب الزيت على النار يوميا. وكانت النتيجة ما نحصده الآن. فهؤلاء القتلة الذين يشعلون العالم من بيروت إلى باريس لم يجيئوا من المريخ ولا من بلاد الأسكيمو والواق واق.. وإنما هم خارجون من أعماقنا التراثية الدفينة. إنهم نتاج تربية معينة، وفكر ديني مهيمن، وحاضنة اجتماعية ضخمة. لكن ليس عن كتبي وأفكاري سأتحدث لكم الآن وإنما عن آراء المثقفين الفرنسيين بخصوص ما حصل مؤخراً في مدينة الأنوار: باريس. فهذه المجزرة الوحشية التي ارتكبت في قلب عاصمة التنوير العالمي ستكون لها انعكاسات وآثار لا يعلم إلا الله مداها. وربما لن تقل خطورة عن ضربة 11 سبتمبر. إذا ما كبرت ما بتصغر! هذا هو فحوى الموضوع من أوله إلى آخره. وهذه هي فلسفة التاريخ التي انطلق منها لفهم ما يجري حاليا. لقد لخصتها بعبارة واحدة أو بكلمات معدودات. بل لن يقتصر حديثي على المجزرة، ولن يكون مجرد تحقيق صحفي سريع وإنما سيتعرض لمشكلة الأصولية الداعشية في جذورها العميقة. كيف يرى كبار مفكري فرنسا هذه الظاهرة؟ كيف يحللونها ويدرسونها بعد أن وصلت إلى عقر دارهم؟ سوف نفاجأ بأشياء كثيرة إذا ما اطلعنا على أفكارهم. وربما أزعجنا بعضها أو خدش حساسيتنا. وربما انتفضنا وثرنا أو استشطنا غضبا. وفي كل الأحوال فأنا أنقلها هنا لا على سبيل الإعجاب بها أو الموافقة عليها وإنما على طريقة: ناقل الكفر ليس بكافر! ذلك أنه ينبغي أن نعرف ما يقوله الآخرون عنا لكي نتصرف على هدي من أمرنا. هل تريدون أن ندفن رؤوسنا في الرمال كالنعامات؟ أطروحات خاطئة الفكرة الأولى آتية من جهة الفيلسوف ريمي براغ أستاذ فلسفة القرون الوسطى العربية واليهودية في جامعتي السوربون وميونيخ في آن معا. وهو صاحب كتب عديدة مشهورة وإن كان متهما من قبل العلمانيين بأنه أصولي كاثوليكي أكثر من اللزوم. ربما كان هذا الكلام مبالغة، إذ يزعم هذا الباحث المتعصب والمتطرف ما معناه: هل يمكن أن نجد أعمال عنف معينة لدى مؤسسي الأديان الكبرى؟ بصراحة يصعب علينا أن نجدها لدى بوذا أو المسيح. ولكن للأسف لا نستطيع أن نقول نفس الشيء عن نبي الإسلام. فالأحاديث النبوية وكتب السيرة القديمة لابن إسحاق وابن هشام تدل على أنه مارس العنف الديني أو أمر به. فقد أمر بقطع رؤوس عدة مئات من الأسرى. وأمر بتعذيب أمين الخزانة لقبيلة يهودية لكي يدله على مكان وجود الكنز المخبوء. كما وأمر باغتيال ثلاثة شعراء لأنهم استهزأوا به. نفتح هنا قوسا اعتراضيا ونقول بأن كعب ابن زهير نجا من الموت بأعجوبة بعد قصيدته الرائعة: بانت سعاد. لنستمع إلى هذه الأبيات الخالدة: نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله تأميل مهلا هداك الذي أعطاك نافلة ال قرآن فيها مواعيظ وتفصيل لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب وقد كثرت في الأقاويل. وهكذا نجا بجلده بعد توبته الرائعة وخلف لنا وراءه إحدى أعظم قصائد الشعر العربي.. ثم يقول لك ريمي براغ بعد كل ذلك بأن النبي الأكرم لا يعرف الصفح والرحمة. لماذا عفى عنه إذن؟ هل النبي داعش يا ريمي براغ؟ عيب وألف عيب! ومع ذلك فسنتابع مع هذا الباحث المتحامل على الإسلام ونعطيه حق الكلام مرة أخرى. وهنا نجده يصفعنا صفعا بالكلام التالي: ينبغي أن يعلم الجميع بأن العنف مسجل في أحشاء الإسلام وفي «جيناته» التكوينية الأولى! ثم يردف: بالطبع في عصر محمد لم تكن هناك صحافة ولا صحافيون. هذا شيء بديهي. ولكن كان هناك شعراء يقومون بنفس المهمة إما مدحا أو هجاء. وعندما ابتدأ النبي يبشر بالدعوة ويشرع ما هو مباح وما هو محظور الخ.. راح بعض هؤلاء الشعراء يستهزئون بكلامه. وهذا ما أزعجه كل الازعاج. فقد كان يغفر لمن قاتلوه بحد السيف، ولكن لم يكن يسمح إطلاقا بأن يشكك أحد برسالته النبوية. كان هذا أصعب عليه من القتل أو من تجرع السم الزعاف. وعندئذ سأل أصحابه: من سيتكفل بهم. فتبرع البعض وقتلوهم. قتلوا أولاً كعب بن الأشرف اليهودي، ثم العجوز أبو عفك، ثم الأم المرضعة عصماء بنت مروان. ويردف ريمي براغ قائلا: وقصة قتلهم ليست من اختراعي وإنما هي موجودة في أقدم كتب السيرة النبوية: أي سيرة ابن إسحاق. وقد قدم عنها عبد الرحمن بدوي ترجمة عسيرة ولكن كاملة. وقال النبي لمن قتلوهم: لم ترتكبوا أي إثم ولا أي جريمة بفعلتكم هذه. وذلك طبقا للآية التي تقول: فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم. (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (الأنفال، الآية رقم 17). ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني أن فعل العنف المعزو للنبي (ص) تحول إلى باراديغم أعظم. أقصد تحول إلى نموذج مثالي أعظم للعنف لكل العصور اللاحقة ولكل المسلمين. وبالتالي فلا فكاك منه. هذا ما يوحي به كلام ريمي براغ بدليل قوله بأن العنف مسجل في «جينات» الإسلام الأولى. وهذا يعني استحالة شفائنا نحن المسلمين منه. بل ويتوهم بعضهم بأن القرآن الكريم هو كتاب عنف من أوله إلى آخره! هذا ما يقوله فيلسوف آخر مشهور جدا هذه الأيام في الساحة الباريسية هو ميشيل أونفري. وقد كشف بذلك عن جهل كبير بكتاب الله. وفضح جهله عدة باحثين عرب في فرنسا كالدكتور علي بن مخلوف ومالك شبل وآخرين. وقالوا له: إنك تحكم على موضوع لا تعرفه جيدا ولا يدخل في دائرة اختصاصك. وأعتقد أنه أدرك غلطته والورطة التي وقع فيها. على أي حال من هنا خطورة الظاهرة الداعشية بحسب رؤية ريمي براغ وميشيل أونفري وآخرين كثيرين. فإذا كان النبي المؤسس قد ارتكب العنف اللاهوتي فهذا يعني أن أتباعه سوف يسيرون على سنته ونهجه إلى قيام الساعة. وهذا شيء مفزع جدا ومرعب. إنه يعني أننا مدانون بالعنف المقدس من الأزل والى الأبد. إنه يعني أننا لن نخرج من المغطس حتى بعد مليون سنة! غني عن القول أني أختلف كليا مع تحليلات البروفيسور ريمي براغ. ومع ذلك فقد أعطيته حق الكلام على سبيل الموضوعية واحترام الرأي والرأي المضاد. فهناك شكوك كثيرة حول مقتل عصماء بنت مروان. وهناك افتراءات كثيرة على الإسلام في الغرب. وبشكل عام هناك محاولات حثيثة لتشويه صورة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم. ولكن هيهات! فوالله لن يصلوا إلى كعبه ولا إلى ظفر من أظفاره. فقامته أكبر منهم بكثير. «وانك لعلى خلق عظيم» كما وصفه القرآن الكريم. ألم يقل لأهل مكة بعد أن انتصر عليهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء؟ وهي أشهر عبارة وأجمل عبارة في التاريخ العربي. والحق أنه لم يوجد شخص أشد رحمة منه وعطفا على الفقراء والمساكين وابن السبيل. ولكن منذ القرون الوسطى وهم يحاولون تشويه صورته بشتى السبل، ثم باءت محاولاتهم بالفشل الذريع. بالمقابل ينبغي الاعتراف بأن الكثيرين من فلاسفة الغرب وحكمائه أشادوا بعبقرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم واعتبروه أعظم شخص ظهر في التاريخ. ولذا أرفض رفضا قاطعا إقامة أي مطابقة أو حتى أدنى تشابه بين النبي الأكرم وجماعات العنف الحالية. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان ضد العنف المجاني أو العنف من أجل العنف. ولم يلجأ إلى حمل السلاح إلا مضطرا بدليل أنه تحمل المضايقات والأذى سنوات وسنوات. يضاف إلى ذلك أن النبي الأكرم أسس دينا عالميا أدى إلى تشكل حضارة عظيمة مترامية الأطراف. ولكن هؤلاء القتلة ماذا أسسوا من بن لادن والزرقاوي إلى البغدادي؟ لا شيء إلا العنف الدموي والإجرام. لا شيء إلا تشويه صورتنا في شتى أنحاء العالم. ويدعمني في هذا التوجه باحث فرنسي آخر هو البروفيسور أريك جوفروا أستاذ الفكر الإسلامي وبالأخص التصوف الإسلامي في جامعة ستراسبورغ بفرنسا. فهو يقول بالحرف العريض: «النبي (ص) ضد العنف ولا يدعو أصحابه إلى حمل السلاح إلا في الحالات القصوى ودفاعا عن النفس فقط». ولهذا السبب كرست لأفكار هذا الباحث الفرنسي المحترم دراسة كاملة بعنوان: هل محمد التاريخي هو ذاته محمد الأصولي؟ فهي أفضل رد على آراء ريمي براغ وأونفري وكل خصوم الإسلام في الغرب. ويمكن للقارئ أن يطلع عليها في الكتاب الجديد الذي سيصدر لاحقا عن دار الساقي والذي أشرت إليه في بداية هذا الحديث: العرب والبراكين التراثية. وهي براكين متفجرة من الأعماق، أو أعماق الأعماق، ولن تنضب عما قريب!.. تقويض الادعاءات إشادة عباقرة الغرب بالنبي (ص): نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: فولتير، وجورج برنارد شو، وتوماس كارليل، وغوته، وتولستوي، وفيكتور هيغو، ولامارتين، وفي عصرنا الحالي المستشرق الكبير مونتغمري واط وآخرين عديدين. نعم لقد أشاد فولتير في مراحل نضجه الفكري بالنبي وقال عنه بأن ديانته صارمة، طاهرة، إنسانية. يضاف إلى ذلك فضيلة التسامح مع الآخرين. وأما جورج برنارد شو في كتابه «الإسلام الأصيل أو الإسلام الأولي» فقال ما معناه: على الدوام كنت أكن احتراما بالغا للدين الذي دعا إليه محمد. لقد درست شخصية هذا الرجل الرائع وتمعنت فيها كثيرا. وفي رأيي - بعيدا عن أي دجل أو نفاق - ينبغي أن يُلقب محمد بمنقذ الإنسانية. وعلى عكس ما يشاع فدينه لم ينتشر بحد السيف وإنما بالإيمان العميق الصادق. أما المفكر الإنكليزي توماس كارليل فقال :بأن نبي الإسلام كان يتميز بالصدق والإخلاص والأمانة. ونضيف من عندنا: هل لولا ذلك كانوا سيلقبونه منذ بداية حياته بمحمد الأمين؟ سيماهم في وجوههم.. وهي شهادة تتطابق مع شهادة أخرى أهم للحاخام الأكبر لمدينة يثرب عبد الله بن سلول. لماذا؟ لسبب بسيط هو أنه شاهد النبي شخصيا ورآه بأم عينه. يقول ما معناه: حين بلغ محمد يثرب إبان الهجرة تجمهر الناس حوله من كل حدب وصوب، وكنت من بين الذين جاؤوا لاستقباله. وحين أبصرته وتأملت فيه وأصغيت لحديثه أدركت أن وجهه ليس وجه دجال وإنما وجه نبي حقيقي. تزداد هذه الشهادة أهمية إذا ما علمنا أن التراث الإسلامي يعتبر عبدالله بن سلول معاديا للإسلام. فكيف لو كان مواليا؟ وأما عن كبير أدباء ألمانيا ومفخرتها غوته فحدث ولا حرج! فقد كان إعجابه بنبي الإسلام والحضارة العربية والشعر العربي هائلا. ومعلوم أنه كتب أكثر من مرة تمجيدا بحضارتنا. انظر الديوان الشرقي. بل ولم يكن يعارض بأن يقال عنه بأنه مسلم! ألم يقل تلك العبارة الرائعة: إني أبجل تلك الليلة التي أنزل فيها الله القرآن كاملا على نبيه محمد؟ لقد أحب غوته التعاليم الإسلامية حبا جما: كالتسامح والتآخي والكرم والإيمان الحق بالمبادئ العليا السامية. ولا ننسى المستشرق الإنكليزي الشهير مونتغمري واط صاحب أكبر سيرة عن حياة النبي في لغة شكسبير: محمد في مكة، ومحمد في المدينة. فقد أفرد فصلا كاملا للتحدث عن عظمة النبي محمد وخصائله الشخصية. فهل لم يسمع البروفيسور ريمي براغ بكل ذلك يا ترى وهو الباحث المتبحر في العلم؟ إنه لشيء مؤسف أن يتبنى الأحكام المسبقة السائدة عن الإسلام منذ العصور الوسطى بل والحروب الصليبية.. عودة إلى المجزرة بعد أن موضعت الأمور ضمن إطارها التاريخي الواسع، بعد أن حفرت على أعماق الإشكالية وجذورها بكل صراحة ووضوح، أصبح بالإمكان أن نهتم بقضايا الساعة. وقضية القضايا الآن هي مجزرة باريس النكراء. فعاصمة الأنوار والجمال دنست من قبل برابرة الظلام والظلاميين في ليلة ليلاء: ليلة 13 نوفمبر السوداء. لقد هزت هذه المجزرة الكبرى الطبقة السياسية الفرنسية من أولها إلى آخرها، ومن يسارها إلى يمينها. وحتما لن تكون فرنسا بعدها كما كانت قبلها. فهل ستتعرض السياسة الفرنسية إلى انقلاب كامل؟ هل ستنعكس بنسبة مائة وثمانين درجة؟ من السابق لأوانه الجزم بذلك. ولكن هناك إشارات وإرهاصات بل وتصريحات تدل على هذا. فبعض الشخصيات الهامة أصبحت تدعو إلى اتخاذ مواقف حازمة من الدول التي تدعم داعش سرا أو علانية سواء بشكل حكومي أو عن طريق جمعيات «خيرية» وشخصيات فردية. والمقصود بداعش هنا ليس فقط داعش وإنما القاعدة أيضا وكل الجماعات التكفيرية المتشددة. وبشكل عام هناك إجماع لدى الطبقة السياسية الفرنسية على مكافحة تيارين أساسيين هما: التيار السلفي، وتيار الإخوان المسلمين. وبالتالي فكل دولة تدعم هذين التيارين سوف تقع في حرب مع فرنسا. بل ليس فقط مع فرنسا وإنما مع أميركا أيضا وكل دول الاتحاد الأوروبي. هذا ناهيك عن روسيا. هكذا نلاحظ أن معركة الشرق الأوسط الكبرى أصبحت تتبلور آفاقها وتتضح معالمها أكثر فأكثر. المعسكرات تنقسم بعد فترة غموض طويلة مترجرجة والمواقع تنفرز. فهناك المعسكر الذي يؤيد سرا أو علانية الحركات التكفيرية الجهادية ويسهل عبورها وتنقلاتها. بل ويدعمها بالسلاح والمال. وهناك المعسكر الذي يتصدى لها بكل ما أوتي من قوة. وحصيلة الصراع بين هذين المعسكرين سوف تحسم مصير سوريا والعراق والمنطقة العربية بأسرها. حتى إلى ما قبل التفجيرات الأخيرة كانت فرنسا أقرب إلى المعسكر الأول. وكان ذلك يثير استغراب ريجيس دوبريه واستهجانه الشديد من جملة آخرين عديدين. كانوا يصبون جام غضبهم على الديبلوماسية الفرنسية المتمثلة بالثنائي هولاند – فابيوس.وكانوا يقولون بأنهما يسيران عكس التيار: أي عكس تيار القيم التنويرية الفرنسية بتحالفهما مع دول المعسكر الأول الداعمة للإخوان والسلفيين. ولكن بعد هذه التفجيرات التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ فرنسا، فإن الرئيس ووزير خارجيته سوف يضطران إلى تغيير سياستهما جذريا. وربما غير الرئيس وزير خارجيته بعد شهر فقط أو شهرين. نداء.. ورد وجه رئيس الوزراء الديغولي السابق والشخصية الهامة في فرنسا حاليا آلان جوبيه نداء مهيبا إلى المسلمين الفرنسيين أو المتجنسين بالجنسية الفرنسية وعددهم لا يقل عن ثلاثة ملايين شخص. وهو نداء يمكن اعتباره موجها إلى عموم المسلمين أيضا. وقال لهم ما معناه: أعرف أنه لا يوجد عندكم «بابا» مثلنا نحن لكي أتوجه إليه بالنداء شخصيا. ولكن عندكم هيئات دينية وشخصيات روحية وأخلاقية عالية. وصوتها مسموع. وأنا أطالبهم بشيء واحد فقط: ليس إدانة الإرهاب فهذا شيء مفروغ منه وأعرف أنهم يدينونه. ولكن أن يقولوا بأن جماعة داعش الذين فجروا باريس بالأمس ليسوا مسلمين. أطالبهم بأن يتبرؤوا علنا من هذا التنظيم المجرم وأن يقولوا بأن الإسلام شيء/‏‏ والتعصب التكفيري القاتل شيء آخر. هذا كل ما أطالبهم به. ويمكن القول بأن الرد على آلان جوبيه جاء من جهتين مختلفتين: من جهة إمام مسجد بوردو الشيخ المستنير طارق أوبرو، ومن قبل المجلس العلمي الأعلى لفقهاء المملكة المغربية. فقد صرح الشيخ طارق قائلا: إن تفجيرات باريس مدانة ثلاث مرات: أخلاقيا، وشرعيا، ودينيا. قلت أخلاقيا لأنه لا يحق لأي شخص أن يقتل الأبرياء بشكل عشوائي في الشوارع كيفما اتفق. وقلت شرعيا لأن هذه الأعمال الوحشية لا تحترم قواعد الحرب التي نص عليها الفقه الإسلامي. وقلت دينيا لأن هؤلاء الانتحاريين القتلة يتوهمون بأنهم ذاهبون إلى الجنة في حين أنهم سيجدون أنفسهم في جهنم وبئس المصير. ثم ختم الشيخ طارق كلامه قائلا: على المسلمين أن يرفعوا صوتهم عاليا ويقولوا للتطرف والمتطرفين: كفى! كفى قتلا وإجراما باسم الإسلام! فهذا الدين الحنيف ليس لكم وهو بريء منكم. أما المجلس العلمي الأعلى المغربي الذي يترأسه الملك المستنير محمد السادس فقد أطلق فتوى لتحديد الجهاد. وقد استهلها بالآيتين الكريمتين التاليتين: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (البقرة، 190). ثم: (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميع) (المائدة، 32). وقال بأن جوهر الإسلام السلام وأن الجهاد ليس شرعيا إلا في الحالات القصوى للدفاع عن النفس وبعد استنفاد كل وسائل المفاوضات لحل النزاع سلميا. وأضاف: إعلان الجهاد من حق الإمام الأكبر فقط: أي ولي أمر المسلمين. وبالتالي فلا يحق لتنظيمات عشوائية كداعش وسواها أن تعلن الجهاد.وإذا ما أعلنته فهو ليس شرعياً ولا قيمة له. اعتراف جديد من أين جاءت داعش؟ من أين جاءت هذه الطامة الكبرى؟ جاءت من عصور الظلام والانحطاط الطويلة. فبعد انهيار الحضارة الإسلامية الكلاسيكية، وبعد أفول العصر الذهبي، وبعد إبادة المعتزلة وتكفير الفلسفة والفلاسفة، ظهرت داعش الأولى . وبالتالي فلا علاقة لها بفجر الإسلام ولا بشخص النبي عليه أفضل الصلاة والسلام ولا بالفتوحات الإسلامية التي كان مهندسها الأكبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه. بهذا المعنى فداعش هي أكبر عدو للإسلام. هل تريدون برهاناً على ذلك؟ إنه تصريحات جاكلين شابي الاختصاصية العريقة في الدراسات الإسلامية والبروفيسورة في السوربون وغير المعروفة بتحيزها الشديد للإسلام ونبيه. فهي تعترف بذلك. وقد فاجأني اعترافها وأثلج صدري عندما اطلعت عليه قبل يومين فقط. فهي تنقض الأطروحة الشائعة بأن الإسلام انتشر بحد السيف والعنف والقتل والدم وأن داعش ليست الا استمرارية لتاريخ الإسلام. وبالتالي فلا تؤاخذوها. هل يمكن أن تلوموها لأنها ظلت مخلصة لخط الإسلام ونبيه؟ كل هذا الكلام تدحضه جاكلين شابي وتشطب عليه بجرة قلم، وكنت أعتقد أنها ستؤيده. من هنا فرحي وانشراحي. وذلك لأني أعرف أنها من أكبر المطلعين على تاريخ الإسلام وكيف نشأ وانبثق وتطور. وبالتالي فشهادتها لا تقدر بثمن. وقد كانت أستاذتي يوماً ما في جامعة السوربون وأعترف لها بالجميل لأني تلقيت العلم التاريخي الرصين على يديها. منصفون أشاد كثيرون من مفكري الغرب، ومثقفين، وأعلامه الكبار، بالإسلام ورسالته، وبنبيه (ص)، ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر: فولتير، وجورج برنارد شو، وتوماس كارليل، وغوته، وتولستوي، وفيكتور هيغو، ولامارتين، وفي عصرنا الحالي المستشرق الكبير مونتغمري واط وآخرين عديدين. والمستشرق الإنجليزي الشهير مونتغمري واط. وخصوصاً كبير أدباء ألمانيا ومفخرتها غوته، في «الديوان الغربي - الشرقي» الذي نشره في شكله الأول في العام 1819، ثم أضاف إليه في الطبعة النهائية نحو أربعين قطعة جديدة، بين قصيدة ونص تفسيري، ما جعله في نهاية الأمر أشبه بموسوعة عن الفكر والشعر الشرقيين كما وصلا غوته في ذلك الحين المبكر من عمر الاستشراق ومن عمر الرومنطيقية، خصوصاً أن غوته أضاف الكثير من الملاحظات حول الكثير من الشعراء - ولا سيما الفرس - الذين كتب على غرارهم وشاء أن يجعل من كتابه كله تحية لهم. ولئن كان غوته قد أطلق العنان في القسم الأول لمخيلته الشعرية مستعيناً بكل ما لديه من ترسانة شعورية ومعرفية، ومن توق الى الغوص في عالم الشرق المدهش، فإنه في القسم الثاني ركز على معرفته الموسوعية في فقرات وأشعار وسرد لحوادث تاريخية وتعريف بالشعراء والمفكرين، بحيث إن هذا القسم من الكتاب جاء أشبه بسيرة ذاتية تسهب في وصف علاقة غوته بالإسلام وبالاستشراق وبالحياة الروحية في شكل عام.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©