تعيد اللغة، التي استخدمها مجلس النواب الليبي في دعوته إلى تدخل مصر لحماية الأمن القومي للبلدين، أجواء عصر التحرر الوطني في المنطقة والعالم. فقد دعا البرلمان الليبي مصر إلى التدخل عسكرياً إذا رأت أن هناك خطراً داهماً وشيكاً على أمن البلدين، في إطار تضافر الجهود بينهما لدحر المُحتل الغازي.
وكانت عبارات مثل دحر المُحتلين، ومواجهة الغزاة، وتحرير البلاد منهم، شائعة في الخطابات والأدبيات السياسية بين آخر الأربعينيات وبداية الستينيات في القرن الماضي، فيما عُرف بمرحلة تصفية الاستعمار. وكانت لمصر أدوار متفاوتة في دعم حركات التحرر الوطني في البلدان الخاضعة للاستعمار، وفي مقدمتها بلدان عربية كان من الطبيعي أن تحظى بأولوية في هذا الدعم.
ولعله من قبيل المصادفات التاريخية أن ليبيا كانت البلد العربي الأول الذي دعمته مصر لنيل استقلاله عقب الحرب العالمية الثانية، عندما أُتيحت الظروف لهذا الاستقلال. وكان دعماً دبلوماسياً بالأساس ذلك الذي قدمته مصر لأشقائها الليبيين، حين حاولت دول أوروبية مد أجل الاستعمار وإرجاء الاستقلال. فقد تبنّت إيطاليا، التي استعمرت ليبيا منذ عام 1911، بالتعاون مع بريطانيا في مارس 1949، مشروع بيفن-سيفوزا، الذي قام على أساس وضع ليبيا تحت وصاية دولية. وتضمن المشروع أن تكون هذه الوصاية بريطانية على طرابلس، وإيطالية على برقة، وفرنسية على فزان، وأن تستمر لمدة عشر سنوات.
وكان ممكناً تمديد هذه الوصاية في حالة إقرارها. لكن مصر دعمت جهود الليبيين في منظمة الأمم المتحدة الناشئة لتوها في ذلك الوقت، لإحباط مشروع إطالة أمد الاستعمار، الأمر الذي أدى إلى إسقاطه في الجمعية العامة. وأصدرت تلك الجمعية قراراً تاريخياً في نوفمبر 1949 بمنح ليبيا الاستقلال في موعد لا يتجاوز الأول من يناير 1952. وأصبحت ليبيا دولة مستقلة بالفعل في 24 ديسمبر 1951. ولم يكن متصوراً أن تتعرض لغزو واحتلال جديدين يجعلانها مهددة بالوقوع تحت نير الاستعمار مرة أخرى، رغم المحنة التي واجهتها منذ مطلع العقد الماضي. غير أن تركيا، التي أصبحت مصدراً أساسياً للتوتر والقلاقل في المنطقة في السنوات الأخيرة، أرادت استغلال محنة ليبيا لفرض الهيمنة عليها، في إطار مشروعها الإقليمي التوسعي، وطمعاً في مواردها الكبيرة، ومن أجل خلق موطئ قدم يتيح لها الحصول على حصة من آبار الغاز الواعدة في شرق البحر المتوسط.
ولذا، كان من الطبيعي أن تلجأ القوى الوطنية الليبية التي تخشى على بلدها وترفض إخضاعه لأي احتلال جديد، إلى مصر طلباً للدعم، وتفويضها للتدخل عسكرياً في حالة اقتحام ميليشيات موالية لتركيا مدينة سرت تحت ستار اتفاق غير مشروع عقده نظام رجب طيب أردوغان مع سلطة أمر واقع تسيطر على طرابلس ومناطق أخرى غرب البلاد، وتفتقد الشرعية والمشروعية.
ومن الطبيعي أن تستجيب مصر لطلب القوى الوطنية الليبية، وأن تبدي استعدادها التام لإنقاذ ليبيا من احتلال جديد يهددها بعد سبعة عقود على استقلالها، تأكيداً لإعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي في الشهر الماضي أن مدينتي سرت والجفرة خط أحمر، وتجديده الالتزام بهذا الموقف في لقائه مع شيوخ قبائل المناطق الليبية المختلفة في 16 يوليو الجاري.
ويُعيد هذا الموقف إلى الأذهان أجواء مرحلة تصفية الاستعمار، ودور مصر خلالها في دعم قوى التحرر العربية، وفي أفريقيا أيضاً. فما إن حصلت ليبيا على استقلالها في نهاية 1956، حتى تصاعدت حركات التحرر في منطقة المغرب العربي، وأسرعت مصر إلى دعم الشعب المغربي فور قيام سلطة الاحتلال بنفي الملك محمد الخامس إلى جزيرة «كورسيكا» في عام 1953، ثم توسيع نطاق هذا الدعم إلى الجزائر وتونس أيضاً، وتكوين «لجنة تحرير المغرب العربي» التي انبثقت عن مؤتمر دُعيت إليه الأحزاب المغاربية واستضافته جامعة الدول العربية في أبريل 1954.
وتنوعت أشكال الدعم المصري لحركات التحرر في هذه البلدان حسب ظروف حركات مقاومة الاحتلال فيها وحاجاتها، بين دعم عسكري عبر الإمداد بالسلاح، وتدريب مقاتلين، ودعم سياسي ودبلوماسي. وامتد هذا الدعم إلى حركات تحرر أفريقية في عدد كبير من بلدان القارة السمراء، إذ كانت القاهرة في تلك المرحلة المقر الرئيسي لمكاتب هذه الحركات في كينيا وأنجولا وموزمبيق وروديسيا (زيمبابوي الآن) والكاميرون وجنوب أفريقيا، وغيرها.