الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

ليبيا.. من شرعية الثورة إلى سيادة الدولة (1-3)

31 ديسمبر 2017 23:29
«من ليبيا يأتي الجديد»، كلمة قالها المؤرخ اليوناني القديم هيرودوت (حوالي 484 ق.م- 425 ق.م)، وكان يقصد بها، على الأرجح، ليبيا بمفهومها الواسع في ذلك الزمن، حيث كانت «ليبيا» اسماً على عموم منطقة شمال إفريقيا باستثناء مصر، أي المنطقة المغاربية الحالية، كلها تقريباً. ولعل ما سكت عنه «أبو التاريخ» هو طبيعة هذا «الجديد»، وأنه ليس بالضرورة أن يكون دائماً بشائر وأخباراً سارة، أي جديداً إيجابياً «براديغيمياً» بالمعنى السياسي أو القيمي، أو مندرجاً ضمن ما يمكن وصفه بـ«التاريخ الرتيب» و«الهادئ»، كما سماه الأنتروبولوجي الفرنسي الشهير كلود ليفي شتراوس في كتابه «المدارات الحزينة»، بل إن هذا «الجديد» قد يكون، أو هو بالفعل على الأقل في حالة تاريخ ليبيا السياسي الحديث والمعاصر، تاريخ محتدم مضطرم، صادم متلاطم، إلى أبعد الحدود، منذ ظهور هذا البلد إلى الوجود، مثلما كان أيضاً، في الغالب، على امتداد معظم تاريخه القديم والجديد. وهو ما ظل يطرح على الدوام سؤال الأسئلة على الليبيين حول اتجاه بوصلة المسير والمصير بالنسبة لهذه البلاد، في صور ثنائيات إشكالية عنيدة وحزمة استعصاءات قديمة- جديدة، لعل أبسطها تحديد ملامح الذات والهوية الجامعة المانعة، وتجاوز وعلاقة السواحل والدواخل، وردم الفجوة -وأحياناً الجفوة- بين البدو والحضر، وتسيير وتدبير إكراهات جدل الاجتماع والسياسة، ورسم حدود الفصل والوصل بين الأنا بالآخر! وفي الأزمنة المعاصرة دخلت على الخط، تالياً، ثنائيات أخرى، أيضاً، أشد وأعْقد على الحسم كجدل القبيلة والاجتماع السياسي، والتنافس على الموارد في الفضاء العام، وشرعية الثورة وسيادة الدولة، وكيفية تفكيك المتخيَّل الذهني للقبيلة والغنيمة، والتجاوز الممكن للمتن الإيديولوجي للعصبية والدعوة ضد سيادة -وسعادة- الدولة.. الخ، مما سنتبسَّّّط في الحديث عنه، في سياقات لاحقة، من هذا الملف الصحفي الموسع والقراءة السياسية التحليلية في المشهد الليبي، بين الماضي والحاضر وصولاً للوقوف أخيراً على عتبة المستقبل لاستشراف عنوان المرحلة المقبلة، وخاصة أن الليبيين يستعدُّون الآن، بفارغ الصبر، للاستحقاق الانتخابي، الرئاسي والتشريعي، المتوقع في شهر مارس 2018 المقبل. ولاشك أن شدة اضطراب واضطرام المشهد الآن، وقد تعقّد طيلة السنوات السبع الماضية، إلى حد أدى لظهور ثلاث حكومات تتصارع تحت سقف شرعية واحدة، وعدد لا حصر له من المليشيات المسلحة المتحاربة، هي على الأقل مما لا يسهل مهمة أية قراءة سياسية تقليدية وفق معهود أساليب التحليل السياسي لمثل هذا المشهد، ويجعل الحاجة أيضاً إلى مقاربة جديدة، وقراءة ذكية، غير تقليدية، لمفارقات الواقع المرتبك القائم، والخلفيات التي أدت إليه، ضرورة تحليلية إجرائية، قبل أن تكون خياراً شخصياً، أو نوعاً من الترف النظري أو التبسُّط في القول وقد انفتح المجال على مصراعيه لكل مقال. وحين نقول إن القراءة المطلوبة ينبغي أن تكون «ذكية»، فليس القصد بذلك طبعاً إصدار حكم قيمة عليها، يحتمل المدح أو القدح، الثناء أو الهجاء، وإنما المقصود بالذكاء هنا دلالته المعجمية فقط كنقيض للغباء. ولعل من أشهر التعريفات الكلاسيكية المعروفة للغباء ذلك القائل إن: «الغباء هو أن تفعل الشيء نفسه، وبذات الطريقة، وفِي نفس الظروف، ثم تتوقع نتائج مختلفة»! ولعل هذا كان أحد أكبر -وربما أخطر- أسباب فشل القراءات السياسية، بما فيها من مبادرات رسمية ومقاربات بحثية، للمشهد الليبي، خلال السنوات السبع الماضية. وهو إخفاق مزمن وعجز إدراكي مستشرٍ ستحقق القراءة التالية أحد أهم أهدافها إن عرفت كيف تأخذ منه مسافة أمان مناسبة. التحليل السياسي و«لاهوت» الثورة ولتجاوز العجز الإدراكي في الوقوف على العتبة الإشكالية للمشهد الليبي الراهن لابد للتحليل السياسي من استشارة الإطار النظري الكلاسيكي لنظريات التغير والتغيير السياسي، باعتبار ذلك مدخلاً ضرورياً من المداخل المفسرة لظاهرة الثورة، إن اعتبرنا أن ما جرى في ليبيا في عام 2011 كان ثورة بالمعنى الفني للكلمة، بالمفهومين السياسي والسوسيولوجي. ونحن نستخدم هنا عبارة «ثورة» استخداماً إجرائياً فقط، وليس اعتباطاً أو إسقاطاً لمعنى سياسي وثوقي دوغمائي على دلالة الكلمة نفسها. وفي بعض الأحيان قد نستخدم هذا اللفظ على السجية، حياداً أو استطراداً، دون تقصّد معناه السياسي وتكثيفه الرمزي، وفي الذهن، كما يقال، أنه لا مشاحّة في الاصطلاح، على كل حال. وما نستصحبه هنا، تحديداً، كفرضية عمل هو أن العجز الإدراكي عن فهم خلفيات وأبعاد ومفردات المشهد الليبي الراهن كان أحد أكبر وأخطر أسباب الفشل المحلي والإقليمي والدولي في ترويض جموح هذا المشهد، وخروجه عن السيطرة خلال السنوات الأخيرة الماضية. ولكي نفهمه ربما يتعين أن نتحول، فيما يلي، لاستشارة بعض ما يقوله علماء السياسة وعلم الاجتماع السياسي، والدراسات الإنسانية ذات الصِّلة عموماً، كمداخل مفسرة لظاهرة «الثورة» ضمن ما يمكن تسميته هنا -بقليل من التجاوز- ب«لاهوت الثورة» ونعني به مدارس ووُثوقيات تفسير هذه الظاهرة، ولا نقصد طبعاً مفهوم «لاهوت التحرير والثورة» كما عُرف لدى اليسار اللاتيني حين خلط بين الدوغمائية الدينية الخلاصية والبارديغيمية الإيديولوجية التقدمية الرسولية المفرِطة في الراديكالية والأصولية. ونستدعي هنا، باختصار، شذرات من هذه النظريات، على وجه التمثيل لا التمثُّل، والاستطراد لا التبني، لعل ذلك يكون مفيداً، كإطار نظري وعملي في الوقت نفسه، نستصحبه في الذهن -عرَضاً- لفهم ظاهرة الثورة، كحالة سياسية عامة، والثورة الليبية في بعض ما تنفرد به من محددات مميزة بصفة خاصة. والمداخل المفسرة لظاهرة الثورة كثيرة في نظريات السياسة وعلم الاجتماع السياسي، وسنسوق هنا، بشكل خاطف، توخياً للإيجاز وتوقياً للإطناب والاستطراد، بعض القصاصات والخلاصات الكلاسيكية في هذا المقام. ولعل من أشهر النظريات المفسرة لظاهرة الثورة، في السياق التاريخي والسياسي العربي، نظرية العلامة عبد الرحمن بن خلدون، صاحب كتاب «المقدمة»، الذي قدم نظرية متماسكة تقول إن الثورة من حيث هي تغيير سياسي مستهدف ظاهرة حتمية تاريخياً، متى ما توافرت شروطها -والشرط بوجوده الوجود وبعدمه العدم كما يقول أهل المنطق- حيث إن عمر كل دولة، كما يرى الولي ابن خلدون، يمتد لأربعة أجيال على الأكثر، أي ما بين 100 و120 عاماً تقريباً. فتمر الدول بمراحل النشأة والانتصار، والنضج والاستقرار والازدهار، ثم الشيخوخة والاضمحلال والانهيار، لتظهر عصبية أخرى جديدة ودولة بديلة، وهكذا دواليك، ضمن دوامات تاريخ دائري يعود من حيث بدأ في كل مرة، وفق أطوار تشبه عمر الكائن الحي. والدول، في رأيه، لا تقوم إلا على أحد أساسين هما ظهور عصبية غالبة، أو دعوة جديدة تلتف حولها عصبية صاعدة قوية. وسنرى في مواقع لاحقة من هذا الملف السياسي أن استشارة النظرية الخلدونية تبدو أحياناً مفيدة في فك شيفرة بعض استعصاءات قراءة المشهد الليبي الراهن. أما في الفكر السياسي الغربي فقد ظهر أيضاً عدد لا حصر له من النظريات والمداخل المفسرة لظاهرة الثورة، وخاصة منذ عهد الأنوار والثورات الفرنسية والأميركية والروسية. وقد ركز بعض هذا المداخل النظرية على تحليل ما يمكن تسميته بالتاريخ الطبيعي الجينيالوجي للثورات الحديثة كما هي حال نظرية جورج بيتي وكرين برينتون. أو على تحليل الجوانب السياسية في جوانبها النفسية الاجتماعية، ومن أشهر من اشتغل على هذا الجانب فرانسوا لوبون في دراساته عن علم نفس الشعوب. وليس خلواً من المعنى هنا في المقاربة النفسية لظاهرة الثورة أن هنالك من أصحاب التحليل النفسي من يرى أن الثورة تعبير عن سيكولوجية الحشد، وأنها في بعض أوجهها الفوضوية تمثل نوعاً من همجية الارتداد إلى العقلية البدائية التي يمكن ملاحظة أعراضها لدى الإنسان في حالات الانهيار العصبي. وقد لقي التفسير النفسي لظاهرة الثورة نقداً واسعاً على أيدي أصحاب نظرية تعبئة الموارد وأشهرهم زالد ومكارثي اللذين يريان استحالة جعل الظواهر الاجتماعية موضوعاً للسيكولوجيا أصلاً. وهنالك أيضاً التفسير الوثوقي التقدمي الذي يرى أن الثورة حتمية سياسية وتاريخية ومن أشهر أصحاب هذه الرؤية الماركسيون، بشتى فروعهم ومدارسهم. وكذلك ترى النظرية البنائية عند عالم الاجتماع الأميركي الشهير تالكوت بارسونز، أن الثورة حالة انحراف مرَضي تؤدي إلى خلخلة التوازن في بناء السلطة. في حين يرى روبرت ميرتون أن «الاختلالات الوظيفية يمكن أن تفضي إلى حالة من عدم الاستقرار، وأن التمرد هو استجابة لهذه الحالة». ويعرّف كرين برينتون الثورة في كتابه «تشريح الثورة» بقوله «إنها عملية حركية دينامية تتميز بالانتقال من بنيان اجتماعي إلى بنيان اجتماعي آخر». وهنالك أيضاً النظرية الفوضوية في تفسير الثورة، وأشهر منظريها برودون وباخونين، ومؤداها أن كل ثورة تحاول «تحقيق العدالة بواسطة القوة، وتنتهي في معظم الحالات إلى أن يحل استبداد محل آخر، لا أكثر». ولذلك دعت النظرية الفوضوية لتجاوز كل أطر السلطة والمجتمع والعودة إلى ما يشبه الحياة الطبيعية دون ضوابط أو روابط أو وسائط سيطرة سياسية. والمداخل النظرية والمدارس السياسية والاجتماعية كثيرة جداً في هذا المقام، ومنها من ينظر إلى الثورات في عموميتها ومن ينظر إليها في تفاصيلها، من يستخدم منظار الماكرو الكبير فينظر للغابة ككل، ومن يستصحب منظار الميكرو الصغير فيركز النظر على الشجرة الواحدة داخل الغابة. وباختصار، وحتى لا يأخذنا الكلام، ويذهب بنا مذاهبه، يمكن القول إن هذه النظريات تقدم تفسيرات، محتملة، لظواهر التغير السياسي والاجتماعي، ودوافع حدوثها، وتصف أعراض «الفوضى الاجتماعية» -وهذه ظاهرة اجتماعية وسياسية لها هي أيضاً مدونتها النظرية- وما تتكشف عنه هذه الفوضى من انعكاسات على بنيات وعلاقات ومؤسسات الاجتماع السياسي. وفي المجمل، تكاد هذه النظريات تجمع على الطابع الفوضوي، والمدمر أحياناً، لظاهرة الثورة. ومع أن كارل مانهايم يرى أن «الثورة عمل قصدي وإن كانت بعض عوامل هذا العمل الاجتماعي لاشعورية»، إلا أن ثمة أيضاً من الثورات ما يمكن أن ينشأ أصلاً عن تزييف قصدي للوعي وتوظيف كيدي للاعتراضات والاستياءات السياسية، لأنه يمكن خلقها والتلاعب بها -هل أقول من خلال تحريض الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك والتويتر- دون وجود دواعٍ سياسية أو موضوعية لقيام الثورة أصلاً، أو مع وجودها ولكن لتحقيق أجندة خاصة بجماعة أو شريحة أو حزب، على حساب بقية مكونات الاجتماع والمشهد السياسي العام. وبعبارة أخرى، فإن بعض الثورات يمكن أن تكون مدخولة بأحصنة «طروادة سياسية» أو حزبية، تركب الموجة، وتزيف الوعي، وتوظف وتجيّر أهداف الثورة، القائمة والعادلة فعلاً، لتحقيق غايات غير ثورية، فيستبدل استبداد بآخر ونظام سيئ بآخر أسوأ منه بكثير. ولعل من أكثر ما يلفت الانتباه في السياق النظري لما يمكن تسميته بلاهوت «علم الثورة» تلك النظريات المتعلقة بتحقيب مراحل الثورة نفسها، وخاصة أن كثيراً مما قيل لتبرير المآل الفاجع لثورات «الربيع العربي»، يستند على دفوع مزعومة -أو موهومة- بأن هذه الفوضى هي مجرد مرحلة انتقالية «ثورية» مؤقتة ومحتومة، تمر بها كل الثورات! وفي هذا المقام يقول عالما الاجتماع داوسون وغيتز إن أية ثورة تمر بأربع مراحل تبدأ بالقلق والاضطراب الاجتماعي وعدم الاستقرار، ثم مرحلة الهياج الجمعي، فالمرحلة الشكلية وأخيراً المرحلة المؤسسة. هذا في حين يرى آخرون، بحسب شعبان الطاهر الأسود في كتابه «علم الاجتماع السياسي، قضايا العنف السياسي والثورة» أن أية ثورة تمر بخمس مراحل هي: «المرحلة الأولى: وتتميز بالآمال الطوباوية، وفيها يلتف الثوريون خلف الشعارات والآمال العريضة، وهذه المرحلة لا تدوم طويلاً. والمرحلة الثانية: هي مرحلة انقسام النخب الثورية إلى معتدلين ومتطرفين، وغالباً ما تنتهي هذه المرحلة بهزيمة المعتدلين، وتركُّز السلطة في أيدي المتطرفين أو المحافظين، وقد يُستخدم العنف في هذا الصراع البيني. والمرحلة الثالثة: بعد سيطرة قيادة موحدة على الثورة، تسعى لتحقيق الأهداف الثورية بأي ثمن. والمرحلة الرابعة: تخف فيها حدة المطالب والشعارات الثورية، وتتراجع الحماسة، وعادة ما يتولى الحكم فيها رجل قوي يحمل صدى الثورة. وتعتبر مرحلة حكمه هي المرحلة الخامسة» ص 78. وإن أردنا إسقاط بعض قصاصات وخلاصات هذه المراحل والمداخل النظرية على الثورة الليبية، واعتبرنا أن الأمور بخواتيمها، وحكمنا على المشهد اليوم، فسنجد أن ما تأدّت إليه الثورة من فوضى سياسية وعنف طليق خلال السنوات السبع الماضية جعل هذه الثورة تهدد في العمق الأساس الوجودي الناظم للدولة، وهو ما أثار، مرة أخرى إشكالات أصول وفصول، وخلفيات ومآلات، مسألة الوحدة والتعددية في الدولة الليبية نفسها، وكيفية الخروج الآمن من فوضى الثورة إلى سيادة الدولة الوطنية المخولة وحدها احتكار القوة والثروة والسلطة والسلاح في النظام السياسي الدولي الحديث والمعاصر، كما هو معروف منذ اتفاقية ويستفاليا سنة 1648. ليبيا بين التعددية والوحدة تتكون ليبيا سياسياً، وتاريخياً، من ثلاثة أقاليم هي طرابلس في الغرب وبرقة في الشرق وفزان في الجنوب، ومع الوحدة الثقافية والاجتماعية للنسيج الديموغرافي لهذا الفضاء الجغرافي، فقد ظلت لكل واحد من هذه الأقاليم الثلاثة خصوصيات ومسارات تاريخية وسياسية واجتماعية خاصة، قد يزيد الشعور بها أو يقل، بحسب ما يكون عليه الحال في الداخل والخارج، طيلة القرون الماضية. كما ظل جدل المركز والأطراف، المعتاد في تاريخ كثير من الدول الوطنية المركزية، يأخذ أيضاً، على مر التاريخ، أشكالاً ذات خصوصية ليبية مختلفة. ومرونة أو ليونة مركزية المركز في الحالة الليبية كانت دائماً عامل تنافس وتجاذب مع الأطراف، وأحياناً أيضاً بين هذه الأطراف نفسها مع بعضها بعضاً. ولذلك عند قيام الدولة الوطنية الليبية الحديثة مع الإعلان عن استقلال البلاد تحت قيادة الملك محمد إدريس السنوسي، في 24 ديسمبر 1951م، استدعت إشكالية المركز نفسها بسرعة في لحظة التأسيس، فتقرر أن تكون عاصمة للدولة مدينتا طرابلس وبنغازي معاً حتى عام 1963، ثم مدينة البيضاء ببرقة من 1963 حتى 1969، وحين بدأ عهد معمر القذافي جعل طرابلس عاصمة، ثم اتخذ مدينته سرت عاصمة إدارية، بحكم الأمر الواقع، في آخر عهده. وفي لحظة التأسيس، تحت ضغوط أسئلة التعددية والوحدة، سميت ليبيا في البداية باسم «المملكة الليبية المتحدة» حتى 26 أبريل 1963 حين عُدل الاسم إلى «المملكة الليبية» فقط، وذلك بعد إلغاء النظام الاتحادي التعددي الفيدرالي، بين الولايات الليبية الثلاث: طرابلس وبرقة وفزان، لتصبح للدولة سلطة مركزية جامعة. وقد سهل مهمة الملك إدريس في تحقيق وحدة اندماجية بين الأقاليم التي كان لكل منها كيانه، وأحياناً عَلمه، وحالته السياسية الخاصة، كون العاهل السنوسي يكتسي شرعية تاريخية، دينية ونضالية، وأيضاً عدم انتمائه شخصياً بالنسب إلى أي من القبائل الليبية الكبرى المتصارعة على الزعامة، فهو من أسرة شريفة تعود أصولها إلى منطقة مستغانم في غرب الجزائر، وقد استقر جده في شرق ليبيا كشيخ للطريقة الصوفية السنوسية في مطلع الأربعينيات من القرن التاسع عشر، ثم تقلد الإمارة فيما بعد. وقبل ذلك تمكن عمه المجاهد أحمد الشريف السنوسي من توحيد قبائل ليبيا المتصارعة لمقاومة الاستعمار. ومثله تمكن أيضاً المجاهد عمر بن المختار المنفّي (عمر المختار) من توحيد القبائل في حركة الجهاد الليبي الكبرى من خلال تفعيل نظام «الصفوف»، وهي تحالفات قبلية تاريخية متوارثة بين بعض القبائل الليبية، ولم يكن عمر المختار ليتمكن من ذلك لولا انتمائه إلى الزاوية السنوسية هو أيضاً وانتسابه لقبيلة «المنفَّه» المرابطية محدودة العدد -نسبياً- في شرق ليبيا، وهو ما لا يثير عادة حساسيات القبائل الكبيرة على الزعامة، حيث إن قبيلته لا تشكل خصماً تقليدياً لدوداً في الزعامة بالنسبة لأي منها. من الدولة إلى «الثورة» وما إن بدأت دعائم الدولة الليبية المركزية تترسخ، في عهد الملك إدريس، برمزيته الدينية وشرعيته السياسية التاريخية المستمدة من سابقة الدعوة والمقاومة السنوسية في عهد الاستعمار الإيطالي، حتى جاءت ثورة/ انقلاب 1 سبتمبر 1969 بقيادة الملازم معمر القذافي (الذي منح نفسه منذ ذلك اليوم رتبة «عقيد» مدى الحياة)، ضمن موجة الانقلابات العسكرية العربية في فترات الغليان والمد القومي الثوري، وأعلن عن إلغاء النظام الملكي وقيام الجمهورية الليبية بزعامة عسكرية كانت تسمى «مجلس قيادة الثورة» وحكومة منبثقة عنها. وبعد صراعات خطيرة وتصفيات مريرة بين أعضاء المجلس العسكري «الضباط الأحرار» تمكن القذافي من الاستفراد بالموقف، فقرر إلغاء النظام الجمهوري وإلغاء الحكم والدولة التقليدية من الأساس، وأعلن عن قيام «سلطة الشعب» في 2 مارس 1977 وتحويل ليبيا إلى «جماهيرية»، يحكم فيها الشعب نفسه بنفسه، من خلال المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية. ومنذ ذلك التاريخ صار الكتاب الأخضر -الذي قيل إن معمر القذافي هو من ألفه، مع أن هناك رواية شعبية يصعب التثبت منها، وإن كانت رائجة، تفيد بأن مؤلفه الحقيقي كاتب يساري مغمور- هو السرد السياسي والمتن الرسمي ومرجعية الكلمة في كل صور التسيير والتدبير للشأن العام بما فيه طبيعة اشتغال آليات ومفردات المشهد السياسي. ومنذ ذلك التاريخ دخلت ليبيا منعرجاً سياسياً دام لمدة الـ34 سنة الأخيرة من حكم القذافي، سارت فيه بوصفة مضمونة لانحلال دور وحضور مؤسسات الدولة المركزية في الفضاء العام. فعلى رغم أن القذافي نفسه أعلن في ذلك اليوم تخليه عن السلطة وتسليمها للشعب، فقد صارت صفته الرسمية هي «قائد الثورة» ومهمته المعلنة هي «التوجيه والتحريض الثوري للشعب على ممارسة السلطة». ومع ذلك اعتبرت سلطة «قائد الثورة» سلطة أعلى من الحكومة والمؤتمرات الشعبية، وذلك تأسيساً على مبدأ الشرعية الثورية التي يتمتع بها. وأما تدبير الشأن العام فكان المعلن أنه منوط بالمؤتمرات الشعبية، حيث تم تقسيم البلاد إلى مربعات سكانية، في كل مربع مؤتمر شعبي أساسي يضم جميع سكانه البالغين، وتجتمع كل هذه المؤتمرات في دورات انعقاد محددة خلال السنة، وتطرح عليها قضايا الشأن العام في جميع القطاعات، وتصدر بشأنها قرارات (وكان القذافي يشبّه هذه النظام السياسي بنظام الكانتونات والديمقراطية المباشرة المتبع في سويسرا). وتدير كل دائرة حكومية لجنة شعبية. فيما تتولى مهمة الوزارة أمانة شعبية عامة نوعية يرأسها أمين لجنة شعبية عامة (وزير). ويرأس الحكومة كلها أمين اللجنة الشعبية العامة «رئيس وزراء». وكان هنالك أيضاً جسم تشريعي يدعى «مؤتمر الشعب العام»، لا يحمل رسمياً صفة برلمان وإن كان يؤدي مهامه بصفة حرْفية. وطيلة هذه العقود الثلاثة سارت الدولة المركزية الليبية من مستوى التهميش إلى مستوى التهشيم والإلغاء، في الواقع. بل إن القذافي حاول عدة مرات إلغاءها فعلاً كدولة وطنية بسعيه الحثيث للبحث عن وحدة عربية مع تونس، أو مصر، أو السودان، أو سوريا، أو المغرب، وفي الأخير يمّم وجهه باتجاه الاندماج في الفضاء الإفريقي، وإعلان نفسه «ملك ملوك إفريقيا»، استعداداً للوحدة الاندماجية الإفريقية، وصولاً لإلغاء الدولة الوطنية الليبية. كما عرفت هذه العقود أيضاً تهميشاً أمرّ وأدهى لاختصاصات الدولة، وتجريفاً وتجفيفاً لمقومات الحياة السياسية، فقد نص «الكتاب الأخضر»، الذي كان بمثابة دستور للبلاد، أن الشعب يمثل نفسه بنفسه فـ«التمثيل النيابي تمثيل غيابي» و«لا ديمقراطية بدون مؤتمرات شعبية» و«التمثيل تدجيل»، وبالتالي فلا مجال لتشكيل برلمان، ولا أحزاب سياسية لأن الحزبية -بحسب الكتاب الأخصر دائماً- إجهاض للديمقراطية. وكان «الحزب» الحاكم الوحيد في عهد القذافي هو منظمة «اللجان الثورية» وهي تشكيل حزبي ذو طابع أمني مهمته المعلنة هي «الدفاع عن سلطة الجماهير»، والحقيقية هي حماية النظام والتنكيل بأية معارضة سياسية. وقد نصت مقولات»الكتاب الأخضر«أيضاً على أنه يجب أن تكون «اللجان في كل مكان»، فـ«لا ثوري خارج اللجان الثورية»، وهي مقولة من «الفقه الثوري» مؤسِّسة للأحادية الحزبية! على أن سلطة الشعب و«اللجان» بكل أنواعها كانت مجرد واجهات فضفاضة تتصارع تحتها، أحياناً، الحساسيات والتنافسات بين كبريات القبائل الليبية، حيث أعيد تدوير المنظومة القديمة ما قبل الدولة، ومع مرور الوقت أخذت القبيلة مكانها، وخاصة بعدما تمت تصفية بنيات ومؤسسات الدولة التقليدية. وفي سياق عملية الإحلال هذه، استدعى الواقع الجديد كثيراً من متلازمات ثقافة القبيلة، وكانت «الغنيمة»، ممثلة في عائد موارد النفط ومصادر السلطة والثروة العامة، مصدراً للتنافس والتنابذ -وأحياناً التنابز- في الفضاء العام بين العصبيات الغالبة، في حدود المتاح من متنفّسات التعبير ضمن قوالب النظام الجماهيري. وفي هذا المعنى جرت تصفيات واسعة لكل معارضي النظام في سياقات سياسية- قبلية، مختلطة- متجلطة، طيلة العقود الأربعة من حكم القذافي. ولعل من أشهر تلك التصفيات والإبادات التي ولّدت شروخاً غائرة وضغائن مستحكمة في النسيج السكاني الليبي تصفيات 7 أبريل 1976 التي مثلت عملياً بداية انطلاق عهد تغول الديكتاتورية في ليبيا. وكان خطاب «النقاط الخمس» بمدينة زوارة، الذي أعلن فيه القذافي عن نيته تصفية أية معارضة وتجريف المشهد السياسي، قد مهد لذلك نظرياً في سنة 1973. ومن هذه التصفيات والإبادات، التي ولدت مع مرور الوقت ذاكرة سياسية جريحة، ظلت تلقي بظلالها على المشهد وتقرب لحظة انطلاق العد العكسي للثورة على نظام القذافي، تصفيات ما بعد «هجوم باب العزيزية» 1984، الذي نفذه عناصر من «الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا» المعارضة في الخارج بزعامة محمد المقريف، حيث جرت تصفيات لمعارضين، وأذيع إعدام بعضهم في التلفزيون الرسمي بعد الإفطار في شهر رمضان المبارك. ثم تلت ذلك التصفيات ضد قبيلة وَرْفَلّة التي عُرفت بأحداث بني وليد 1993. ثم كانت الإبادة الأخطر في عهد القذافي هي مجزرة سجن أبوسليم في طرابلس، في 29 يونيو 1996، التي قتل فيها بالذخيرة الحية في مساء يوم واحد 1269 شخصاً من المعارضين السياسيين إثر ما قال النظام أنه تمرد وقع في ذلك السجن. وهذه المجازر الأربع، التي نذكرها هنا على سبيل المثال لا الحصر، استهدف بعضها المعارضين من جماعات الإسلام السياسي والمنظمات المتطرفة المسلحة المصنفة دولياً كتنظيمات إرهابية مثل «الجماعة الليبية المقاتلة» وتنظيم «الإخوان المسلمين» وعناصر من الحركات «السلفية الجهادية» المختلفة. وشملت أيضاً ضحايا استهداف آخرين من المعارضين القوميين واليساريين، وإن في سياق ونطاق أضيق. وكانت من ضمن خلفياتها أيضاً حسابات وحساسيات قبلية حيث إن الأغلبية الساحقة من ضحاياها هم من قبائل إقليم برقة في الشرق الليبي، التي ظلت على الدوام على خصومة مع نظام القذافي، وهي المعروفة بروابط ولائها التاريخية التقليدية للأسرة السنوسية. كما أن مناطق الشرق الليبي ظلت أيضاً ضمن الجهات الأقل حظاً وحظوة في عائدات النفط، طيلة عهد القذافي، وهي ترى أن منطقة الهلال النفطي تتبع إقليم برقة، وأنها بالتالي هي الأولى أصلاً بعائدات هذا النفط. وبعبارة أخرى فقد أخفى الصراع بين القذافي وجماعات الإسلام السياسي، طيلة عقود، صراعاً آخر قد يكون أكثر حدة وشدة بين قبائل شرق ليبيا ونظام القذافي، وقد مثل هذا بإحدى أكثر الصور وضوحاً لحظة مواجهة معلنة بين القبيلة والدولة، أو بكلمة أدق بين القبيلة في صورتها التقليدية وبين القبيلة- الدولة الحاكمة في عهد القذافي. وعلى خلفية فائض الفشل التنموي والسياسي وشدة الاحتقان القبلي والاجتماعي، لم يشكل اندلاع ثورات ما سمي «الربيع العربي» بالنسبة للحالة الليبية سوى شرارة إشعال لفتيل انفجار جاهز سلفاً منذ زمن بعيد، في بلد متعب ومثقل بأعباء الذاكرة الجريحة، ولهذا فقد كان الانفجار سريعاً جداً ومدوياً ومدمراً إلى أبعد الحدود. وقد كان أيضاً للنظام الاشتراكي في تسيير وتدبير أمور الاقتصاد دور كبير في إخفاق نظام القذافي في الاستجابة لتطلعات الشرائح الشابة من الليبيين، التي قادت في النهاية الثورة ضده. وقد تأخر نظام القذافي كثيراً عن فهم حجم التحولات الاقتصادية المتسارعة في العالم فظل مراوحاً في نظام اقتصادي اشتراكي مركزي موجّه، يستند على الفلاحة واقتصادات المصانع ذات المداخن، وهو ما تعبر عنه مقولة اقتصادية، قد لا تخلو من تسلية، اتخذت شعاراً إنتاجياً في زمن القذافي، تقول إن «الدجاجة تبيض والدينار لا يبيض»! بمعنى أن الإنتاج الفلاحي والاقتصاد الحقيقي التقليدي هو كل شيء، في حين أن الاقتصاد الرمزي والرقمي واقتصاد الخدمات لا قيمة لهما. وبهذه الطريقة لم يستشعر نظام القذافي خطورة التأخر عن طفرة التقدم في مجالات اقتصادات المصانع ما بعد المداخن، واقتصادات أنماط الإنتاج فائقة التقنية والرقمية. كما فرض الحصار الدولي والخصومة مع الغرب أيضاً نوعاً من اقتصاد الكفاف الريعي، بالحد الأدنى، وحرم الليبيين من مباهج اقتصادات الوفرة والرفاه والترفيه والانفتاح، ما جعل الأجيال الشابة أكثر تعلقاً بالنماذج الخارجية الغربية ذات القوة الناعمة الجذابة، تماماً كما وقع لقطاعات واسعة من شعوب دول المعسكر الاشتراكي السابق، مما أدى في النهاية إلى الانحسار والانهيار، في كلتا الحالتين. ولذا، وبالنظر إلى كل هذه العوامل والتراكمات، فربما كان اندلاع الثورة الليبية يوم 17 فبراير 2011 هو أقل ثورات ما سمي «الربيع العربي» مفاجأة، حيث إن كل ما كان متوقعاً جرى بحذافيره دفعة واحدة، وذلك لطول تفاعل كل مؤجّجات ومهيّجات كيمياء الصراع والنزاع الداخلي، وأيضاً لخصوصية مفارقات تفاعل التاريخ والسياسة، في الذاكرة والمخيال ومفردات الواقع الليبي، وأحياناً أيضاً وفق منطق الحظوظ السود والبوارح وسوء الطوالع وحتى الأساطير. وفي السياسة تكون للحقيقة والأسطورة أحياناً نفس القيمة، طالما كان الناس يصدقون أياً منهما، كما نبه إلى ذلك المفكر البلغاري تزيفتان تدوروف، في كتابه الشهير «فتح أميركا.. مسألة الآخر». وكما انطلقت ثورة القذافي ضد العهد الملكي من مدينة بنغازي، عاصمة إقليم برقة، ولذلك كانت تسمى في أدبيات عهده «مدينة البيان الأول» و«مدينة الشرارة الأولى» للثورة، فقد انطلقت منها هي أيضاً، لاتفاقات البوارح ومفارقات الحظوظ الكوالح، الشرارة الأولى للثورة ضده في 17 فبراير 2011. بوارح سنة 0011 ولتفاعل التاريخ والسياسة أحياناً اتفاقات ومفارقات ومفاجآت، لعل من أكثرها غرابة، ما يمكن تسميته بقليل من التجوُّز «متلازمة العام 11» بالنسبة لتاريخ ليبيا السياسي، فكثيراً ما يحمل هذا العام من كل قرن جديد، إلى الليبيين أحوالاً من الاضطراب والاحتراب، يكون لها ما بعدها فيما تبقى من القرن، في انتظار، العام الـ11 من القرن التالي. وهو ما يستدعي في الأذهان، بصورة أو بأخرى، مسألة عمر الدولة ودورة حياة العصبية عند ابن خلدون، حين اعتبر أن عمر أية دولة يتراوح بين 100 و120 سنة. ثم يبدأ ظهور عصبية ودولة جديدة تمر هي أيضاً مع ذات الأطوار ودورة الحياة نفسها. ولئن لم يكن المقام -والمساحة- يسمح هنا بالعودة مع التاريخ بعيداً لضرب أمثلة على بعض الفتن والملاحم، والتحولات الملتهبة الطالعة من القماقم، في تاريخ ليبيا منذ القدم، فلا أقل من إشارة استطرادٍ سريعة، لبعض حالات هذا البوارح أو المتلازمة السياسية- التاريخية خلال القرون الستة الأخيرة من تاريخ ليبيا. ففي مطلع القرن السادس عشر حل عام 1511م على ليبيا والليبيين، وقد وقعت طرابلس للتو في أيدي الغزاة الإسبان المتوثبين بعد سقوط غرناطة واكتشاف أميركا عام 1492م، لاحتلال الثغور والمدن الساحلية في الضفة الجنوبية للمتوسط. وفي مواجهة فظائع الاحتلال الإسباني الغاشم انخرط الليبيون في حرب طاحنة لتحرير بلادهم، وساعدهم في ذلك العام (1511) الحكم الحفصي بإرسال محمد أبي الحداد قائد منطقة توزر في إقليم الجريد التونسي، وبعد حروب وأهوال استمر الاحتلال الإسباني بكل فظاعة وبشاعة أعماله. وبعد عقدين خلفه احتلال فرسان القديس يوحنا الذين اقترفوا هم أيضاً فظائع وإبادات بحق أهل الأرض. وفي منتصف ذلك القرن ضم العثمانيون، أخيراً، ليبيا إلى إمبراطوريتهم من خلال قائدهم البحري سنان باشا، وبدأ تاريخ ليبيا العثماني الصعب. وفي عام 1611م كانت ليبيا أيضاً على موعد آخر مع بداية عصر من الاضطراب والاحتراب، حيث حدث تمرد وانقلاب من طرف الانكشاريين على الباشا والسلطة المركزية العثمانية، وتبعت ذلك فتن وصراعات طيلة تلك الفترة المعروفة باسم «عهد الدايات» كان نصيب الليبيين البسطاء منها البؤس والمجاعات والإبادات. ولم تنتهِ القلاقل والمشاكل طيلة ما تبقى من ذلك القرن حتى جاء عام 1711م، مع سيطرة أحمد باشا القرمانلي، الضابط التركي العثماني، على ليبيا، حيث بدأ تأسيس الدولة القرمانلية، وعلى رغم تحمُّس الليبيين لقيام هذه الدولة في البداية للتخلص من جوْر الانكشارية، ومع حال الأمان والاستقرار الذي فرضته في بدايات عهدها، إلا أنها ارتمت هي أيضاً فيما تلا ذلك من عقود بقية القرن في أتون صراعات طاحنة على الزعامة بين رؤوس الأسرة القرمانية نفسها. ومع مطلع القرن اللاحق دخلت الدولة الليبية القرمانية في حرب بحرية طاحنة ضد أساطيل الولايات المتحدة الأميركية الناشئة وقتها، والساعية لإيجاد موطئ قدم لها في ضفاف البحر المتوسط. وإلى جانب ذلك حمل أيضاً عام 1811م نوعاً جديداً من أسباب الاحتراب والاضطراب الداخلي إلى ليبيا، ففي هذا العام بدأ انحلال دولة أولاد محمد في إقليم فزان في الجنوب الليبي، مع ما اقترن بذلك من صراعات وفتن ومحن. كما وقعت أيضاً في العام نفسه مذبحة القلعة الشهيرة في القاهرة التي تم فيها التنكيل بالمماليك -الشراكسة في معظمهم- وقد فر عدد غير قليل من الشراكسة إلى ليبيا، واستقروا في مدن مثل مصراتة (ومن ثم شاع لدى العامة أن أصل تسمية مصراتة هو تعبير «من مصر أتى»، وهو في الحقيقة من اسم مسراتة وهي قبيلة بربرية- أمازيغية تحدث عنها ابن خلدون في تاريخه). ومع هذه الهجرة دخل مكون سكاني مؤثر جديد إلى الغرب الليبي، بعد أن كان الوجود التركي- الشركسي- الكرغلي محدوداً للغاية، ولا يتجاوز أعداداً من انكشارية وموظفي الدولة العثمانية، وأفراد أسرهم. وقد زاد هذا المكون التركي- الشركسي، بأعداد لاحقة من المهاجرين الجدد إلى ليبيا طيلة بقية القرن، ومن ضمنهم بعض مهجّري مسلمي جزيرتي رودس وكريت ومناطق أخرى، بعد وقوعها من أيدي الدولة العثمانية. وقد حمل بعض هؤلاء الوافدين الجدد إلى ليبيا نوعاً من المغايرة الثقافية وأحياناً أيضاً كثيراً من أعباء الذاكرة التي يحملونها تجاه السلطة العثمانية، ولذلك تواصلت الصراعات والملاحم والتظلمات والمظالم طيلة ما تبقى من القرن الأخير من العهد العثماني، ولم تكن القلاقل والمشاكل تهدأ إلا لتندلع من جديد، ما كان له أبلغ الأثر، في تشكل تاريخ البلاد الصعب في معظم عقود القرن التاسع عشر. وعاودت أيضاً «متلازمة عام 11» التذكير بنفسها مجدداً في القرن اللاحق، وتحديداً بحلول عام 1911، حيث تعرضت ليبيا لغزو الاستعمار الإيطالي، وقد ارتمت في حروب مقاومة وملاحم، وفتن وصراعات وإبادات، فاقت كل ما يمكن تخيله، وربما قصر فيلم «عمر المختار» الشهير للمخرج مصطفى العقاد وأقعدت به ملَكات المخيال المجنّح، على رغم روعته، عن وصف فظاعة وبشاعة ممارسات الاحتلال الإيطالي في ليبيا. ويعتقد أن خمس أو سدس سكان البلاد قد أبيدوا أو هجّروا، في القتال، أو في معسكرات الاعتقال الجماعي للقبائل التي أقامها الإيطاليون كحبس «العقيلة» الشهير، أو من خلال عمليات النفي الجماعي إلى دول الجوار، أو إلى الجزر الإيطالية. ولم تنتهِ محنة الاستعمار الإيطالي حتى هزيمة النظام الفاشي ودول «المحور» في نهاية الحرب العالمية الثانية التي شارك في ملاحمها الليبيون مع «الحلفاء» في معارك «العلمين» و«سيدي البراني»، حيث وُضع إقليما طرابلس وبرقة تحت الوصاية الإنجليزية، وإقليم فزان في الجنوب تحت الوصاية الفرنسية، حتى الإعلان رسمياً عن استقلال «المملكة الليبية المتحدة» بكفاح وطني وقرار أممي. وبعد 42 عاماً من عهد القذافي، كانت ليبيا أيضاً على موعد آخر جديد في عام 2011 مع «متلازمة عام 11»، باندلاع ثورة 17 فبراير 2011 ضمن ثورات ما سمى «الربيع العربي»، وما تبعها من مظاهر اضطراب واحتراب ما زالت فصولها جارية حتى اللحظة، مما سنبسط القول فيه الآن. الثورة.. ضد الدولة وقد اندلعت ثورة 17 فبراير ضد نظام القذافي في سياق ما سمي «الربيع العربي» بعد ثورتي الياسمين في تونس و25 يناير في مصر. وكانت شرارتها المباشرة قمع تظاهرة احتجاج في بنغازي لأسر ضحايا مجزرة بوسليم، وفي ذكرى ضحايا مجزرة أخرى وقعت بعدها لتفريق احتجاج أمام القنصلية الإيطالية على خلفية ما عرف بالرسوم الدانمركية المسيئة. ولكن أسباب اندلاع ثورة 17 فبراير، والتدبير لها، ربما كان سابقاً حتى على الثورتين المجاورتين، التونسية والمصرية. فصراع نظام القذافي وصَفُّه القبلي -قبائل لقذاذفة وورفلة والمقارحة وورشفانة والنوايل والعجيلات والصيعان.. الخ في الغرب والجنوب الليبي- ضد صف قبائل شرق ليبيا وخاصة من قبائل السعادي (المنتسبة لقبائل بني سُليم) الكثيرة التي تحالفت معها قبائل من الغرب في مصراتة -حيث العرب وأيضاً الحضور القبلي المؤثر للمكون ذي الأصل الشركسي والتركي- الكرغلي، وقبائل الأمازيغ كلها في مناطق زوارة وجبل نفوسة، فضلاً عن الزنتان، هذا الصراع هو الوجه الآخر، غير المعلن، لما سيسُمي إعلامياً وسياسياً، فيما بعد، بثورة 17 فبراير، التي كان بعض تجلياتها تعبيراً، بصيغ مختلفة، عن لحظة حسم لثأرات قبلية وحسياسيات حهوية وصراعات عصبيات مرحّلة ومؤجلة منذ عقود. كما كانت هذه الثورة أيضاً لحظة تصفية حساب آخر بين نظام القذافي وجماعات الإسلام السياسي، وقد لعب تحالف «الإخوان» و«المقاتلة» دوراً لافتاً في الجهد العنيف من الثورة، وكان هذا التيار قد انخرط في العمل المسلح ضد نظام القذافي منذ ثمانينيات القرن الماضي، وكانت له معسكرات في شمال تشاد المجاورة، بدعم من دول غربية، خلال فترة الصراع الليبي- التشادي. كما كانت لـ«المقاتلة» أيضاً معسكرات في أفغانستان خلال عهد الجهاد الأفغاني، وفي فترة حكم حركة «طالبان» وتنظيم «القاعدة» الذي أعلنت رسمياً الانضمام إليه في فترة لاحقة. وقبل ثورة 17 فبراير بفترة وجيزة، وفي خضم تدافعات وتطلعات مشروع «ليبيا الغد» الذي أطلقه سيف الإسلام القذافي، لتحديث الدولة سياسياً ومؤسسياً على الأرجح لتسويق وتسويغ ما سمي «التوريث»، أعلنت هذه الجماعات عن إصدار كتاب «مراجعات تصحيحية» تحت عنوان: «دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس»، وقد تمكنت قيادات من الجماعة «المقاتلة» والتنظيم «الإخواني» من ضمنها د. علي الصلابي -المصنف على قائمة الإرهاب التي أصدرتها الدول العربية هذا العام- ووجوه أخرى إخوانية وسلفية جهادية، من إقناع سيف الإسلام بـ«جدية» هذه المراجعات ونهائيتها. فأطلق سراح مئات من عناصر التنظيمين الإرهابيين في أواخر سنة 2009، كانوا هم رأس الحربة في بداية الجهد المسلح من ثورة فبراير، وكان من ضمنهم زعيم «المقاتلة» السابق عبد الحكيم بلحاج الخويلدي -المصنف أيضاً على قوائم الإرهاب. وطيلة أشهر الصراع السياسي والصراع المسلح خلال ثورة 17 فبراير نجح الدعم الإعلامي الخارجي بشكل كبير في دفع الجماعات المسلحة المتطرفة إلى منطقة الظل، وعدم إبراز دورها أو حضورها في الصراع، لضمان استمرار التدخل الخارجي من طرف حلف شمال الأطلسي «الناتو» ودول أخرى داعمة للثورة الليبية لأسباب إنسانية، وبقرار من الشرعية الدولية. كما لم يتم أيضاً إبراز دور أصوليتين أخريين أقل حضوراً وتأثيراً من الأصولية الإسلامية، ولكنْ كان لهما أيضاً وجود محسوس ودور ملموس في الثورة، ونعني الأصولية القومية الأمازيغية المتطرفة التي كانت خصماً تاريخياً عنيداً لنظام القذافي بسبب توجهاته القومية العربية التي يرى الأمازيغ (البربر) أن فيها افتئتاً وتعدياً على خصوصيتهم وحقوقهم الثقافية، وهي خصوصية زادها بروزاً أيضاً، إلى جانب المغايرة العِرقية مع الأغلبية العربية، وجود مغايرة مذهبية، حيث يتبع بعض الإمازيغ الليبيين المذهب الإباضي، في حين تتبع الأغلبية العربية المذهب المالكي. وأما الأصولية الثانية فأقل حضوراً سكانياً وإن لم تكن أقل دوراً في الثورة، ونعني الأصولية الشركسية- التركية- الكرغلية في مدينة مصراتة ومناطق أخرى كثيرة. وطيلة فترة الثورة ظلت هذه الأصوليات الثلاث: الإسلامية المتطرفة، والأمازيغية القومية المتشددة، والشركسية الحضَرية ذات الحساسية المفرطة تجاه قبائل «البدو» التي كان نظام القذافي يعتمد عليها، ظلت كلها مغيبة إعلامياً مع أنها مؤثرة في القرص الصلب للثورة، وذلك لضمان استمرار الدعم الخارجي، والغربي منه بشكل خاص. وكما يمكن أن نتوقع فقد ركزت التغطية الإعلامية المكثفة طيلة أشهر الصراع، بشكل شبه حصري، على إبراز الوجوه الإسلامية المعتدلة الوسطية، أو الليبرالية التوافقية المستنيرة، من ساسة ومثقفين ليبيين، وهي الوجوه المرغوبة غربياً. هذا فضلاً عن عامل آخر، غير مقصود، قد يكون خدم أيضاً، بطريقة ما، الثورة الليبية في مهمة استقطاب اهتمام رجل الشارع الأوروبي العادي واكتساب تأييد الرأي العام الغربي بشكل عام، ألا وهو تواتر بث الصور التلفزيونية التي كان فيها المعارضون المسلحون «الثوار» يحرقون ويزدرُون «العلَم الأخضر» باعتباره علم نظام القذافي، ويرفعون بدلاً منه علم دولة الاستقلال ذي النجمة والهلال. وفي المخيال الثقافي الأوروبي خاصة يرمز اللون الأخضر للإسلام، ولهذا خلفيات، قد يكون من ضمنها أن أول من توطن من الجاليات المغاربية في أوروبا، وتحديداً فرنسا، خلال القرن التاسع عشر، هي الجالية الجزائرية بحكم أسبقية الاستعمار في بلادها. ويعرف في الجزائر الانتشار الواسع للطريقة الصوفية القادرية -نسبة لعبد القادر الجيلاني البغدادي- وعلم «حضْرات» هذه الطريقة الصوفية هو العلم الأخضر، ولذلك يسمى عبدالقادر عادة في العامية الجزائرية «بوعلام» -أي «أبو علم»، ويسمى كذلك «الأخضر»، ولعل هذا هو سبب كثرة انتشار هذين الاسمين في الجزائر، لانتشار الطريقة القادرية. والمهم، حتى لا يخرج بنا الاستطراد عن الغرض، أن مثل تلك الصور لحرق العلم الأخضر استدعت في مخيال المشاهد الغربي إيقونة دالة، وموقفاً مناقضاً تماماً، وربما مناهضاً أيضاً، لموقف جماعات التطرف الديني التي كانت تنخر بعض مليشيات الثوار من الداخل. وكان كل هذا هيأ تمكن الثورة من إسقاط النظام، ومقتل القذافي في 20 أكتوبر 2011. والإعلان عن نجاح ثورة 17 فبراير واكتمال التحرير والانتصار على دولة «الأخ العقيد» وبداية عهد جديد، ودق المسمار الأخير في نعش نظام «سلطة الشعب» و«عصر الجماهير». لبقية الموضوع اضغط هنا
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©