السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لغز الذبيحات الثلاث

لغز الذبيحات الثلاث
28 أغسطس 2014 20:05
في الطابق الثاني عشر خرجت المرأة تستطلع من يطرق على الباب بشكل متتابع ومستمر، أثار القلق وربما الرعب في نفسها، وهي لم تعتد استقبال أحد في هذا الوقت، فزوجها وأبناؤها لديهم مفاتيح ولا يضطرون لطرق الباب، وهي متأكدة أن الزائر غريب، وكذلك ليس من الذين يحضرون ليقدموا لها بعض الخدمات مثل عامل الدليفري في السوبر ماركت أو الصبي الذي يعمل في مغسلة الملابس ولا السيدة التي تحضر لها بعض الاحتياجات، ولم يبق إلا الناطور ولم يكن ليجرؤ على الطرق على الباب بهذه الطريقة، كل ذلك دار في رأسها خلال ثوان معدودة لم تصل إلى نصف الدقيقة، وهي تبحث عن غطاء الرأس وقد كان قريباً منها، فالتقطته وتوجهت لتنظر من خلف الباب من خلال العين السحرية، فسمعت أنيناً وصراخاً مكتوماً بلا صوت، ولم تستطع أن تحدد من يكون الشخص القابع على الأرض. أمر جلل فتحت المرأة الباب وقد وقعت عيناها على أبشع وأغرب مشهد رأته في حياتها، ولم تر مثله حتى في أكثر الأفلام المتخصصة في العنف والدم التي تبالغ في هذه النوعية من الدراما التي تعتمد على الخيال، وجدت جارتها الشابة مذبوحة من رقبتها وغير قادرة بالطبع على الكلام، وقد أشارت إليها بيدها إلى شقتها المجاورة، لكن المرأة من هول ما رأت، لم تستطع التركيز معها في تفسير إشاراتها التي تشبه إشارات الخرس، بل صرخت هي الأخرى بشكل هستيري كما لو أصابها الجنون، وتواصلت صرخاتها التي كانت كفيلة بإحداث زلزال في البناية الكبيرة الشاهقة التي تضم عشرات الوحدات السكنية، الجميع هرولوا إلى حيث المكان الذي يأتي منه الصراخ الذي ينبئ بكل تأكيد أن هناك أمراً جللاً، وقد وقعت عيونهم على المشهد نفسه الذي أفزع المرأة، وجعلهم جميعاً يرتبكون ولا يعرفون كيف يتصرفون، وما زالت المرأة الذبيحة تتألم وهم أمام هول المشهد غير قادرين على الاقتراب منها، بينما هي ما زالت تشير إليهم بيدها إلى اتجاه باب شقتها المفتوح، ففطن بعضهم إلى ضرورة الاتجاه إليها لاستكشاف الأمر. الموقف كله مرعب ويفرض على الجميع ممن حضروا أن يتراجعوا ويتشككوا ويتخوفوا مما يحدث، لكن بعضهم لاحظ انبعاث دخان ضعيف من الداخل، فاستجمعوا جرأتهم التي تبددت ولم يعد منها أي بقية، واتجهوا نحو الداخل وهم يتحسسون خطاهم، فليسوا على قدر الاستطاعة لمزيد من المفاجآت المخيفة، لكن لم يكن ذلك باختيارهم، فقد وجدوا ما هو أسوأ مما يتوقعون وما يتخيلون، فبقايا نيران ما زالت مشتعلة في المطبخ، هي التي كانت تأتي منها خيوط الدخان الضعيفة بعد أن أدى جهاز الأمان إلى فصل الغاز تلقائياً، لكن هذا في حد ذاته ليس هو مصدر الرعب وإنما الطفلتان الصغيرتان «شهد وشهيناز»، الأولى لم تكمل عامها الثاني، بالتالي لم تتمكن بعد من الكلام بشكل طبيعي، بينما الثانية تخطت الرابعة من عمرها بأيام قليلة، فقد احتفلوا بعيد ميلادها الأسبوع الماضي، كلتاهما مذبوحتان، لم تلفظا أنفاسهما بعد، تتنفسان بصعوبة بلا أنين، غارقتان في الدماء على سرير غرفة النوم، اختلطت تلك الدماء بالدمى التي كانتا تلهوان بها قبل قليل. اغتيال البراءة لا تمتلك القلوب المتحجرة إلا أن تتفطر أمام اغتيال البراءة بتلك الطريقة الوحشية، التصرف الأول كان استدعاء الإسعاف لمحاولة إنقاذ «الذبيحات الثلاث، الأم وابنتيها»، لكن سبقت إرادة الله ولفظت الصغيرتان آخر أنفاسهما، بينما الأم فقدت الوعي وتم نقلها إلى المستشفى في حالة سيئة تصارع الموت يتوقعون وفاتها بين لحظة وأخرى فقد قطعت أحبالها الصوتية ولا يمكنها أن تنطق بكلمة واحدة بعد اليوم، آخرون اتصلوا بالشرطة لإبلاغها بالحادث البشع، بينما قام الناطور بالاتصال بصاحب الشقة في عمله ليبلغه بأن حريقاً شب في مسكنه وعليه الحضور فوراً وبالطبع كان رفيقاً به ولم يبلغه بالكارثة التي حلت ببيته جملة واحدة خشية أن يفقد الرجل هو الآخر حياته من الصدمة. لم يكن أمام الحضور جميعاً ولا في مقدورهم إلا أن يتوعدوا ذاك المجرم المجهول بالانتقام، ولو وقع في أيديهم ما نجا ولكانت نهايته، ولكن أنى لهم ذلك وهم لا يعرفونه، وعندما حضر الرجل المكلوم هاله ما رأى من تجمع بشري أمام البناية التي يقيم فيها، وأضواء سيارات الشرطة بألوانها الزرقاء والحمراء تدور في أجواء المكان وأحياناً «تزعق» آلات التنبيه الخاصة بها فتثير الرهبة في النفوس، وما أن علم بالحقيقة حتى انهارت قواه ولم تقو قدماه على حمل جسده النحيل، وكاد يسقط على الأرض لولا أن ساعده بعض الذين جاءوا معه على الجلوس فوق أقرب مقعد، كاد أن يفقد الوعي، لم يجد كلاماً يقوله وكذلك من كانوا حوله لاذوا بالصمت لم تسعفهم أي كلمة كي يشدوا بها من أزره، إلا أن بعضهم راح يبسمل ويحوقل ويستغفر من هذا الغضب ويستعيذ بالله من الشياطين، ويؤكد أن شياطين الإنس يغلبون الأبالسة في كثير من الأحيان. السؤال الصعب السؤال الوحيد والصعب الذي يردده الجميع هو، من الذي فعلها؟، لكن لا أحد يعرف الإجابة ولا يمكنه التكهن إلا رجماً بالغيب وبلا علم أو معلومة، فالناطور يؤكد أنه في الوقت المعاصر لوقوع الجريمة لم يدخل أحد غريب البناية، لكن هذا قد لا يكون صحيحاً بنسبة مئة في المئة لأن المجرم لا بد وأن يأتي خلسة متخفياً ولن يأتي عياناً بياناً، لكن رجال الشرطة لا يعملون طبقاً للكلام النظري والتكهنات، بل يبحثون عن الدليل الدامغ، فبدأوا بمعاينة مسرح الجريمة، يبدو من أول وهلة أن القاتل لص جاء للسرقة، وربما يكون قد دخل بطريقة عادية من دون اللجوء إلى العنف أو كسر أي من الأبواب والنوافذ، حيث إن جميع النوافذ والباب سليمة، وبجانب ذلك فهو لا يستطيع الدخول من غير الباب لأن موقع الشقة في هذا الارتفاع الشاهق لا يمكن أي شخص من التسلق عبر المواسير أو أي وسيلة أخرى، إذن النتيجة الأولى المؤكدة أن الجاني دخل من الباب بطريقة طبيعية، فإما أن يكون من أهل الدار أو من الأقارب، وهنا تتركز دائرة البحث والتحري. وتبدأ خطوات التحقيق الأولى مع الأب المكلوم، فأكد أنه لا يعرف شيئاً عن الجريمة وأنه تلقى اتصالاً من الناطور أبلغه فيه بالخبر المشؤوم، وفي الوقت نفسه نفى وجود أي خلاف مع أي شخص، ولم يتهم أحداً بالضلوع في الجريمة، لكن المعلومات الأخرى التي كان يقوم فريق البحث الجنائي بجمعها أكدت أن الرجل لم يكن على وفاق مع زوجته الشابة، بل إن الخلافات الشديدة كانت هي المسيطرة على علاقتهما، وهذا وحده قد يكون دافعاً لارتكاب الجريمة بأي شكل وليس بالضرورة أن ينفذها بنفسه، صحيح أن المعلومات أكدت أيضاً أنه كان في عمله وقت وقوعها، غير أن ذلك لا يبرئه حتى إشعار آخر. مفاجأة كبيرة هناك في المستشفى، الأطباء يفعلون كل ما في وسعهم من أجل إنقاذ حياة الزوجة، بينما رجال الشرطة يتمنون أن تنطق ولو بكلمة واحدة تشير فيها إلى الجاني فهي التي عندها مفتاح السر وفي يدها حل اللغز، ويمر الوقت ثقيلاً بلا جديد لكن الأمل مازال موجوداً، فحالتها على ما هي عليه لم تتدهور بل هناك تحسن بطيء بعد أن تم التحكم في الجرح وإيقاف النزيف الحاد الذي تعرضت له، وتم تزويدها بكمية كبيرة من الدماء لتعوض ما فقدته، وتستمر جهود الشرطة في كل اتجاه، وتتعرض لكل احتمال وتناقش كل ما يمكن أن يتوقعونه، غير أن كل الطرق والوسائل لم تأت بأي معلومة ذي فائدة تشير إلى المجرم. أربع وعشرون ساعة كاملة مضت، ليأتي الخيط الأول بأن القاتل شخص واحد، فقد استخدم سكيناً واحدة في ذبح الضحايا الثلاث، عثر عليها ملقاة في صالة الشقة، وأثبت الفحص والتحليل وجود آثار دماء من كل منهم عليها، والسؤال الآن من هو ذلك الشخص؟ وجاءت الإجابة واضحة بلا لبس بعدها أفاقت المرأة قليلاً، وبإشارات بلا كلام أكدت أنها هي القاتلة لطفلتيها وحاولت الانتحار، وبتلك الإشارات وأحياناً بالكتابة لكلمات محدودة، وأخيراً بصوت خفيض وحروف متقطعة كتبت التفاصيل الكاملة، مجملها أنها في الثانية والعشرين من عمرها، تزوجت منذ خمس سنوات، أي عندما كانت في السابعة عشرة، حيث تقدم لها هذا الشاب الذي يكبرها بخمس سنوات، ويعمل في المقاولات والبناء، قبلها رفضته بشدة ولكن أسرتها أجبرتها على تلك الزيجة، فعاشت خمس سنوات من العذاب. قالت عبير «القاتلة القتيلة»، إنها لم تكن فقط تتعذب بسبب رفضها لزوجها، وإنما أيضاً لأنه ليس له علاقة بالإنسانية ولا ينتمي إلى بني البشر، فقد كان يغار عليها لأن جمالها فائق، يمنعها من الخروج حتى بصحبته بل يمنعها من زيارة أسرتها، يفرض عليها البقاء في البيت طوال الوقت وبجانب ذلك يضربها بوحشية ولم تسلم الصغيرتان من بشاعة تصرفاته التي لا تعرف الرحمة، غضبت مرات لا حصر لها خلال تلك السنوات، آخرها قبل شهر رمضان الماضي وقد تم التصالح بمناسبة العيد بعد أن تعهد بحسن العشرة، لكن نكب في عهده وعاد سيرته الأولى، فلم تجد إلا التخلص من حياتها وأن تريح ابنتيها من هذا العذاب وقررت أن تنتقم منه أيضاً. وأمرت النيابة بحبسها والتحفظ عليها لحين تماثلها للشفاء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©