السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مايكوفسكي.. عوّاء الثورة

مايكوفسكي.. عوّاء الثورة
18 أكتوبر 2017 02:44
كتابة الشاعر الفرنسي جيل براسنيتزار الملف ترجمة وإعداد: أحمد حميدة مجْدٌ ملتبسٌ.. يحيط بذاكرة فلاديمير مايكوفسكي، مجدٌ يثير في آنٍ، مشاعر الكراهيّة والمقت من ناحية، وفيضاً من التّوقير والإجلال من ناحية ثانية. هل كان فنّاناً ستالينيّاً قبل بروز السّتالينيّة؟ هل كان مبشّراً ملهماً بعالم سوف تعصف به الثّورة؟ لقد كان لانتحاره صدى أكبر في التعريف به، من دويّ شعره، الذي يظلّ جزءاً كبيراً منه اليوم غير مقروء، إذ تلوّث هذا الشعر بفعل تشنجات التاريخ الذي أصدر بشأنه أحكاماً صارمة وغير دقيقة، تراوحت بين التقديس واللعن. يكون هذا المهيّج الجبّار، مبدع الكلمة، قد فعل الكثير، لتطاله في المقابل، وفي النّهاية، صفعة الزّمن. برأسه الضّخمة الكاسحة، كان أحياناً يُغوي ويفتن، ليبدو في أحيان أخرى ممقوتاً ومنفّراً. نهماً للمشاعر والأفكار، يكون هذا الشّاعر قد التهم الآخرين قبل أن يدمّر ذاته. ويكون هذا الثور المتهيّج قد جرجر جسده إلى الحلبة، بهيئة حطّاب وروح كوزاكيّة، ليشذّب الشعر الرّوسي بضربات فأس حادّة، إذ كان يرى أنّ كلّ شيء ينبغي أن يدفع إلى أعلى درجات التوهّج، إلى درجة الاحتراق التامّ. كان يتصوّر شعراً هادراً كسيل جارف، كمِصْهرٍ للحديد. «كيف لك أن تدّعي أنّك شاعر وأن تغرّد مثل دوريّ؟ في حين يتوجّب عليك اليوم، التسلّح بدبّوس لشجّ رأس العالم..»، يقول مايكوفسكي. المحرّض الإيقاع أوّلاً وآخراً.. وتبّاً للصّور والإغماءات الشّعريّة. ينبغي للشّاعر أن ينمّي إيقاعه الخاصّ.. لأنّ الإيقاع يمغنط ويكهرب الشّعر؛ وعلى كلّ شاعر أن يهتدي بنفسه إلى ذلك الإيقاع. كم يكون هذا المختلس المتوحّش للّغة، الذي أدخل فوضى عارمة في الآداب الرّوسيّة، قد شاد سوق تصفية للمشاعر.. فبعد العبور الكاسح لهذا الإعصار، ما الذي تراه قد بقي؟ يبقى لنا العاشق الفاجع للحبّ وللثّورة، الذي كان سيّئ الحظّ مع هذا ومع تلك. ولا يزال رماد هذه الشخصيّة المحوريّة في الحفل الرّاقص للمتّقدين شعراً، ينفث دخانه إلى اليوم. كمنشد للمعذّبين في الأرض، وكمناد شادٍ في الشّوارع، وكمناضل متهوّر، يظلّ مايكوفسكي الخطيب الشّعبي وعوّاء الثورة، كان يقتفي آثارها، ويتابع تمدّدها مُلحةً بمُلحة. سياسيّاً حدّ النّخاع، كان يمسك بسجلّ مسعور للأحداث اليوميّة للبلشفية. سوف يجوب روسيا من أطرافها إلى أطرافها لتنظيم اجتماعات شعريّة وسياسيّة، وكان حيثما حلّ، وبصوته الجهوريّ الصّادح، يلهب الجماهير. كان لحضوره الجسدي الأثر البليغ، كما لقامته وجاذبيّته، التي كانت تكهرب جمهور المستمعين. وبالطّبع كان الشّعر الملقى في مثل تلك المناسبات، شعراً خطابيّاً متأجّجاً؛ وحسب مايكوفسكي من ذلك أن يكون صدىً مدمدما لهياج الشّارع. كان يعرف كيف يؤدّي دوره على مسرح الأحداث، ولكنّه كان يعرف أيضاً كيف يكون بسيطاً ومناضلاً قاعديّاً شرساً. وإحداث مثل ذلك التفجّر المستعر بوساطة الكلمة والشّعر، لم يكن ليحدث في غير روسيا، فهذه الأمّة عرفت دائماً كيف ترعى حسّاً متسامحاً تجاه شعرائها ومجانينها. المارد في زمن المخاض ذاك، المنبئ بولادة عالم آخر، والمعتاد على الوجع، كم من المبشّرين نهضوا خطباء في الشّعب، ولكنّ واحداً منهم فحسب سيكون له شأن كبير.. إنه فلاديمير مايكوفسكي. كما سيكون هذا المارد، مايكوفسكي، أكثر هؤلاء ثرثرة وأشدّهم زئيراً، وبلا شكّ.. أصدقهم، رغم انقلاباته المدهشة. كان كسيْلٍ من حمم منصهرة، يبحث عن قضيّة يسكنها، عن عالم مهيّئاً للتّفجير، وكان يتبدّى في الاجتماعات الحاشدة كخطيب متنبّئ، وكمبشّر تهزّه كلماته انتشاء، ولن تكون الثّورة الرّوسيّة سوى إطار سيسمح له بإطلاق كلماته النّارية. بعد انتمائه للمذهب الجمالي، سوف يمتطي صهوة الجواد الجموح للمستقبليّة، ثمّ الآلة المسعورة للشيوعيّة، ويغدو كسيْلٍ عارم متفيّض، يجرف كلّ شيء في طريقه؛ ففي أحشائه وحنجرته، كانت تحتشد أنواء سوداء، منذرة بتهطّل أمطار قد تأتي على الأخضر واليابس. هذا الفيض من الحياة الذي يشبه في تدفّقه الإعصار، كان عليه أن يجسّده فيما يشبه الإيمان بالإنسان؛ لقد فعل ذلك قبل أن يفقد ذلك الإيمان. المهيب كان يدرك ما أصبح يحظى به من هيبة تذكّر بهيبة راسبوتين، والجميع كان ينحني أمامه. وقد لاحظ ألكسندر بلوك ذلك. كان مايكـوفسكي لا يشعر بالارتياح إلاّ وهو وسط الجماهير، التي كان يفتنها ويطوّعها. وكان ينغلق داخل قيم جاهزة لنزعة قوميّة مطمئنة، في مواجهة هذا «السّيرك الرّأسمالي» الذي كان يكفيه لشرح مصائب العالم؛ سوف يناضل ويصرخ ويلعن كي يهلّ زمن سيطرة المحبّة والأخوّة الممكنة. من شعره كانت تنبعث روائح حرب أهليّة؛ حرب في الخارج بالتّأكيد، ولكن أيضاً حرب يحملها مايكوفسكي بداخله، لمواجهة الخطاب الأصولي من حوله، إذ كان من أنصار «الصفعة بمذاق شعبي».. ويمضي حثيثاً في تنبؤاته: «فكرك الحالم في دماغك الرّخو/‏‏‏ كعميل متخم يتمرّغ في سرير طريّ /‏‏‏ سوف أزعجه على قطعة من القلب دامية/‏‏‏ وسوف أهزأ به بملء ما أوتيت من نشوة ومرارة ووقاحة». المتوهج سوف يعبر مايكوفسكي الحياة كمذنّب متوهّج، مخلّفاً وراءه أثراً من نار مستعرة، إذ سرعان ما سيتشظّى هذا «البروميثيوس» الجسور أمام دمية خليعة.. فاسدة. وأن يكون مثل ستالين من جورجيا، حيث نشأ هناك في السّابع من يوليو سنة 1893، فإنّ ذلك لن يجلب له السعادة. والده الذي كان حارس غابات، سوف يدفع به شظف العيش إلى النّزوح مع عائلته للإقامة في موسكو، تلك المدينة التي ستربطه بها علاقة امتزج فيها الحبّ بالكراهيّة. وسينخرط باكراً في الخلايا البلشفيّة (1908)، ليُلقِي به نشاطه السّياسيّ في السّجن، وهو في سنّ السّادسة عشرة، بتهمة التّحريض الاشتراكي - الدّيمقراطي. وسوف يُقبل مايكوفسكي بملء كيانه على الفكر المستقبلي. وكمتمرّد.. سوف ينبذ كلّ أشكاله القديمة، لينتشي بأفكار طلائعية متطرّفة. كان يريد أن يكون حدثيّاً، ومأخوذاً بسطوة الكلمة، وسوف يعمل تبعاً لذلك على أن يكون محرّضاً على الثّورة. في سنّ العشرين أصدر ديوانه الشّعريّ الأوّل «أنا..» وقدّم أولى مسرحياته «مايكوفسكي» في سان بترسبورغ. وامتزج هذا الحضور الصّفيق للأنا عنده بإرادة التحدّث باسم أولئك الذين مُنعوا من حقّ الكلام؛ هكذا سيعيش مايكوفسكي.. سوف يعيش بملء طاقته، جموحاً كجواد نافر، مندفعاً بكامل كيانه، بلا شكيمة ولا مهماز. العاشق وجاء لقاؤه سنة 1914 بلِيلِي بريك، الذي تمّ بفضل شقيقته إلزا تريولي، ليبلبل ذلك اللّقاء تماماً حياته ويربكها، وليمنحه مبرّراً للعيش ويدفع به إلى الضّياع. افتتن مايكوفسكي بهذه المرأة، وأضحى يكنّ لها حبّاً مسعوراً حتّى غدا تابعاً لها؛ فكان «هذا الحبّ المتوقّد.. الموارب، المحتدم والسّاحج»، وحْيُهُ وهلاكه. لن تفارقه لِيلِي أبداً، وسوف ترافقه في جميع مغامراته، من فترة تبنّيه للمستقبليّة إلى أن غدا الشّاعر الرّسمي لثورة البولشفيك. حينها.. ستكون كلّ مواهبه موجّهة نحو أيديولوجيا السّوفيات، ليكون منشدهم ويغدو سريعاً، البطل المخلّص لجماهير الشّباب. وكان لا يأبه بالتّمييز بين الأشياء ولا بفهم الآخرين. وسوف يكون موقفه من مارينا تسفيتاييفا موقفاً بغيضاً. تملُّكيّ وغيور، كان لا يترفّق بأيّ شيء، وسوف يجعله وضوحه المتأخّر، يواجه في النّهاية انتقاداً رسميّاً. سوف تكون مسرحيّاته لاذعة وقاسية: «البقّة» سنة 1920، و«المغسل» سنة 1929. ولكنّ الوقت أضحى متأخّراً، وأصبح يُستعمل كذريعة، وكانت الحاجة إليه لا تزال ملحّة حتّى يقع إقصاؤه أو نفيه كالكثيرين، ولم يكن بوسعه التخفّف من حياة بأكملها. محنّط من قبل النّظام، لم تعد لركلاته أيّة أهميّة، خاصّة بعد أن نشر سنة 1924 قصيدته الغنائيّة للينين. وكانت لِيلِي تفسح له، رغم انفصالهما سنة 1925، وتطمئن السّلطة على تصرّفات «ملهَمها». وكانت رؤيته المبسّطة للعالم تجعله يعتقد أنّ الحبّ لا يمكن أن يكون إلاّ موجعاً في عالم بلوتقراطي يحكمه المال. مأسوراً في الشّباك الرّهيبة للشّقيقتين، لِيلِي وإلزا، الخبيرتين بفنّ الاحتيال والتّلاعب بالمشاعر، ستكون الأختان ملعونتان، عميلتان للــ «كي. جي. بي.». ولسوف تتزوّج لِيلِي بعد سنوات جنرالاً في الـ «كي جي بي» سنة 1943. وفي باريس ثمّ في نيويورك، حين حاول الإفلات من أصفاده، وبعد وقوعه في حبّ نساء أخريات (آلي جونس والممثّلة فيرونيكا بولونسكايا)، ستعيده الضّغوطات إلى درب العذاب من جديد، إذ فقد مايكوفسكي شيئاً فشيئاً حظوته السّالفة وطاله الخزي، والبقيّة يعرفها الجميع، أي ما آل إليه الوضع مع إطلالة عهد جدانوف. ولصديق التقاه في نيس أسرّ بهذه الكلمات المخيفة: «إنّي أعود إلى روسيا، لأنّني لم أعد شاعراً، وإنّما قسّ لكاتب عدل للثّورة». متحرّراً من الوهم، سوف يصارع من أجل مجلّته «لاف». إنّي لأسائل نفسي إن لم يكن من الأجدى أن أضع بطلقة ناريّة حدّا لحياتي وكانت نقطة النّهاية تلك حين انتحر بطلقة ناريّة في القلب يوم 14 أبريل 1930، في العاشرة والرّبع، وهو في السّابعة والثّلاثين: «لقد تحطّم زورق الحبّ على صخر الحياة الرّتيبة، مثل ما يقال، وانتهت المصيبة». كانت كلماته الأخيرة.. «كونوا سعداء..». ابن أمه ولد فلاديمير مايكوفسكي، عام 1893، عندما كانت شعوب الإمبراطورية الروسية تئن تحت نير الشعر والرسم. وعندما بلغ الثامنة من عمره، حملته أمه إلى مدرسة بلدة (كوتايسي). وفي سني تعليمه الأولى أحس الصغير فلاديمير بالاغتراب، واصطدم بالفوارق الطبقية بينه وبين زملائه، وفي عام 1905 بدأ التعرف إلى الكتابات الثورية العلنية والسرية، والتي كانت تأتي بها أخته (لودميلا) من موسكو حيث كانت تدرس. فوجد نفسه منضماً إلى الحلقة الماركسية في (المدرسة العليا) في بلدة (كوتايسي). واشترك في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1905 في أول مظاهرة سياسية. بوفاة والده، انقلبت حياة الأسرة رأساً على عقب. فاضطرت الأم للرحيل إلى موسكو. ومنذ تلك اللحظة أحس فلاديمير ذو الثلاثة عشر عاماً بالمسؤولية الكبيرة. التحق فلاديمير في موسكو بالمدرسة الثانوية، وهناك انضم إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وهذا كان سبب اعتقاله للمرة الأولى في 29 آذار (مارس) 1908، لكن صغر سالأولى، وهناك قرأ بايرون، وشكسبير وقرأ الأدب الروسي؛ بوشكين، وليرمنتوف، ودوستويفسكي.واعتقل شتاء 1909 للمرة الثانية، لمدة أربعين يوماً. وصيف 1909 اعتقل للمرة الثالثة، حين اشترك في عملية تهريب ثلاث عشرة سجينة سياسية من سجن (نوفنسكايا). في السجن، كتب قصائده الأولى، وهناك قرأ بايرون، وشكسبير وقرأ الأدب الروسي؛ بوشكين، وليرمنتوف، ودوستويفسكي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©