الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كوبو آبيه.. كافكا اليابان

كوبو آبيه.. كافكا اليابان
15 أغسطس 2017 21:41
يعد كوبو آبيه أول روائي ياباني يحظى بشهرة عالمية واسعة في النصف الثاني من القرن الماضي، وهو معروف بأنه كاتب تجريبي، وقد ظلت موضوعة الاغتراب تشغل معظم أعماله. والغرب، الذي لا ينظر إلى الشرق إلا عبر مراياه، يرى أن الكاتب متأثر بكافكا إلى حد ما، كما كان من المعجبين بدوستويفسكي وإدغار ألن بو. لكنه، رغم هذه الإحالات، يظل محتفظاً بصوته الياباني الخاص وملامحه الإبداعية المتميزة. ولعل أزمته راجعة إلى تعدد الأماكن التي أمضى فيها المراحل الأولى من حياته، إذ عاش عدة سنوات من طفولته مع أمه في هوكَّايدو، أقصى جزيرة في الشمال الياباني، وكانت نشأته في منشوريا مع والده الذي كان طبيباً في الخدمة العسكرية هناك، ثم عاد ليدرس الطب في طوكيو، ولكنه لم يمارس هذه المهنة في حياته. وربما درس هذا الاختصاص التماساً للإعفاء من التجنيد الإلزامي، أو بتأثير والده. ولقد تخرج الفتى في كلية الطب في جامعة طوكيو سنة 1948، وهو في الرابعة والعشرين، ويروى عنه أنه كان يقول ساخراً: «درست الطب لكي لا أعمل في هذه المهنة»! --------- في قصته القصيرة أكاي مايو (الشرنقة الحمراء)، يرصد الكاتب حالة الاغتراب الوجودي والعزلة الخانقة التي يعانيها البطل في حياته، ويستغرق متفكراً فيها وهو يهيم في شوارع المدينة، على غير هدى. رجل مستلب مقطوع الجذور، لا بيت له ولا عنوان، لا يشعر بأي استقرار أو سكينة، ولا يدري كيف الخلاص. المشكلة تشغل باله بعمق، ولا يدرك أسبابها ولا يعرف حلاً لها. لكن رؤية الكاتب السياسية تبدو واضحة، فهو يتخذ موقفاً نقدياً صارماً من الدولة والمجتمع معاً. وربما كان انتماؤه للحزب الشيوعي، ثم خيبته فيه وانسحابه منه بعد احتدام الصراع بين ستالين وتروتسكي، فضلاً عن إيثاره السكن والعيش في ضواحي طوكيو، بعيداً عن بهرج العاصمة وصخبها وعلاقاتها الرسمية والاجتماعية المتشابكة.. هذه الأسباب مجتمعة ضاعفت من إحساسه بالإحباط والانطواء. إن سارد القصة لا يرى أي سبب مقنع لاستمراره في الحياة، وهو مستعد لوضع حد لها لو أمكنه أن يفهم لماذا هو بلا بيت. ويتخيل أحياناً أن العلة في النسيان، فهو ببساطة لا يتذكر أي بيت يخصه من بين هذه البيوت الكثيرة، وليس لديه أي دليل أو علامة أو عنوان يبين له ذلك. مشكلة الحرمان من البيت تلح عليه وتعكر مزاجه، وتكاد تصيبه بلوثة. فهو يعتقد واثقاً أن له بيتاً، لكنه لا يعرف أين. وتلح عليه فكرة عبثية بأن يطرق أي باب، ليسأل إن كان هذا بيته! إنه يعاني حالة فظيعة من التيه والبلبلة، لكنه يظل عازماً على فكرته ولا يلبث أن يطرق أحد الأبواب، فتخرج إليه سيدة البيت وتشتبك معه في جدال عبثي عقيم، وهو يحاول جاهداً أن يشرح لها أساس مشكلته، ولا يتردد في مجادلتها وكأنه يطالبها بأن تثبت أن هذا المنزل بيتها فعلاً. وتزداد حالة الرجل سوءاً وإحباطاً حين يقع على خيط حرير دبق يلتف على قدميه، ويستمر بالالتفاف على ساقيه وجذعه حتى يغطي جسمه كاملاً، ويشكل حوله شرنقة. وعندئذ يشعر أن وجوده انتفى تماماً، فيقول بيأس جارح وسخرية مرة: «نعم، صار لي بيت، ولكن لا وجود لي حتى آتي إليه»! وتبدو خاتمة القصة أشد غرابة وسوداوية من بدايتها، فلا يكتفي بالتفاف الشرنقة حول السارد وإلغاء وجوده. بل يتابع قائلاً: إن شرطياً يعثر على الشرنقة ملقاة على الرصيف، فيضعها في جيبه وهو في طريقه إلى البيت، وهناك يلقيها في صندوق الدمى الذي يحتفظ ابنه الصغير فيه بألعابه. ويعلق أحد دارسيه على هذا المشهد السوداوي قائلاً: إن آبيه يعبر برمزية بالغة عن حالة مرضية قصوى من الاغتراب الذي يعانيه هذا الإنسان، وهو يسعى جاهداً كي يجد له مكاناً في المجتمع المعاصر، لكنه يفقد وجوده ونفسه في ختام هذه المعاناة. القصة حافلة بالعديد من الرموز ضد الملكية، انطلاقاً من التزام الكاتب بفكره الحزبي، كما أنها ضد سطوة البوليس كرمز لسلطة الدولة، وهو ضد أي تحكم خارجي. ورغم إيجازها وانعدام التطور في أحداثها، فهي تشكل الأساس الفني المبثوث في سائر أعماله الروائية، ومنها على سبيل المثال: «وجه الآخر أو وجه الغريب، ورجل الصندوق، وامرأة في الرمال». الرواية الأولى مؤلمة ومرعبة، رغم أنها تبدو في البداية حادثة محتملة يمكن أن يتعرض لها أي كيميائي يعالج مواد خطرة، فقد أصاب الرجل وجهه بالحرق والتشوه إثر انفجار في المختبر العلمي. ويصور الكاتب بفنية عالية الحالة الإنسانية المرعبة التي يعيشها الرجل بعد أن فقد ملامح وجهه، وهو يفكر طويلاً في تصميم قناع بدلاً من الضمادات، مؤكدا أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش ويتعامل مع الآخرين، حتى مع زوجته وزملائه في العمل والمجتمع حين يفقد وجهه. وهكذا يتحول الوجه، في دلالته السافرة للعيان إلى جوهر حقيقي معبر عن شخصية الإنسان، بكل أبعادها النفسية والوجودية والاجتماعية. ومن عباراته اللافتة أن «روح الإنسان في جلده»، وأن القناع «يغدو كالاستيلاء على البيت من خلال استئجار غرفة»، ولا سيما أن القناع – مهما كان لائقاً- لا يحل المشكلة لأنه شكَّل شخصية مختلفة وملامح هوية جديدة، حتى علاقة الرجل مع زوجته تغدو مريبة. أما في الرواية الثانية، فنرى رجلاً يعيش ويتحرك داخل صندوق، وقد ترك فتحتي العينين للرصد والمراقبة. ولا ينسى أن يصف أنواعاً مختلفة من الصناديق. والقارئ الذي يعرف محطة شِنجيكو في وسط طوكيو، يتذكر نماذج عديدة من ذلك الرجل حين يرى في أحد الأنفاق عشرات المنبوذين الذين اختاروا السكن على جانبي الممر، وقد انزوى كل واحد منهم معزولاً بين جدران صندوق من الورق المقوى، مساحته لا تزيد على أربعة أمتار مربعة. ويقولون إن الحكومة حاولت مراراً أن تؤويهم في أبنية سكنية، لكنهم لا يتخلون عن نمط حياتهم. سخرية مرّة في نصوص السرد الياباني، نجد أحياناً إشارات إلى رموز وأماكن معينة، مثل الساكورا أو جبل فوجي وفتيات الجيشا أو معابد الشنتو والبوذية، لكننا لا نجد في أعمال آبيه أية إشارة من هذا القبيل. في روايته «أونّا نو سونا» المترجمة إلى الإنجليزية بعنوان «امرأة في الكثبان» وإلى العربية «امرأة في الرمال»، يبلغ الكاتب ذروة سخريته واغترابه، حين يحول بطله إلى ما يشبه حشرة قابعة في حفرة محاصرة بالكثبان الرملية الخانقة من كل جانب. الشخصية المحورية في الرواية مدرس مولع بجمع الحشرات، وخاصة خنافس الرمال. وهو يورد اسم المدرس نِكي جومبي، خلافاً لمعظم أعماله التي يترك شخوصها بلا أسماء. وقد ركب الرجل القطار إلى منطقة صحراوية نائية، وخلال بحثه عن حشرات الرمال، يمر عبر قرية صغيرة لصيد الأسماك، معظم بيوتها محاطة بالكثبان. وحين أدركه المساء، صادف عجوزاً من القرية وسأله عن إمكانية المبيت، وبعد تردد وعده العجوز بالمساعدة. ثم يأتي برجال ينزلونه إلى قاع كوخ رملي بسلم من الحبال ليقضي ليلته فيه، ليفاجأ بأرملة شابة ابتلعت عاصفة رملية زوجها وطفلتها وتركتها وحيدة... وهكذا تم اقتناص الرجل وإنزاله في الحفرة، ثم رفعوا سلم الحبال وأخذوه معهم. وحين يواجه مشكلة الاحتجاز ينظر إلى المرأة بعداء، متهماً إياها بالتواطؤ مع جيرانها، لكنه يصمم على أن يجد طريقة للفرار، ولكن دون جدوى. ويكتشف البطل أن رجال القرية يتاجرون سراً بالرمال، وأن المرأة مجبرة على جمع الرمال التي تتراكم كل يوم، لتحافظ على حياتها، ولتحصل على الماء والقوت لتعيش. وهكذا يضطر لمساعدتها، بعد أن يئس من إمكانية الهروب، وإن لم يتخل عن الفكرة. وحين ينجح في صنع حبل من بعض ثيابه وثياب زوجها الفقيد، يعمد إلى الهرب ويوشك أن ينجح وهو يمني نفسه بإقامة دعوى ضد معتقليه، لكن رجال القرية يكتشفون أمره ويلاحقونه حتى يرتمي في وهدة عميقة من الرمال أوشكت أن تبتلعه، كما ابتلعت غيره من قبل، فيستغيث بهم طالباً النجدة، فينقذونه ويعيدونه إلى كوخ الحفرة ليواجه المرأة بخجل ومذلة قائلاً: لقد فشلت! لكنها تنفجر بالبكاء، وحين يسأل عن السبب يدرك أنها كانت خائفة عليه من ابتلاع الكثبان. ورغم خيبته القاسية، ظل متمسكاً بفكرة إيجاد طريقة للخلاص، وخلال الشهور التي عاشها مع المرأة كزوجة بالإكراه، فوجئت بنزيف تبين أنه حمل خارج الرحم.. وسارع الرجال لإخراجها وأخذها إلى مشفى المدينة. وتركوا له سلّم الحبال مركوناً على الحائط الرملي، لكنه يظل قابعاً في الحفرة، مكتفياً بترديد أحلام يقظته بأنه لا بد أن يهرب في يوم قادم. الجانب الكوميدي الساخر في المسألة تكشفه التحقيقات البيروقراطية وغياب الاهتمام الإنساني من الحياة المدنية المعاصرة، وكأن غياب إنسان أو موته لا يعني أحداً! هناك رجل غادر الحافلة في آخر محطة ريفية ثم اختفى، ودارت تكهنات متعددة حول اختفائه، فقد يكون السبب هروبه مع امرأة، وربما انتحار أو اختطاف، لكن البوليس لم يعثر على جثة أو أي أثر. هو مدرس، ولكن لا أهمية لذلك حتى بين زملائه. وقد ظن ناظر المحطة التي غادرها أنه من متسلقي الجبال، لكن المنطقة التي نزل فيها منبسطة، لا جبال فيها. وبعد مرور سبع سنوات، اعتبرته المحكمة في عداد الموتى وانطوى البحث عنه. والكاتب لا يتخلى عن سخريته، فالمدرس الذي كان يبحث عن خنفساء نادرة في الرمال، كان يحلم بالعثور عليها وتخليد اسمه في عداد العلماء، ولو بسبب حشرة! أوقعه حظه العاثر في تلك القرية المعزولة بين الكثبان، وكان مصيره أن يتحول إلى شبه حشرة محتجزة في جوف الرمال. وأسلوب آبيه الساخر لا يقتصر على رواياته، إنما نراه في مسرحه كذلك. الأصدقاء، توموداتشي، مسرحية عبثية ليس فيها لمحة واحدة من معاني الصداقة. وهناك روايات أخرى مهمة للكاتب، يستفيد فيها من دراسته العلمية، لكنه لا يتخلى عن أسلوبه العبثي الساخر ورؤاه الاغترابية، ومنها: الخريطة التالفة، السفينة ساكورا، الموعد السري.. والعديد من القصص القصيرة. ولعل أطرف ما قرأته عن كوبو آبيه أنه مثل زميله الوجودي ألبير كامو، كان كاتباً طموحاً، وأنه وجد أن طريق كافكا واستغراقه في أحلام اليقظة المشحونة بالاغتراب والسريالية أسهل للنجاح والشهرة من طريق تولستوي ونزعته الإنسانية الواسعة.   ليس لي مسقط رأس يعي الكاتب كوبو آبيه جيداً لباب مشكلته مع المكان، إذ كتب يوماً مشخصاً حالته: ولدت في طوكيو، ونشأت في منشوريا. لكن الأوراق تثبت أن هوكَّايدو هي المكان الذي يبين أصل عائلتي، وهناك عشت عدة سنوات. وباختصار، فإن مسقط رأسي، والمكان الذي نشأت فيه، ومكان أصل عائلتي.. هذه كلها أمكنة مختلفة بشكل واضح جداً. ونتيجة لذلك، فإن من الصعب علي أن أكتب قائمة موجزة للتواريخ المهمة في حياتي. فأنا، أساساً، ليس لي مدينة/ أمّ، يمكن أن أسميها مسقط رأسي وأنتمي إليها. لذلك، فإن الشعور برهاب مسقط الرأس الذي يتدفق في قرار عواطفي يمكن أن ينسب إلى هذه الخلفية. وهذا ما ينفرني من أي مكان مستقر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©