الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الخيال لا يستشير أحداً

الخيال لا يستشير أحداً
17 يناير 2018 19:44
يفترض الحديث عن التخيُّل Fiction استدعاء مصطلح المُتخيل Imaginaire، الذي يعتبر من أكثر المصطلحات صعوبة على التعريف والتحديد على الصعيد المفهومي. فهو يحيل على مجال أو مجالات واسعة يتداخل فيها العقلاء هذا على المستوى العام، أما على صعيد الإبداع فإن المتخَيَّل يترجم صوره وحكاياته من خلال ما يسمى بالتخيُّل، أي تلك الأساليب المختلفة التي تعتمدها الأجناس الإبداعية المتنوعة في التعبير عن صورها ومجازاتها وشخوصها وحكاياتها. والتخيُّل، بهذا المعنى، هو خلق واقع، اعتماداً على صور وأشكال يمكن تعيينها. لذلك فإن إبداعية عمل ما لا تتمثل في موضوعه أو مضمونه أو في القضية التي يتناولها، بقدر ما يتعين البحث عن هذا المضمون أو القضية في شكل أو أسلوب التخيل الذي يسلكه ويعتمده المبدع. هذه ملاحظة عامة تنطبق على جميع الأجناس التعبيرية والإبداعية.. لكن ما هي أساليب الحكي التي تشترك فيها الرواية والسينما وما هي تلك التي تفترقان فيها؟ عُرفت السينما بأنها فن سابع، أي أنه فن أتى بعد الأشكال التعبيرية الستة السابقة عليه واستفاد، في الآن نفسه، من نصوصها وصورها وإبداعاتها، وحتى من بعض تقنياتها. وأدمج هذا الفن السابع القصة والمسرح والتشكيل والموسيقى والرقص والرواية. غير أن ما يفرق هذه الأنواع هو الأشكال السردية. ذلك أنه إذا كانت أصالة كل حقل إبداعي، أو كل فنان، تتمثل في الأسلوب، فإن الحكي يشكل القاسم المشترك لأغلب المجالات التعبيرية. اختلاف اللغة لعلّ أول عنصر يُفرق بين العمل السينمائي والكتابة الروائية يتمثل في كون السينما، في صياغة حكاياتها، تستند إلى الصورة وإلى اللقطة والعناصر الأخرى المكونة لصنع الفيلم، في حين أن الرواية تُنسَج باللغة ومن خلال اللغة. أي أن السينمائي ينقل الصورة إلى صورة من خلال الصورة (والصوت، بطبيعة الحال إذا تعلق الأمر بالسينما الناطقة)، بينما الروائي يُحول الصورة إلى ألفاظ وإلى صيغ بلاغية تنسج صوراً مختلفة. وهكذا فإن اللغة، في حالة الرواية، تفتح المتخيَّل من خلال عملية إدراك بصرية للكلمة أو للجملة المقروءة، والتي غالباً ما تتم صياغتها بطريقة غير محددة ولا محدودة ولا مُؤطرة، في حين أن مجال الإدراك البصري في السينما يتحدد نتيجة ما يريد المخرج أن يقدمه لنا. يتعلق الأمر، هنا، بالفرق الموجود بين النظر والقراءة. ذلك أنه إذا كانت لقطة مُكَبَّرة لوجه شخص ما لها وظيفة محددة ومعنى محدداً على صعيد التعبير السينمائي، انطلاقاً من أنها تجتاح مجالنا البصري وتؤثر على حالتنا الشعورية وتولد ردود أفعال خاصة حسب صُنع اللقطة وموقع المشاهد منها، فإن هذا الوجه الموصوف يحتاج، في الرواية، إلى تأطير من طرف القارئ باختلاف حساسيته وخياله وانتمائه. تشتغل الرواية، إذن، على الكلمة والجملة وعلى معايير الكتابة المخطوطة، أما السينما فإنها تشتغل على الشريط وعلى العناصر الأخرى مثل الحوار والموسيقا... إلخ. إنها بذلك، تركب صوراً شمولية أو لقطات شمولية. اختلاف التقنيات يمكن القول إن حقلي الرواية والسينما يعتمدان على تقنيات مختلفة لأن التخيل فيهما ينسج من خلال ما يسمى بـ «طبيعة العلامات السردية». فرواية ما لا يمكن نعتها بأنها جديدة إلا بالقياس إلى روايات أخرى. والأمر نفسه بالنسبة للفيلم. من هنا يتعين الانتباه إلى ما يسميه «جان ريكاردو» بـ «الوهم المجازي» في الرواية، وبـ «الوهم الواقعي» في الفيلم. تتجلى جمالية العمل السينمائي من خلال تقنية الحكي، لدرجة أن الأسلوب، كما يقول «أندريه بازان» يتماهى، بشكل كلي تقريباً، مع تقنية الحكي. وإذا كان الفيلم يتقدم، دائماً، بوصفه توالياً لشذرات من الواقع في الصور، وأنه يخلق واقعه الخاص في صور، فإن نظام وزمنية الرؤية يمنحان المعاني المناسبة للقطاته، إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للفيلم، فإن الرواية تستمد معانيها من معاني ألفاظها، وتصوغ صورها بوساطة علامات اللغة وتقنيات البلاغة... إلخ. إن وجود التخيل متوقف، أولاً وقبل كل شيء، على سرده الخاص. والسرد يمكن إدراكه انطلاقاً من نمط الحكي المتبع من طرف الروائي أو السينمائي. غير أن هذا الأخير يدمج في عملية حكيه عناصر لا حصر لها تجد صيغتها النهائية في المونتاج؛ تجد السينما «اكتمالها» الحكائي في المونتاج وبواسطته، وتتأتى دلالة الصور واللقطات في الشريط من النظرة أو التقنية العلائقية للمونتاج، والتي لا تقتصر على اعتبار أن الدلالة تبرز نتيجة توالي لقطات أو متواليات وإضافة شذرات من الواقع بقدر ما تأتي من تكسير التوالي والتتابع لدرجة أن بعض السينمائيين («أورسن ويلز» و«أنطونيوني».. إلخ) يضعون أفلاماً تتولد معاني لقطاتها من بين الصور المكونة للمتوالية حسب التنظيم البنيوي الذي ينسجها. اختلاف النظرة على الرغم من أن السينما اقتبست واستفادت من الرواية، فإن لكل حقل أساليب تخيله واشتغاله. حتى في الوقت الذي تطلع فيه بعض السينمائيين إلى جعل الكاميرا بمثابة قلم للكتابة، فإن شروط ومقاييس العملية السينمائية لم تستجب، ضرورة، لمعايير الكتابة التخيلية الروائية. الأمر نفسه ينطبق على ما قام به بعض الروائيين، حين انتقلوا من الرواية إلى السينما وأرادوا تحويل القلم إلى كاميرا إن صح التعبير؛ إذ تتعلق المسألة، بشكل كبير، بالنظرة إلى الكون الإبداعي داخل كل حقل وإلى رهان المعنى. فـ «ألان روب غرييي» و«مارغريت دوراس»، مثلاً، حين انتقلا من الكتابة الروائية إلى الإخراج السينمائي، كانا يبحثان في التقنيات التعبيرية ذات الطبيعة الميكانيكية التي تسمح بإمكانية تسجيل حضور العالم في غياب المعنى. وفي هذا السياق هناك تجارب عربية نسجت علاقة خاصة بين الفعل السينمائي والكتابة السردية، ذلك أن لقاء صلاح أبو سيف بنجيب محفوظ لم يكن مصادفة، أو بسبب الانتماء العمري والاجتماعي والثقافي المشترك. أبو سيف ساهم، بطريقته، في إدخال محفوظ إلى عالم السينما. لكن محفوظ سمح لأبو سيف بانفتاحات تخييلية بالغة الغنى والتنوع، الأمر الذي جعل منهما ثنائياً فريداً في تاريخ الإبداع العربي الحديث. وبطريقة مختلفة يجعل السينمائي السوري محمد ملص من النص الروائي لحظة إبداعية مغايرة للعمل السينمائيّ، كما هو شأن أسامة محمد حين ينسج شعراً، أو السينمائيّ اللبناني غسان سلهب في نصه «من كتاب الغرق» 2012؛ حيث يفجر مجازاته وصوره الشعرية باللغة الفرنسية، معتبراً أن أفلامه، هي أيضاً، مسكونة بشعريّة تحركها أسئلة ثقافية وفكرية وإنسانية. في حين أن التجربة الروائية للسينمائي المصري رأفت الميهي في «هورجادة، سحر العشق»، فقد خاضها كتعبير عن شكل من المقاومة بعد رفض الرقابة المصرية تحويل السيناريو السينمائي الأصلي إلى فيلم؛ إذ انخرط الراوي في عالم شعوري وروحي وجسدي، وعمل على إبراز معنى سام للحبّ. ولأن الفكرة الأصلية هي عن الحب، وعن التقارب الإنساني بين مسيحيين ومسلمين، فقد منعت الرقابة مشروع الفيلم، لكن المخرج أصرّ على سردها روائياً. لذلك حين يطرح سؤال الاقتباس نعثر على عدد لا بأس به من الأجوبة، باعتبار أن كل جواب، أو كل معالجة ترتبط بطبيعة وشكل الاقتباس الذي يقوم به المُقتبس. الوفاء للنص على هذا الصعيد، أيضاً، تعترض المرء مسألة الوفاء، وهل يكون الوفاء للبناء السردي، أم للمضمون، أم للشكل، واعتماداً على أية مقاييس يمكن اعتبار الاقتباس فعل إبداع؟ وما هي المهارات الفكرية والتخيلية التي تجعل المرء يلاحظ بأن إعادة تملّك النص الأصلي ينتج قراءة جديدة له اعتماداً على مقتضيات الكتابة السينمائية؟ في هذا السياق يعتبر «جان كلود كاريير» - وهو أحد كبار من حولوا أعمالاً روائية إلى سيناريوهات - بأنه لا يمكن ترجمة أو تحويل شكل أو نمط فني إلى نمط آخر بدقة، لأن فعل الاقتباس، هو في العمق، فعل إبداع ما دام يعمل على إعادة كتابة النص الأدبي بالاستناد إلى وسائل السينما. والظاهر أن اقتباس رواية يفترض إعادة بناء النص المكتوب للانخراط، كلية، في مسلسل تصور وإنجاز العمل السينمائي ضمن الشروط المطلوبة للكتابة السينمائية؛ بل من الممكن المغامرة بالقول إن علاقات الرواية والفيلم هي علاقات تباعد أكثر ما هي علاقات تقارب. قد تحصل الاستفادة المتبادلة على صُعُد كثيرة (وتجربة نجيب محفوظ وصلاح أبو سيف غنية على هذا الصعيد) ولكن التخيل الروائي مغاير، في كليته، عن التخيل السينمائي. فخارج الاقتباس تبدو نقط الالتقاء بين السينما والرواية قليلة جداً، ذلك أن السينما يمكن أن تعالج قضايا يتناولها التخيل الروائي مثلاً، كرصد فترة تاريخية، أو تقديم حياة شخص أو مجموعة أشخاص، أو تناول أزمة ما... إلخ. ولكن السينما لا تصور هذه الموضوعات باليسر والسهولة نفسهما، لأن لكل موضوع خصائصه وخلفياته وتقنياته؛ ويضطر السينمائي إلى الاختيار أو التركيز على لحظات بعينها، لدرجة يلاحظ على السينمائي ميله الدائم إلى الإيجاز واقتراح شذرات أو مقاطع من عمل أدبي أو تاريخي كبير. «فجان جاك أنو» ركز، بشكل لافت، على ما يخدم سرده للتحقيق البوليسي في اقتباسه لرواية «اسم الوردة» «لأمبرتو إيكو». نفس الأمر ينطبق على طريقة اقتباس «جان كلود كاريير» والمخرج الألماني «شلوندورف» لرواية «مارسيل بروست» «بحثاً عن الزمن الضائع» التي حيَّرت كل كتاب السيناريو في العالم، بسبب أسلوب مؤلفها الصعب في بناء شخوصه وكيفية تقديمهم في الزمن. وبسبب صعوبة التمكن سينمائياً في بعض أنماط التخيل الروائي، يضطر السينمائي إلى استعمال صيغ إيحائية مختلفة. فالسينما لها قدرة لافتة على الاقتصاد في القول والإظهار وإبراز المواقف أو الإيحاء بها. لا شك في أن للرواية وسائلها في ذلك، إلا أن للغة الطبيعية أزمنتها وللغة السينمائية إيقاعها الحاضر دوما، حتى وإن عالج الفيلم لحظة ماضية فإن استرسال اللقطات يبدو وكأنه مرهون بلحظة تلقيه وإدراكه. *** أخيراً، إذا كانت الرواية ترتبط باسم مُوقّعها، قانونياً ووجودياً، بحيث تشهر الرواية ذاتية المبدع، بكل ما تقتضي هذه الذاتية من انتماء واستقلالية، فإن السينما عمل جماعي، حتى وإن أدرجت ضمن ما ينعت بـ «سينما المؤلف»، إذ تتقاطع في العمل السينمائي مهارات متنوعة وحساسيات مختلفة وأشكال تخيل متعددة. وراء كل ذلك عين وعقل وذاتية المخرج الذي يوجه المشاركين في مشروعه بناء على نظرته وإدراكه الخاص ونمط تعامله مع الظاهرة السينمائية، وإذا كان للروائي حرية واسعة لتفجير عناصر تخيله وإبراز ذاتيته، فإن السينمائي، بحكم ارتباطه بمنطق الصناعة والتجارة الذي يتحرك ضمنه مجاله الإبداعي، قد يضطر، أحياناً وحسب الحالات، إلى التفاوض حول القيمة الذاتية لعمله، بكل ما تستلزم عملية التفاوض من حسابات وتنازلات. هل التخيل قابل لإخضاعه لمنطق التفاوض؟ ألا يحوز قدرة لا محدودة على الانفلات من الرقابة وإرادة الضبط لينبث في ثنايا الكلمات والصور من دون استشارة أحد؟ للتخيل دور لا حدود له في خلق الألغاز. وقيمة العمل الإبداعي في الرواية والسينما، تتمثل، من بين ما تتمثل به، في التستر على الألغاز واللعب الجدّي بالمعاني. وهنا تكمن أصالة العمل الإبداعي كما القدرة على اكتناه أفكاره وتأويلها. خيالٌ صعب السينما يمكن أن تعالج قضايا يتناولها التخيل الروائي مثلاً، كرصد فترة تاريخية، أو تقديم حياة شخص أو مجموعة أشخاص، أو تناول أزمة ما، ولكن السينما لا تصور هذه الموضوعات بنفس اليسر والسهولة، لأن لكل موضوع خصائصه وخلفياته وتقنياته، ويضطر السينمائي إلى الاختيار أو التركيز على لحظات بعينها، لدرجة يلاحظ على السينمائي ميله الدائم إلى الإيجاز واقتراح شذرات أو مقاطع من عمل أدبي أو تاريخي كبير. «فجان جاك أنو» ركز، بشكل لافت، على ما يخدم سرده للتحقيق البوليسي في اقتباسه لرواية «اسم الوردة» «لأمبرتو إيكو». نفس الأمر ينطبق على طريقة اقتباس «جان كلود كاريير» والمخرج الألماني «شلوندورف» لرواية «مارسيل بروست» «بحثاً عن الزمن الضائع» التي حيَّرت كل كتاب السيناريو في العالم، بسبب أسلوب كتابة مؤلفها الصعب في بناء شخوصه وكيفية تقديمهم في الزمن، وبسبب صعوبة التمكن سينمائياً في بعض أنماط التخيل الروائي، يضطر السينمائي إلى استعمال صيغ إيحائية مختلفة. تجارب عربية هناك تجارب عربية نسجت علاقة خاصة بين الفعل السينمائي والكتابة السردية، ذلك أن لقاء صلاح أبو سيف بنجيب محفوظ لم يكن مصادفة، أو بسبب الانتماء العمري والاجتماعي والثقافي المشترك. أبو سيف ساهم، بطريقته، في إدخال محفوظ إلى عالم السينما. لكن محفوظ سمح لأبو سيف بانفتاحات تخييلية بالغة الغنى والتنوع، الأمر الذي جعل منهما ثنائياً فريداً في تاريخ الإبداع العربي الحديث. وبطريقة مختلفة، يجعل السينمائي السوري محمد ملص من النص الروائي لحظة إبداعية مغايرة للعمل السينمائيّ، كما هو شأن أسامة محمد حين ينسج شعرًا، أو السينمائيّ اللبناني غسان سلهب في نصه «من كتاب الغرق»، حيث يفجر مجازاته وصوره الشعرية باللغة الفرنسية، معتبراً أن أفلامه، هي أيضاً، مسكونة بشعريّة تحركها أسئلة ثقافية وفكرية وإنسانية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©