الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سيرة ذاتية للكتابة

سيرة ذاتية للكتابة
21 أكتوبر 2015 18:00
1.شخصياً لا أنظر إلى الأنواع الأدبية (القصة، القصيدة، الرواية، المسرحية) كتخوم منفصلة ومتباعدة بعضها عن بعض، بشروط وقوانين مصطنعة وكابحة تميّز نوعاً عن آخر، وتبعد شكلاً عن آخر، إنما كأشكال قابلة للتفاعل والتداخل فيما بينها، وتمارس تأثيرها المتبادل بحرية ورشاقة، لتثمر نصوصاً لا تكتسب قيمتها من انضوائها تحت راية مصطلح، بل بما تحققه من اختراق إبداعي يتسم بالجدَّة والعمق. الحساسية الجديدة، في الكتابة وفي الأشكال الفنية الأخرى، نجحت في تحطيم الحواجز والتخوم التي نصبتها النظريات والمناهج النقدية القديمة، وانتهاك القوانين القديمة وخلق أشكال قابلة للانتهاك والتجدّد، كما أتاحت هذه الحساسية للنص الجديد أن يتحرك بحرية وعفوية في الحقل الإبداعي. هكذا وجدنا أن السرد، على سبيل المثال، قد تعرَّض لتحولات جادة وإيجابية من الإنشائية البسيطة إلى التركيبات التي تحمل نفساً أو بعداً شعرياً. التحولات مسَّت أيضاً اللغة والصورة والحالات والشخصيات. لم تعد القصة تسرد موضوعاً محدداً ببداية ووسط ونهاية، ولم تعد القصيدة تعبِّر عن غرض معيَّن. القصة والقصيدة صارتا تعبِّران عن عوالم خاصة برؤية أعمق وبأشكال أكثر جدَّة وجمالاً. إن احتواء نص ما على عناصر مستقاة من أشكال فنية أخرى، هو أمر طبيعي وصحي، كما أنه عفوي وغير قسري أو متكلف.. هكذا أظن، هكذا أحب أن يبدو الأمر. أعتقد أن الشيء الأساسي لكل كتابة أو نتاج فني- أدبي هو ضرورة توفر الحرية الإبداعية، وحق المبدع في الخروج عن كل الأطر التي تحد من حرية المخيلة، والاقتراب أكثر من الجوهر الفعلي للإبداع من دون الاحتكام إلى شكل أو نوع أو صنف أو ما شابه. التسميات والمصطلحات هي من وضع أشخاص بشريين قد يكونون نقاداً أو باحثين أو كتَّاباً وهم الذين سنُّوا لها القوانين والقواعد والمعايير، لكن هذا لا يعني أن يلتزم بها الجميع، ويذعن لها الجميع، فهي ليست مقدَّسة. وهي موضوعة بالدرجة الأولى لتسهيل مهمة النقاد في التصنيف والتحليل والتقييم. 2.منذ بداياتي لم أكن أرغب في التقيُّد بالمعايير التقليدية في الكتابة، ولم أكن أميل إلى الوقوف عند نوع مسيَّج بالقوانين والأعراف والأصول، بل أحببت أن أدمج الأشكال في كيان واحد عبر نسيج أراه متماسكاً لا ادعاء فيه ولا مجانية. ما كان يعنيني، في الواقع، هو توصيل رؤيتي وتجربتي عبر شكل، لا أزعم أنه إشكالي، قادر أن يستوعب ما أريد أن أقوله وأعبِّر عنه بسهولة وبلا عناء، وأيضاً بلا افتعال. لقد حاولت في نصوصي أن أبني العوالم القريبة مني، تلك التي يمكن أن تعانق كل المصادر والعناصر، وفيها يتمازج كل شيء، ومن خلالها أجد حريتي في الكشف والاكتشاف. منذ البداية لم أشعر بالاطمئنان إلى شكل محدد. كانت الطاقة التعبيرية أكثر احتداماً من أن يقدر شكل ما أن يحتويها. محاولة كسر الأنواع، أو بالأحرى، اختراقها، هي ليست غاية فوضوية، بل فعل تحرر من أسر ما يمكن أن يمثِّل قيداً على تجربتك. 3.بوسع الكاتب أن يبدع في جنس أو نوع معين وأن يبقى مخلصاً ووفيّاً لهذا النوع، لكن هذا ليس شرطاً إبداعياً. فبوسع الكاتب أيضاً أن يبدع في أكثر من مجال بالدرجة نفسها من القوة. إنه اختيار شخصي محض. رغم اختلاف التقنيات والأشكال، فإنني لا أجد صعوبة في الانسجام والتوافق، على المستويين الثقافي والنفسي، مع كل مجال ونوع، فالخبرة والتجربة والوعي مصادر تسعف الكاتب كثيراً. كل مجال يوفر فسحة أقدر من خلالها التعبير عن الأفكار والرؤى، وقول ما أريد قوله، كما يحقق لي نوعاً من الرضا والإشباع. 4.النص، بالنسبة لي، هو ثمرة التقاء الأشكال والأنواع في عالم خاص أبتكره بحرية. رغم تحفظي على مصطلح «نص» فإن اختيار التسمية في اعتقادي جاء كمحاولة لتمييز نوع من الكتابة لا ينتمي إلى الأنواع السائدة، بل يستفيد من ذلك التعايش والتمازج والتفاعل بين الأشكال. «النص» مصطلح مراوغ ومتملِّص، لا يمكن الإمساك به، لكنه ينفع في التمييز.. ذلك لأن ذهنية التصنيف لا تزال هي المهيمنة. ثمة ولع بالتصنيف.. الكتابات الجديدة لا تلقى قبولاً أو اعترافاً، ونحن هنا لا نطمع في التحليل والتقييم من غالبية القراء والنقاد إلا إذا انضوت تحت ما هو متعارف عليه ومتكرس من أنواع أدبية (قصة + قصيدة). 5القصة والرواية والسيناريو والمسرحية والترجمة أشكال تتصل بالكتابة وحدها، تنبع من المصدر ذاته.. أي الكتابة، بمعنى هي تنويعات على الكتابة. عندما أمارس هذه الأشكال لا أشعر أني أتنقَّل بين أقاليم متنافرة، مغايرة، وغير متجانسة أو متناغمة مع بعضها، بحيث يشكِّل الانتقال صعوبة أو تحدياً، أو يفضي إلى تشتيت الطاقة وإرباك الجهود. الانتقال يجعلني أشعر بالحيوية لا التشوّش. الانتقال بينها، بالنسبة لي ككاتب، لا تشكّل معضلة.. فعبر سنوات من التجربة والخبرة صرت قادراً على التنقل بيسر ورشاقة من دون أن أشعر بالارتباك، ومن دون حاجة إلى بذل جهود خارقة في التكيّف مع الأشكال الأخرى. كل ما أحتاجه هو التركيز، وصقل الأدوات الكتابية، واستخدام العناصر من لغة ومخيلة ورؤى وغيرها على نحو لائق وجيد. أحب أن أعتبر أشكال الكتابة هذه حقولاً متجاورة، لا تحدها تخوم شائكة، أتنقل بينها بلا التباس، بلا عوائق، بل برشاقة. كل شكل أو نوع هو امتداد للآخر، يتفاعل معه ويثريه. إذا كانت هذه الحقول ترحب بي، ككاتب جدير بالانتساب إليها، وليس كشخص مدّعٍ وقليل الموهبة، فإنني أبذل جهداً مضاعفاً لكي أكون عند حسن ظن من يرتاد هذا الحقل. 6. ما سبب هذا الانتقال من شكل إلى آخر؟ ربما هي الرغبة في ارتياد فضاءات توفرها، أو تقترحها، الكتابة بشتى أنواعها، واللغة بمختلف مجالاتها وتجلياتها (اللفظية والبصرية).. ربما هي النوافذ الكثيرة، التي لا تحصى، والمفتوحة على عوالم غنية، مدهشة، لا يمكن اكتشافها وارتياد مجاهلها إلا بالخروج عبر تلك النوافذ والسفر إلى تلك العوالم.. ربما هو الخوف من الرتابة والتكرار.. والموت، بمعناه المجازي. والذي ينشأ من الثبات عند موضع معين، أو مجال معيّن، قد يضيق شيئاً فشيئاً حتى يسد المنافذ ولا تبقى أمامك غير نافذة واحدة يفترسها الضجر على مهل.. ربما لأن لكل وسط من هذه الأوساط سحره الخاص وجاذبيته المغوية.. ربما لأن هناك أسباباً أخرى أجهلها تدفع بالمرء لأن يخوض هذه المجالات بحريَّة بحَّار يذهب إلى الأفق، وهو يعلم بأنه لن يقدر أبداً على الإمساك بهذا الأفق المراوغ. 7. لا أشعر بأي تعارض بين هذه الأنواع أو الأجناس، هي كلها أشكال من الكتابة، لكن تقتضي كل منها تقنية ولغة خاصة بها. هي أشكال أجربها وأخوض فيها بمتعة تضاهي متعة اكتشاف العوالم العجيبة التي تصادفك في رحلة الكتابة. عندما يكون الشكل الروائي حاضرا بقوة ليستوعب تجربة تشعر بأنها لن تصل إلى الآخر إلا عبر هذا الشكل الروائي وحده، فإنك تعمل بتركيز شديد عبر هذا المنحى، الروائي، شاحذاً اللغة والتقنية وعناصر السرد، وغير ذلك من الأدوات والوسائل والأساليب، بحيث تنتج في الأخير عملاً روائياً يدهشك قبل أن يدهش قارئك. كذلك الأمر مع السينما.. عندما أرغب في التعبير سينمائياً عن فكرة ما، رؤية ما، فإنني ألجأ إلى اللغة والتقنية والشروط السينمائية الأخرى التي من خلالها أنتج هذا العمل. الجوهري هنا أن تعي الفروقات والشروط الفنية لكل مجال أو وسط أو شكل.. وعندئذٍ لا خوف على طاقاتك من هذا التعدّد والتنوّع، الذي أراه يغني تجربتك ويوسّع أفقك أكثر مما يشتّت طاقتك أو موهبتك.. كما يعتقد البعض. إنها جميعاً تشكّل عوالم غير مستقلة أو منفصلة، بل تتداخل وتتمازج في ما بينها عبر تفاعل مصادرها وعناصرها المشتركة والمتباينة معاً بحيث تكوّن في المحصلة النهائية ما يمكن اعتبارها تجربة موحدة، بالغة التنوّع والحيوية، تعبّر عن رؤية الكاتب الكليّة وموقفه وموقعه. 8. ينبغي أن أقول، أنا لا أفضّل مجالاً على آخر.. كلها حقول إبداعية استمتع بارتيادها وتحرّي ثمارها ومحاصيلها، لكن يجب أن أعترف بأني أجد لذة قصوى في كتابة النص الأدبي.. لذة هي ثمرة استنزاف موجع لطاقة التخيل والتذكر وصقل اللغة.. الطاقة التي تتجدد كل يوم حتى تنجز نصك. في كتابة النص الأدبي أنت تحتاج إلى مصادر عديدة: المخيلة، الذاكرة، التجربة الحياتية، التجربة الثقافية.. وغيرها. أنت تستقي من تلك المجالات ما يعينك من ناحية الفكرة أو الموضوع أو الأسلوب أو التقنية على تعميق نصك وإثرائه جمالياً وفكرياً. هكذا تجد في الأشكال والأنواع الأخرى ما تستعير منه لإضفاء خاصيات لا يتيحها غير هذا التفاعل الخلاق. 9. في فضاء الكتابة مساحات رحبة للتعدد والتنوع. وغالباً ما يحلو لي القول عندما يسألونني عن تعدد المجالات أن هذا يشبه وجودك في غرفة مليئة بالنوافذ، إما أن تكتفي بنافذة واحدة تطل منها على الأفق، أو تفتح أكثر من نافذة من خلالها تتعدد الآفاق، وتصبح رؤيتك أغنى وأكثر تنوعاً وشموليةً. سقوط نظرية يرى رينيه ويلليك أن الحدود بين الأنواع في حالة حركة دائمة، وهو ما يمنع نظرية الأنواع الأدبية من أن تحتل في رأيه مكانا هاما في الدراسات الأدبية المعاصرة. وبرأيه فإن: «التمييز بين الأنواع الأدبية لم يعد ذا أهمية في كتابات معظم كتاب عصرنا، فالحدود بينها أي الأنواع الأدبية يتم عبورها باستمرار، والأنواع يتم خلطها أو تمزج. والقديم منها يترك أو يحور، أو تخلق أنواع جديدة أخرى، إلى حد صار معها المفهوم نفسه أي مفهوم النوع الأدبي موضع شك». أما بنديتو كروتشة، الفيلسوف الايطالي وأحد مؤسسي علم الجمال الحديث، فقد شن في كتابه «الاستطيقا» الذي ظهر عام 1902 هجوماً حاداً على مفهوم النوع الأدبي متنبئاً له بأنه «لن تقوم له قائمة بعد ذلك». ويربط ارنست فيشر الشكل بالوظيفة التي من أجلها استحدثه الانسان، فقد شكل الانسان البدائي قطعة من الصخر أو الخشب ليخدم بها غرضا من أغراضه. وهذا الأمر ينطبق على كافة الأشكال، بما فيها الأنواع الأدبية التي تتغير هي الأخرى بتغير الوظائف المنوطة بها، فالشكل حسب رأيه هو «الخبرة الاجتماعية عندما تتخذ صورة محددة». أما جورج لوكاتش فيربط المسألة بمفهوم «النظرة إلى العالم»، ذلك الذي يتغير بتغير التشكيلة الاجتماعية، فالنظرة التي كانت تطرحها الملحمة لم تعد مناسبة لتلبية احتياجات العصر البورجوازي فتلاشت لتراثها الرواية وهكذا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©