الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بيير ريفردي..قصائد الصمت الرهيب

بيير ريفردي..قصائد الصمت الرهيب
21 أكتوبر 2015 22:24
أولئك الذين هم موضع ازدراء يملكون بذرة الأبدية، من أجل الحياة لم يعرفوا أبدا نقائصهم يعبرون طريقا سقفها السماء يمرّون محنيين، فتعلق النجوم بشعرهم، تمسّد رؤوسهم ورؤوس كل من يمرّ في الموكب لأن المعدن يرنّ ويشتعل. هذة الكلمات البسيطة لا ينتهي إيحاؤها في العالم لأن للموسيقى لحناً آخر، للخطوات الموزونة وزنا آخر، للمرآة انعكاسا آخر. مأخوذا في دوّامة الزّمن، متزلّجا على مهل فوق تجاعيد الأيّام، فإنّ شعر بيير ريفردي سرعان ما يتباعد أمام القرّاء الغافلين. بيير ريفردي ناسك «سولاسم» أضحى شاعرا منسيّا، وهو الذي كان ولزمن طويل الشّاعر الأرفع شأنا. يفضّل البعض اليوم شرابا أكثر فاعليّة، مثل شظايا الصوّان لرونيه شار، أو الشّعوذات الكلاميّة لغيراسيم لوكا أو ماك روبو، ولكن هناك الكثير من القصائد لريفردي لن أرضى بالأعمال الكاملة لهؤلاء بديلا عنها. هذا النّربوني (نسبة إلى مدينة نربون) ذي الحواجب السّوداء والشعر الأجعد والصّوت الكثيف والأجشّ، يبدو للبعض رتيبا ومملاّ. كَتب ريفردي بالطّبع مئات القصائد، فيحلو للبعض القول بأنّ شعره هو دائما نفس الشّعر، كما قيل عن فيفلدي في كنشورتوهاته، فكأنّي بهؤلاء يُعرضون عن سماع الذّبذبات الخفيّة للأبديّة. أي نعم.. لا يمكننا تحويل شعره إلى أغان، لأنّ شعره هو الموسيقى المتناغمة على سطح الصّمت، نعم.. كان ريفردي معشوقا من قبل أصدقائه الرسّامين أو السّوريّاليين، إلى حدّ أنّ الموجة التي بلغت مداها، كان ولابدّ أن تهبُط، نعم.. إنّ قراءته تتطلّب تواطؤ اللّيالي اللاّهثة، التي يكون فيها كلّ شيء معلّق، متدلّ، نعم.. إنّه غامض، ولكن هل تعرفون أنتم شيئا عن الأثير، وكلّ الشّبابيك ترصدكم؟ رجل سقط شخص ما خرج ولم يعد في الطّابق الخامس لا يزال المصباح يضيء فمن يكتب هكذا في أيّامنا هذه؟ من يذهب إلى هذه الحدود القصوى لحقيقة الصّمت والانتظار؟ شعر الظّلال المتخيّلة سلسلة من الكلمات في منتهى البساطة، ومن الأشياء المألوفة والمشاعر المحدّدة، تُصَفّفُ في القصيد، فيقودنا ذلك إلى الألغاز الأكثر بلاغة، وبتداخلها تتحوّل أجزاء هذا الآجر البدائي إلى قلعة تسكنها الأشباح، فشعر ريفردي يبدو وكأنّه معلّق بتشامخ على ظلال متخيّلة، ويتجاهلنا نحن الذين نقيم في الجانب الآخر من الورقة البيضاء، بل ويصدّنا، وهو يلقي إلينا بابتسامة غامضة غموض أبي الهول، وكأنه يقول «عليكم أن تنظروا وتتعرّفوا على القطّ الأسود بين القطط السّوداء». صوت بلا جرس ينادينا وتتقلّب الرّيح، وشعره المتفصّد عرقا والمرتجف مهابة، يدقّ بقوّة في حنايانا. يقول في إحدى قصائده: فضاء نجمة شاردة الكوكب السّماوي في المصباح بخيط تُمسك اليد اللّيل أغفت السّماء على الأشواك قطرات دم تفقّس فوق الأشواك ومن النّدى ينبثق ريح المساء أبجديّة ضائعة في مكان ما، في ريح للبدايات، تمنعنا من ولوج فضاء هذه القصائد الصّغيرة، فهذه «التّكعيبيّة» التي تتّخذ أشكالا بدائيّة لنستخلص منها بناء خطيرا ولا نهائيّا، كان ريفردي قد احتكّ بها مع أصدقائه الرسّامين براك وبيكاسّو، لقد كان عضوا في طاقم السّفينة - الغاسلة للسّورياليين، بل إنّه بات اصطرلابا محدّدا لوجهتها، فقد أضحى منظّرا للشعر وللتّكعيبيّة. ويسوق ريفردي هذا التّعريف الشفّاف للشّعر «الشّعر بالنّسبة للحياة كالنّار بالنّسبة للحطب، تنبثق منه وتغيّره». وكان ريفردي ذاك الذي يُعِدّ الفحم في أعماق غابات السّرخس والصّور والأشجار الغامضة، والذي أشعل نيرانا كثيرة حيث غرقت سفينة اليوميّ، ولم يتوقّف عن ترصّد «ذلك الشّعور الذي يسمّى الشّعر» ليجعله يخرج ما بداخله. يريد البعض مدّ الأيدي للإمساك بمعاني نصّ ريفردي، فإذا بالنصّ يتملّص ويتراجع، وينطوي على نفسه ليلوذ بالجانب الآخر من الصّفحة. أي نعم.. كلّ شيء عند ريفردي يكمن في الانطواءات، غير أنّها انطواءات نسجت من ندى وتوتّر، لذلك لا يجرؤ أحد على بسطها أو إعادة نشرها. ويتناولها ريفردي طيّة طيّة، بسرد وئيد عند تخوم الأشياء، ولكن خلافا للسّوريّاليين، كان يرفض الصّور الطّارئة غير المتحكّم فيها.. «إنّ الصّور نتاج محض للرّوح، فلا يمكن أن تنشأ من مقارنة، وإنّما من تقريب حقيقتين متباعدتين، وبقدر ما تكون العلاقة بين تينك الحقيقتين متباعدة وسليمة، بقدر ما تكون الصّورة بليغة، وبقدر ما يزداد تأثيرها الشّعوريّ، وتستبين حقيقتها الشّعريّة». يرفض ريفردي أن يكون مجرّد وسيط سلبيّ في العالم، وكان وهو المتقشّف المعتنق للمسيحيّة سنة 1926، والمحرّر منها بسرعة، يرفض المناورة، ويؤثر وضع وجوده في ميزان كلماته، فقصائده ليست سوى «ما هو بين الأسطر»، وينبغي لنا أن نحدسها، أن نعبر غموضها والتباساتها، وبرك صمتها ودوّامات ظلالها، وموسيقاها الخفيّة، فعالم ريفردي عالم متحرّك ومتقلّب، ينبغي أن نعرف كيف نتيه بداخله، وكيف نبحث عن أنفسنا في تمزّقاته وعلاماته الملغّزة، إنّه يراكم الكلمات «ككومة من الحجارة». ولا يزال شعر ريفردي ينتصب عصيّا على رياح الزّمن، ولا تزال النّداءات فيه تجرؤ بالكاد على الصّعود إلينا. رحيل الأفق ينحني تطول الأيام سفر القلب يتواثب داخل قفص طائر يغرّد مع أنه على حافة الموت سوف ينفتح باب آخر في نهاية الرّدهة حيث ثمة وهج نجمة امرأة قاتمة مشكاة، قطار يرحل برك من الكلمات ينبغي لنا إعادة بسط طبقات الأحاسيس، تجفيف الأغطية المبلّلة من على انفلاتاتها على طاولة المشاعر، فشعر ريفردي خال من أيّة نتوءات يمكن التشبّث بها، لذلك ينبغي تسلّق كلماته بأيادٍ عارية وإيجاد مواطئ للصّعود، ولاشيء يؤمّنك من السّقوط إلى القرار، إلى حيث بدأت بالصّعود. لا طريق ولا فنار، وإنّما منطقة شبيهة بتلك التي وصفها تركوفسكي في «ستالكر»، نشعر أنّ فيها منبعا من ينابيع الأبديّة والسّكينة، ولكنّنا لا نراه إلاّ بقلب نقيّ طاهر، وبالتّالي قد يتعذّر علينا رؤيته. إنّ شعر ريفردي يتموقع على درجة أخرى من الزّمن، قد يبدو لنا نحن ثابتا، ولكنّه يحيا وينبض بداخله هو. متهيّب، كان ينظر إلى العالم وهو يعيش ولكنّه كان يرفض السّير وراءه. «جذور العالم تتدلّى في الجانب الآخر من الأرض» فكيف يمكننا استعادتها؟ إنّ ريفردي عالم ضائع بالكاد يتكشّف لنا، وهذا العالم له قوانينه الخاصّة وساعته الرّمليّة ولغته المفردة، وهو القائل «لا يسقط المطر إلاّ على الأشجار وعلى رأسي». سيماء قبالة الجدار أماكن خاوية يتهدّدنا الانزلاق على هذا السّطح المتحرّك الظلّ يسند العبء الإصبع يثقب العدد «هناك، زمن شبيه بالزّمن الآخر في الطّرف الثاني من العالم، إنّنا نفكّر في شخص آخر، وعلى المرمر نترك اسما بسيطا، بلا مقدّمة ولا نقطة. صورة حياته. الذّاكرة. إنّه سعيد. كلّ ما تبقّى فعله ونحن على قيد الانتظار». صمت مهيب يسري في قصائد ريفردي، تبدو الكلمات وكأنّها على قيد الترصّد، والطّرقات تنعرج نحو اللاّشيء، أمّا الزّمن فيبدو معلّقا، ولكن قد يكون ذلك شَرَكا، إذ قد يسقط علينا من على السّطح، الكوارث تكمن ولا تتكشّف البتّة، باب يتصدّع وعند انغلاقه يسقط في الفراغ، الأشياء تمّحي ببطء، وتخفّ سرعتها في هذا الفضاء الزّمنيّ الغريب الذي هو شعر ريفردي. وكم يذكّرنا ذلك بالعالم الموسيقي لسيبليوس، شيء خطير ما يحدث ونستشعره، ولكن ماهو؟ يقول لنا ريفردي بأنّه لا يكون الشّاعر شاعرا إلاّ متى كان موتّرا بجملته كي يتثبّت في خطوط محسوسة وقطرات شفّافة لحالة ضبابيّة وقلق داخلي. مشكّل من انطباعات منفلتة يبقى شعره وكأنّه أرجل مهزوزة في الهواء، متجمّد بفعل ما رآه، ولم تتيسّر لنا نحن رؤيته. هذا المتحدّر من سلالة نحّاتين للحجارة، كان يدرك ماذا تعني الحركة الثّابتة، الحركة المتقشّفة، حركة الخلود. تهجّى مع والده أسرار الرّيح في الجبال والقراءة والكتابة، وكان خبيرا بوزن الخبز، وزن الأشياء وصعوبة المحبّة، وقد قال في هذا «ليس هناك حبّ وإنّما علامات على المحبّة». وقد نلمس أكثر حقيقة شعره في النصّ التالي: «توتّر متدفّق، جوّ من التدلّي مع السجّاد الرّهيب أمام الباب. شيء ما مرّ أو قد يمرّ، وقد تكون ارتجافة الرّيح منذرة بلحظتنا الأخيرة».. كلمات مجرّدة، جمل قصيرة وبسيطة حدّ البكاء، ظلال كلمات شبحيّة، فشعر ريفردي لا يتحدّث، إنّه يهمس، قلق يترصّدنا، يتوقّف الزّمن، اللاّمرئيّ يمشي جيئة وذهابا، خطواته تطقطق باتّجاهنا... المصباح الرّيح السّوداء التي تلوّي السّتارات لا تقوى على رفع الورق ولا على إطفاء المصباح في مجرى من الخوف، يبدو وكأنّ أحدا استطاع الدّخول ما بين الباب المشرع ودرفة الشبّاك الذي يخفق لا أحد ومع ذلك فعلى الطّاولة المرتجّة يتأرجح الضّياء في هذه الغرفة الخاوية الفطنة النّاعمة للإمّحاء كانت لهجته النّاربونيّة لا تسمع في البياض القاطع لكلماته، بوم مسمّر في الكلمات يحدّق فينا، في مناديلها تتخفّى الرّيح، في جدولها اغتسلت قلوب البشر، ندير الظّهر حتّى يمرّ القصيد، سيكون ذلك مَعيننا، ونعرف أنّنا لن نخرج من ذلك سالمين، لقد أسرّ لنا ريفردي باسم الظلّ.. «أنا شهادة مقطوعة من أعلى الرّأس حتّى إخمص القدمين، علامة دقيقة ولكن منفلتة على ما كان يريد قوله الإبداع من أيّامنا هذه حتّى بداية الاصطلاح». لا يعنّف ريفردي القارئ، لا يَشيد بركا في قصائده لنتأمّل فيها، ويقول رونيه شار بصدده «إنّه شاعر بلا سوط ولا مرآة». ريفردي هو إيحاءات في ضباب الأيّام، إنّه تلميح وحفيف أجنحة، إنّه يتحدّث دون ضجيج، ويهمس من قاع بئر وحدته، يريد أن يكون منمحيا، متواضعا، بل بائدا.. «لم أفعل في حياتي شيئا لافتا كي أربحها أو أخسرها». كان قبل كلّ شيء شفّافا.. شفّافا حدّ الانصعاق.. «إذا كانت المرايا خادعة فلتتخلّص منها، ولا تنظر إلى نفسك خارجا عنك، ولكن انظر بداخلك، فهناك تكمن مرآة معتّمة لا تعرف المجاملة». شعره، آثار عبور، تحذير الأوراق التي تتفكّك، واللّيل الذي يجول خلسة، إنّه في منتهى الوضوح، شفيف حدّ الخطورة عند تخوم الشّفايّة والاختفاء. إنّنا معه لا نطأ الأرض الصّلبة، وإنّما نطفو في المتبخّر بلا نهاية. ريفردي هو كريستال الترقّب، إنّه يتقن وصف الأشياء الطّافية في برك الأيّام، وكلماته «صراع ضدّ الواقع كما هو موجود»، إنّه يجعلنا نلمس ما لا يمكن الإمساك به، ما يتحلّل في خوف متربّص، وفي انكسارات اللّيالي المتجهّمة، إنّه يعيد رتق اللاّمرئيّ في نسيج اللاّيقين، ويجعل من الشّعر «واقعا مُأنسَنًا» يتحوّل فيه المعيش اليوميّ إلى طاقة لارتجافاتنا التي بالكاد نستشعرها. سرّ كبير يحوم حول شعر ريفردي، سرّ جذّاب وساحر، نَفَسٌ غامض، يتعلّق به هو، ولكن بنا نحن أيضا. كلّ ثقوب الكلمات مشبعة بتلك الحياة التي تبلورنا. شعر ريفردي شعر ثقيل، مثقل بالمعاني، فطن، ممغنط في السرّ بأحلام الحجارة، شعلة متأجّجة، وميض خاطف لعالم قريب وبعيد في آن. في شعر ريفردي نبدو بإزاء لعبة غريبة للورق، نحن لا نرى الورق، ومع ذلك فإنّ قدرنا هو موضوع اللّعبة التي تدور أمامنا، ومتى كنّا غائبين أيضا. تصمت الرّيح، ينكتم الصّوت، وبدون ضوضاء ينثال علينا سقْطُ كلماته الثّلجيّة.. أحد قادم.. وهذا الأحد هو ذاك الذي لن نشهده سوى مرّة واحدة في حياتنا، إنّه ريفردي.. هو الأعمى الذي كانت عيناه عند أطراف أصابعه.. «ذاب الوجه في الماء.. في الصّمت ثقل هائل على النّهد ماء كثير في الجرّة ظلال كثيرة مراقة دم كثير على السّلالم و لم ينته هذا الحلم البلّوريّ بوكس مع الموضوع مختارات من شعر ريفردي* انتظار حين تشقّ الابتسامة السّاطعة للواجهات الزّخرف الواهي للصّباح، وفيما يكون الأفق لا يزال مترعاً بنعاس متباطئ، والأحلام تهمس في الجداول قرب الأسيجة، وحين يجمع اللّيل خرقه المتدلّية بالأغصان الواطئة للأشجار، أخرج، بل أتأهّب للخروج، وأنا أكثر شحوبا وارتجافا من تلك الورقة التي لم يخطّ فيها القدر بعد، أيّة كلمة. جَزْرٌ.. كلّ المسافة التي بيني وبينك - من الحياة التي تجفل في راحة اليد، إلى الابتسامة القاتلة للحبّ المحتضر - تترنّح وهي ممزّقة. إنّي لأريد في هذا المساء، وبجهد فوق طاقة البشر، أن أرجّ كلّ هذه الكثافة من الصّدأ، هذا الصّدأ المفترس الذي يشوّه قلبي ويقرض يديّ. ما مبرّر أن نمكث طويلا مدفونون تحت أنقاض الأيّام واللّيالي، الغبار والأشباح. وأيّ قيمة لهذا الفيض من الحبّ، ولماذا هذا الفيض من الحقد والكراهيّة. دم خفيف يتدفّق أمواجا عظيمة في مزهريّات ثمينة، إنّه ينساب في أنهار الجسد، مانحا الصحّة كلّ أوهام النّصر. ولكن المسافر المجهد، المدهوش والمسحور بالأنوار المغوية للمنارات ينام واقفا، إنّه بات عاجزا عن مقاومة المرور الممغنط والمتكرّر للموت. هذا المساء أريد أن أنفق الذّهب المكنوز في ذاكرتي، وأن ألقي بحقائبي الثّقيلة. لم يعد هناك أمام ناظريّ غير السّماء العارية، جدران السّجن التي تقبض على رأسي وحجر الرّصيف. ينبغي الصّعود من غيهب المنجم، من الأرض المثخنة بدبال البلاء، وأن نستعيد الهواء من الزّوايا الأكثر ظلمة في الصّدر، أن ندفع به إلى الأعالي حيث يتلألأ الجليد بكلّ النّيران المتقاطعة للحريق حيث يتدفّق الجليد، فيدفع بالطّبع السيّئ في مهبّ العواصف غير الرّحيمة للغرور والأنانيّة، والأحكام القاطعة للعقل. حريّة البحار لم أعد لأنتظر شيئا وقد عاد كلّ شيء كما كان، طراوة الأجوبة، ملائكة الموكب، أشباح الماضي، جسور الغد، وخاصّة سعادة أن أرى المسافة تتمدّد. كنت دوما أريد الذّهاب أبعد من ذلك، إلى ما هو أعلى وأعمق، وأن أتخلّص من الشّباك التي كنت أسيرا بداخلها. ولكن ماذا بعد؟ حين كانت حركاتي تتوقّف، كان الزّمن يرتدّ بي ليضعني أمام نفس الباب. تحت أوراق الغابة، تحت مرازيب المدينة، في سراب الصّحراء أو في الرّيف السّاكن، دائما ذلك الباب المغلق - صورة ذلك الرّجل الذي استنسخ قناعه عن الموت، مأزق مع كلّ مبادرة. حينها، تصاعد نشيد ساحر عند تعرّجات الممرّ. بدأ النّاس بالحديث، وإذا بالسّعادة تزهر تحت إبط كلّ ورقة، في جوف كلّ يد مليئة بالعطايا وبأمل مجنون. إذا تحدّث النّاس عن الحبّ، ينبغي أن نرى على صفحة السّماء خطوطا متحرّكة شبيهة بالابتسامة. لقد سقطت السّلاسل، كلّ شيء غدا واضحا، كلّ شيء غدا أبيض - اللّيالي الثّقيلة التي ترفعها أنفاس فائحة، تنقّيها أمواج عظيمة من الأنوار. المستقبل بات أكثر دنوّا، أكثر رشاقة وأشدّ إغواء، وعلى الشّارع الذي يصله بالحاضر، طوق طويل، بل طوق طويل جدّا من القلوب المتوهّجة كثمار الخوف هذه، التي ترسم حدودا للّيل عند قمّة عمود مصباح الشّارع. رمل متحرّك (مقتطف) عندما يشرع الموج المتدافع في غسل هياكل السّفن بخشونة وحين ستبدأ الرّيح في قضم الصّواري وحبال الأشرعة سأمضي إلى الأسفل ربّما على غير هدى إلى جانب آخر أو ربّما جعلت قطرات الذّهب تتساقط في الغبار ربّما مضيت لأموت في جوف اللّيل أو ربّما ذهبت لتنقية قلبي في ماء الجدول كما ينقّى الثوب متى دنّسته قسوة القدر ولكن لو أمهلني القدر كي أخسر أو أربح وأنا على طريق الصّدفة فكم سأحتاج إلى أن أضحك وأن أنتظر الدّم بين ليلة وأخرى لذلك أناشد السّماء أن لا ينظر إليّ أحد وإلاّ فلينظروا عبر عدسة خادعة محتفظين فقط عبر الحجاب المجمّد للأفق المكفهرّ بذلك الملمح الدّقيق والقاسي لسلك حديديّ، جعله شاحبا الماء الجاري دمع النّدى قطرات الشّمس ورذاذ البحر قفّاز من شَعْر (مقتطف) يا له من اختبار رهيب ومتكرّر، أن نجلس لكتابة أجمل قصيد في العالم، أن نشعر بأنّه بداخلنا، بأنّنا نعيشه، أن نحتوي بصعوبة جماله المرتجف الذي يتدفّق، فيغيّر كياننا ويرفعنا، ثمّ أن نظلّ بتلك الكتلة من الثلج بين الأصابع، أو ذلك الرّماد. كلّ ما بقي احترق بالدّاخل، في الخارج لم يعد هناك غير وميض اللّهب، لأنّ الشّاعر فرن لحرق الواقع. من كلّ الانفعالات الخام التي تنتابه، تنبثق ماسة من ماء وبريق لا مثيل لهما، تلك حياة مختزلة في بعض الصّور وبعض الجمل. منعطف غبار رماديّ رهيب يعلق بالزّمن ريح جنوبيّة بأجنحة قويّة أصداء صمّاء للماء في المساء المتقلّب وفي اللّيل المبلّل المنبجس عند المنعطف أصوات خشنة ترتفع بالشّكوى وعلى اللّسان طعم الرّماد صوت أورغن على الطّرقات ومركب القلب يتمايل بكلّ كوارث البراعة حين تنطفئ نيران الصّحراء الواحدة بعد الأخرى عندما تكون الأعين مبلّلة كعشبة طريّة حين ينحدر النّدى بأرجل عارية فوق الأوراق ما كاد الصّباح ينهض فإذا بأحدهم يبحث عن عنوان مفقود في الطّريق المخفيّة الكواكب المتآكلة والأزهار تتساقط عبر الأغصان المنكسرة والجدول الغامض يمسح شفاهه الرّخوة التي بالكاد تثلّمت عندما تكون خطوة الماشي على مقياس الزّمن الحاسب تنتظم الحركة وتدفع بالأفق  جميع الأصوات المطلقة في كلّ الأوقات تلتقي وأنا أمضي نحو السّماء وعيناي في الأشعّة هنا.. ضجيج لا مبرّر له وأسماء في رأسي وجوه حيّة كلّ ما حدث في العالم ثمّ ذاك الاحتفال حيث شرد منّي زمني * ترجمة: أ. ح. بوكس مع الموضوع ناشد السّماء كي لا يراه أحد وهو ذاهب للموت ريفيردي خجول، كان نادرا ما يتحدّث عن حياته، وبالتّالي يمكن أن نشير بكلّ بساطة إلى أنّه ولد في 13 سبتمبر 1889 في مدينة نربون، وأنّه تشرب روائح الجبل والبحر، وأنّه عرف باريس وفنّانيها سنة 1910. دخل باريس التي يلفّها الضّباب ودخان القاطرات، ليشكو فيها من البرد والجوع، حينها أضحى الفحم ثروة أندر من شذرات الذّهب.. «وكنت أكتب في مخزن يتسرّب الثلج من تصدّعاته ليصبح أزرقَ»، هناك سيعيش من الكتابة، وسيتحدّث عن الرّسم مثل أصدقائه الرسّامين، بيكاسّو وبراك، وسيتحدّث عن الشّعر مثل أصدقائه الشّعراء، أبّولينير وماكس جاكوب.. وكانت أولى قصائده النّثريّة قد نشرت سنة 1915. وأن يكون قد ثبّت في الأرض عقيدة السّورياليّة فإنّ ذلك لم يكن ليرضيه، إذ كانت تحدوه رغبة جامحة لترصّد اللاّمرئيّ وأسرار ما فوق الواقع، لذلك حمله الشكّ، وتوجّهه الرّوحانيّ إلى القطع مع رجل الأدب المتألّق الذي كان، والعودة إلى سولاسم، أمام باب الكنيسة سنة 1925، وكانت سنّه تناهز آنذاك سبعا وثلاثين سنة. هناك لن يجد مفتاح الباب، وكما لو كنّا داخل قصّة من قصص كافكا، سيمكث ريفردي في حجرة الانتظار - حيث سيخبره الحارس بأنّ ذلك الباب ليس له - على قيد اليقظة ومنعزلا، لن يرى العدوّ مقبلا عليه لأنّ «الصّلاة لا يعرفها سكّان الظلّ». وفي 17 يونيو 1960 توفّي ريفردي في سولاسم في سنّ الواحدة والسبعين، في تلك «القرية الرّهيبة والباردة على الدّوام». وحيدا وفي حالة من الاحتياج، كان يريد أن يعيش ويموت في نفس العاصفة، فكانت عاصفة من الصّمت والتّساؤلات. هناك لن يكتب الكثير، وسيبقي دائم التّوق إلى باريس. وكان يقول إنّه «يناشد السّماء كي لا يراه أحد وهو ذاهب للموت في جوف اللّيل»، وقد تحقّقت أمنيته بأكثر ممّا كان يرتجي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©