الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صراع الجاذبيات الثقافيّة

صراع الجاذبيات الثقافيّة
21 أكتوبر 2015 22:25
هكذا إذاّ، لا يتمّ قياس القوّة من خلال الميزانيات الاقتصادية والعسكرية فقط. فالموارد غير المادية أو «القوّة الناعمة» (الجاذبية الثقافية، النتاج الفكري والفني، الإشعاع العلمي، المساعدات الإنسانية، وما إلى ذلك) ضرورية للدول لفرض نفسها في المؤسّسات الدولية، وفي العلاقات الثنائية، ولدى الجمهور العام. ومفهوم «القوّة الناعمة» مستخدَم في العلوم السياسية، بغية فهم جذور استمرار الهيمنة الأميركية على العالم، إذ العامل الثقافي في العلاقات الدولية له ثقله الرمزي الكبير والخطير للغاية هنا، بخاصة في إطار ما بات يسمى بـ«البعد الرابع للسياسة الخارجية الأميركية»، وربما غير الأميركية أيضاً، بوصفه بعداً مضافاً إلى أبعاد النفوذ التقليدية الثلاثة المتعارف عليها: السياسية، الاقتصادية والعسكرية. وهكذا يمكن استيعاب مفهوم القوة الناعمة الثقافية هنا لالتقاط النمط الآخر من حضور دول البريكس على الساحة الدولية. في الجاذبية الثقافية الصينية لم تقتصر جهود التحديث الحكومي في الصين على الجانب الاقتصادي والعسكري فقط، إذ تقوم الصين بصوغ صورتها من خلال قنوات عدّة: دبلوماسية وثقافية وأكاديمية. وتتميّز الثقافة الصينية بالجاذبية البسيطة و الغامضة في آن (فلسفة، حكمة، موسيقى، أوبرا، مطبخ صيني، وشم..)، بحيث أصبحت هذه القدرة على الإغراء، حالياً، عنصراً من عناصر السياسة الخارجية الصينية. وبالتالي، لئِن كان لدورة الألعاب الأولمبية التي أُجريت في بكين وظيفة داخلية (تقوية الشعور بالاعتزاز الوطني وشرعية الحزب الشيوعي الصيني PCC)، فإنها أسهمت كذلك في بناء هذه القوّة الناعمة ، بقدر ما أسهم في ذلك أيضاً معرضُ إكسبو العالمي، الذي أُقيم في شانغهاي في العام 2010 (الأولمبياد الاقتصادية). على مدى عقد من الزمن، قامت الحكومة الصينية بتعزيز شبكات الاتصال والتواصل (الإنترنت والصحافة والتلفزيون) وإتاحتها أمام الجمهور غير الصيني. كما عزّزت معاهد كونفوشيوس التي تتيح تعلّم اللغة الصينية المعروفة باسم الماندرين، وبنشر الممارسات الثقافية (الخطّ الصيني)، وذلك من خلال مراكزها المختلفة في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية. وقد تمّ إحصاء أكثر من 330 مركزاً ثقافياً صينياً في جميع أنحاء العالم في العام 2014، بما في ذلك 18 مركزاً في فرنسا وحدها. وتشير التقديرات إلى أن أربعين مليون أجنبي يتعلّمون اللغة الصينية. ومعهد كونفوشيوس الصيني، بات يضارع ويتجاوز نظراءه المتوزعين مثله في عواصم العالم:المركز الثقافي البريطاني، والجمعية الثقافية الفرنسية، ومعهد غوته الألماني، ومركز جون ف. كينيدي الأميركي. وتزيد الجامعات الصينية شراكاتها مع مؤسّسات أجنبية، وتكيّف مضمون مناهجها الدراسية، وأشكال هذه المناهج، لتحقيق النجاح في السباق العالمي للتميّز. وهناك 267 ألف طالب أجنبي وافد في الصين. وقد احتلت كل من جامعة تشينغوا وجامعة بكين الصينيتين المرتبتين 49 و52 على التوالي، من بين 200 جامعة ممتازة في العالم، بحسب القائمة التي نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، وفقاً لمؤشر التعليم الجامعي. هذه الرغبة في أن تكون الصين جزءاً من نخبة نادي الكبار في العالم، تنعكس أيضاً في مختبرات الأبحاث «شيان» Xi’an أو «شنتشن» henzhen أو في صالات الفنّ المعاصر في بكين أو شنغهاي. وبالمثل، فإن صناعة السينما الصينية، التي تهيمن عليها منذ فترة طويلة «سينما صُنع في هونغ كونغ»، فرضت نفسها في المنطقة والعالم، وصار «مهرجان بكين الدولي للأفلام السينمائية» قبلة أنظار مدمني الفن السابع ونقاده في الشرق والغرب. وقد سجّل في دورته الثالثة اشتراك أكثر من 850 مؤسسة وشركة صينية عاملة في القطاع السينمائي، وبحضور أربعة آلاف مشارك، بينهم مشاهير نجوم السينما الصينية والعالمية أمثال: نجم أفلام «الأكشن» «جاكي شان»، والمخرج الشهير «تشانغ يي موه»، والمخرجة «آن هوي»، وهي واحدة من أكثر المخرجات السينمائيات الصينيات إثارة للجدل فنياً وسياسياً، داخل الصين وخارجها. وقد حصدت على فيلمها «العصر الذهبي» في الدورة التاسعة والثلاثين لمهرجان هونغ كونغ جائزة أفضل مخرجة. تقول «آن هوي»: «إن على السينمائيين الصينيين والآسيويين، مخرجين وممثلين ومنتجين، أن يكسروا احتكار هوليوود لسوق السينما العالمية، خصوصاً وأن مستوى أفلامها (أي هوليوود) في السنوات الأخيرة، قد تراجع عما كان عليه في العقود السابقة، وبدرجات مفارقة جداً. وأن هذه السينما الأميركية ذات الإنتاج الفيلمي الضخم، ستظل تتراجع، طالما أنها ما تزال وحتى الآن، تعيش مغرورة وبخيلاء على أمجادها القديمة، ولا تستأنف نهضة فيلمية جديدة مغايرة لكل ما سبق. أنا ضنينة بالسينما الأميركية في أن تتراجع، لأنني أحبّها كسينما، ومعجبة بإنجازاتها، بل نشأت على عشق هذه الإنجازات الفنية الرائعة، ففي النهاية الفن السينمائي، وغير السينمائي، هو ملك البشرية جمعاء وليس ملك من ينتجه فقط». ومن الواضح، على مستوى آخر، أن شبكة العلاقات التي نسجتها الصين مع دول العالم قاطبة، «بلا تحفظ»، وعدم انتقادها لما حصل من مجازر بوذية ضد المسلمين في ميانمار (بورما سابقاً) وما حصل في السودان وزيمبابوي، فضلاً عن القمع الذي ارتكبته حكومتها السابقة في ميدان تيانانمين Tian’anmen في العام 1989، والتيبت Tibet، أو شينجيانغ Xianjiang حالياً. كلّ هذه الأمور، صحيح أنها لم تعزّز صورة الصين إيجاباً في الديمقراطيات الغربية، لكن مع ذلك، يظل هذا البلد الضخم، بالنسبة إلى كثير من البلدان في العالم «أنموذجاً» يُحتذى به. فنجاح دولة تمكّنت من الجمع بين النموّ والتحديث وسياسة الحزب الواحد، لا يخلو من سحر بالنسبة إلى كثير من النخب الفكرية والثقافية في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية. إذ يظهَر «توافق أو إجماع بكين» (نظام سلطوي + اقتصاد سوق) كبديل لـ«توافق أو إجماع واشنطن» (ديمقراطية وحقوق إنسان + اقتصاد سوق). ولا تكفّ الحكومة الصينية عن التوكيد، عبر الاتصالات الدولية، على الطابع «السلمي و«المتناغم» لظهورها. وبالتأكيد، لا يزال الحزب الشيوعي الصيني PCC يعتبِر تايوان «جزءاً لا يتجزّأ من الصين»، ولكن يبدو أن القادة السياسيّين يعتمدون بعض البراغماتية مع هذا البلد الذي أصبح واحداً من شركائها الاقتصاديين الرئيسيين. هذا، فيما تعزّز القمم المختلفة (قمة الصين- أفريقيا، الصين وأميركا اللاتينية، وما إلى ذلك) صورة الصين بين البلدان النامية. وفي الوقت الذي تنمو فيه ميزانيّة الصين العسكرية، وتتجلّى أكثر فأكثر مطامعها الإقليمية في جزر باراسيل وسبراتلي Paracels et Spratleys، يمكن للصين، من خلال الدبلوماسية الناعمة، أن تقدّم نفسها كبلدٍ يعتمد «النهضة السلمية». وفي إطار ثقافة «القوة الناعمة»، تعمل الصين بدأب كي تكون دولة مسؤولة على الكرة الأرضية، فهي تقدم مساعدات متوالية للدول النامية، حيث بلغت قيمة مساعدات التنمية التي قدمتها الحكومة الصينية في هذا المجال حتى أواخر العام 2014 حوالي ملياري دولار أميركي، بحسب تقديرات وزارة الخارجية الأميركية. كما تتولّى شخصيات صينية مناصب قيادية في منظّمات دولية مثل السيدة «مارغيت تشن فنغ فوتشن» في منظمة الصحة العالمية، والدكتور «لين بي فو» في البنك الدولي، والسيد «شاتسو كانغ» في الأمم المتحدة. هكذا، إلى جانب القوة الصلّبة للصين، أي القوة الاقتصادية والعسكرية، التي تواصل نموّها بتعاظم «مخيف»، تستخدم بكين قوّتها الناعمة، من خلال الثقافة وتجليّاتها، على نحو ذكي لـ«تليين» صورتها، ولكي تستحيل جبّاراً دولياً مرغوباً فيه، وأكثر جاذبيةً. القوة الناعمة الهندية: ثقافة التكنولوجيا بالنسبة إلى الهند، يتمّ تسويق «القوّة الناعمة» أساساً من خلال أربع قنوات: الشتات الهندي، المعرفة التكنولوجية، صناعة السينما العالمية، التراث الديني. ويُعتبَر الشتات الهندي، الذي يحوي ما يقرب من 15 مليون شخص، ناقلاً مهمّاً للنفوذ الهندي في بريطانيا والولايات المتّحدة. وهو يشارك في تطوير صناعة المعلوماتية في «وادي السليكون» Silicon Valley الكائن في المنطقة الجنوبية من خليج سان فرنسيسكو في كاليفورنيا الأميركية. ورد في تقرير نشرته النيويورك تايمز«أن الهنود يشكّلون أكبر شريحة من بين شرائح الجنسيات التي أنشأت تكنولوجيا جديدة في وادي السليكون الأميركي، حيث تفوقت أربع مرات على الشرائح الأربعة الآتية: المهاجرون من بريطانيا والصين واليابان وتايوان، مجتمعين». وتردف المعلومات أن المهندسين التقنيين الهنود، هم دائماً في الطليعة، مقارنة بنظرائهم من الجنسيات الأخرى، خصوصاً لجهة اجتراح الاختراعات التكنولوجية أو توليد المستجد من القائم منها، وإعداد أطقم المهارات المناسبة لها. وفي المناسبة، فإن الذي ساعد المهندسين «الهنود» على ضمان هذه الريادة المستمرة، كان «المعهد الهندي للتكنولوجيا» (IIT)، وهو نموذج عن «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» (MIT)، المرجعية الأكاديمية التي يتمّ تسخيرها لترويج «التميّز العلمي الهندي» للطلاّب وللشركات المتخصّصة في تكنولوجيا المعلومات والإتصالات. وثمة سبب آخر لتفوّق الهنود في قيادة شركات التكنولوجيا في وادي السليكون وغير وادي السليكون، يعود إلى طبيعة الشخصية الشبابية الهندية ذات التخصّص العلمي العالي، وهو دأبها على العمل بجديّة وصمت وتحدّي المجهول العلمي بلا صراخ استعراضي. يقول الأميركي غورنك بينز صاحب كتاب «المادة الوراثية الثقافية: علم نفس العولمة»: «تواضع العالم الهندي العميق، يعود إلى التقاليد الهندية التي تؤمن بوجود آلهة عدّة، وحقائق متنوعة، ووجهات نظر متعدّدة، وكلها تجعله واسع الأفق، وازن العقل، غير ثرثار وغير مستعرض، وبارعاً دقيقاً في إحلال الأداة العلمية محل الرؤية الممهدة لها. العالم الهندي الشاب ذو طاقة كبيرة رهيبة، متى دُعمت وتعزّزت، علمياً ومادياً، أنجزت ما يفوق التصور من انفجارها العلمي المفيد والمفتوح على المفاجآت». وللتدليل أكثر على الريادة الهندية العالمية في مجال هندسة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، جاء هذه المرة من شركة غوغل نفسها، التي أعلنت في أغسطس الماضي عن تعيين المهندس الهندي «سوندار بيشاي» رئيساً تنفيذياً لها. كما تمّ تعيين مهندس هندي آخر يدعى «ساتيا ناديلا» رئيساً تنفيذياً لمايكروسوفت. وهناك أكثر من عشرة مفاتيح هندية قيادية أخرى هي وراء نجاح صناعة تقنية المعلومات في وادي السليكون. وفي هذا كله دلالة واضحة على نجاح استثمار الهند بالتكنولوجيا كقوة ناعمة، وإن صار شبابها المتفوّق، في نسبة كبيرة منه، من حملة الجنسية الأميركية، إلاً أنهم ما زالوا يحتفظون لبلدهم الأم بولاء يُضارع ولاءهم لبلدهم الجديد، ولهذا السبب بدأنا نشهد تشكيل لوبي أميركي هندي مؤثر في سياسة الحياة العلمية الأميركية. يقول جورج إدغار كلاس، وهو أحد الخبراء الأميركيين من أصل لبناني، وممن كانوا يعملون في «وادي السيلكون»: «إن الهنود ومنذ أكثر من عقدين، باتوا يشكّلون لوبياً علمياً ضاغطاً على الحياة العلمية الأميركية في مسارها الجديد، وهو اللوبي النافذ الذي بدأنا نرى من خلاله، وبقوة الأمر الواقع، تعاوناً أميركيا هندياً نافذاً، في مجال تطوير منظومات فضائية معقدّة، وخصوصاً في قلب وكالة نازا الفضائية الأميركية». من جهة أخرى، وفي إطار كلامنا على القوة الناعمة الهندية، فلا بدّ لنا من الكلام عن السينما الهندية، التي شكّلت قناةً من قنوات التأثير الثقافي، بخاصّة في البلدان النامية. وقد فتحت استوديوهات مومباي (بومباي) عهداً جديداً في نشر السينما الهندية الموجودة بالفعل في جنوب شرق آسيا أو الشرق الأوسط. بدأت «بوليوود» (اسم مركّب من اختصار بومباي وهوليوود عاصمة السينما الأميركية) تفرض نفسها من خلال أفلامٍ من النوع الشعبي الرومانسي، تُعرَض في كثير من الأحيان باللغة الهندية، ويتمّ تصديرها إلى جميع أنحاء العالم، بحيث تشكّل عناصر مثل الكوريغرافيا، عالم الموسيقى، السيناريو المستند إلى تراكم القصص (حبّ، دراما عائلية، أعياد، عنف، تجميل للفقر، وتعظيم لصورة بعض الأغنياء الهنود، ممن يعطفون على الفقراء...إلخ) والذي يستمرّ عادةً لمدّة ساعتين أو ثلاث، تشكّل هذه العناصر كلّها إذن مزيجاً مسلياً. نجاح الأفلام الهندية في الخارج سهل أيضاً، لأن الفيلم الهندي يوفّر خياراً آخر، بدلاً من الأفلام الأميركية المنتشرة بدورها، وحيث يتألّف جمهور هذه الأفلام من الأسر التي تحتمل رقابة القوى السياسية والدينية. وأخيراً، يسهم كلٌّ من التراث والحاضر الديني في نشر القوّة الهندية الناعمة أيضاً. فمن جهة، يسمح التنوّع الديني الكبير على الأرض الهندية بظهور البلاد «كنموذج» للعلمانية. ومن ناحية أخرى، يتمّ استخدام التراث الهندي البوذي كموردٍ يسمح للسياسة الخارجية بالترويج للهند، بوصفها «الحضارة الأم» للمعتقدات الدينية المركزية لآسيا. ولئِن وُلِد مؤسّس البوذية، سيدهارتا غوتاما Sinddhartha Gautama (أي بوذا) في النيبال، إلاّ أنه أمضى معظم حياته الروحية في الهند. وهكذا، تفرض الهند نفسها كحارسٍ للتراث البوذي، خصوصاً وأنها شكّلت ملاذاً لملايين البوذيين التيبتيّين الفارّين من اضطهاد السلطة الصينية قبل مرحلة قيام «منظومة البريكس» بأكثر من عقدين. فهذا «الرأسمال الديني» يمنح الهند شرعية تاريخية وفكرية للحصول على مكانة في المنظّمات الإقليمية في جنوب شرق آسيا. كما تمثل السياحة الدينية الهندية البوذية جذباً ثقافياً خاصاً للكثير من الأوروبيين والأميركيين، الذين يفتشون عن سلام داخلي، وحياة مستقرّة هانئة، من خلال تعاليم بوذا، خصوصاً منها تلك المتوضّعة في «نصوص السوترا» الرفيعة الإيحاء. كما أن الكثير من الغربيين، ومن مختلف المستويات الثقافية والفكرية، يحجّون إلى الهند للتبرّك بكبار الكهنة البوذيين، والتزوّد بطرائق تعاليمهم الموصلة إلى النيرفانا (حالة من صوفية الوعي والإدراك لا يمكن فهمها إلاّ بنسبة ضئيلة للغاية من الذين يدخلون فضاءها الرحب). ميدان الثقافة الروسية كقوة ناعمة أما بالنسبة إلى روسيا، فإنها تطوّر سياسة ثقافية نشطة، غير أنها تواجه تحدّيات عدّة من أجل تعزيز جاذبيّتها. فنهاية توحيد البلدان المجاورة لها على المستويين الإيديولوجي والعسكري، تُرجم أحياناً برفض اللغة الروسية. يُضاف إلى ذلك كلّه، التنافس الذي يلاقيه انتشار الثقافة الروسية نتيجة التأثير الأميركي، أو الغربي الأوروبي، ناهيك بالثقافات الإسلامية في الجنوب، والدينامية الصينية في الشرق. لكنّ هذه العقبات لا ينبغي أن تحجب الجهود الروسية الرامية إلى فرض نفسها كـ«قوة ناعمة». فالمراكز الروسية للتعاون العلمي والثقافي في العالم (المختصر باللغة الروسية Roszaroubejcentre) توجد في أكثر من 60 بلداً، توفّر دروساً في اللغة الروسية، وتنظّم مناسبات ثقافية موجَّهة بشكل خاص إلى الشتات الروسي في الخارج. فقد تركّزت نشاطات المراكز هذه في اتجاه الروس الذين هاجروا إلى إسرائيل، باعتبارهم يشكّلون الآن أكثر من 20% من مجموع سكان الدولة العبرية، وتعتبر اللغة الروسية لغة شبه رسمية في إسرائيل، وكذلك كان التوجه الثقافي الروسي نحو الألمان في روسيا نفسها، هؤلاء الذين لا تزال الثقافة الروسية تشكّل لهم الهويّة الموحِّدة أو الجامعة في مواجهة صعوبات التكيّف المادي والثقافي. كما تشكّل الثقافة الروسية أيضاً قوّة موجِّهَة للمطالبة بضمّ الأراضي في الجمهوريات الانفصالية لأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية (أجزاء من جورجيا) وترانسنيستريا (جزء من مولدوفا). تُظهِر الحالة الروسية أن القوّة الناعمة والقوّة الصلبة، غالباً ما تكونان مرتبطتين، ويشهد على ذلك غزو شبه جزيرة القرم من قبل الجيش الروسي في الماضي (غير القريب) من جهة، والتطلّعات الثقافية للسكّان من جهة ثانية، الذين يعيشون في تلك المنطقة المنضمّة إلى أوكرانيا منذ العام 1954. يلاحِظ العديدُ من المعلّقين وجود «دبلوماسية غاز» جديدة «كسلاح ليِّن» بيد روسيا. ففي أوكرانيا وغيرها من البلدان المجاورة لروسيا، من البديهي التحدّث عن «طاقة لاقطة». وبالتالي، فإن دبلوماسية الغاز الروسية، هي في أساس إعادة رسم سياسات الطاقة في دول الاتحاد الأوروبي وتحديدها. ولئِن تميّزت روسيا بفضل مواردها الطبيعية باستراتيجية فاعلة على المدى القصير، فإن اعتمادها على دول الاتحاد في تصدير الطاقة، ليس بالمضمون تماماً على المدى المتوسّط، ولاسيّما أن عائدات تصدير النفط والغاز، تشكّل أكثر من نصف إيرادات الميزانية الفيدرالية وأنها أي تلك العائدات تغذّي الصناديق السيادية. وتعتبر الثقافة الروسية بتنويعاتها الفنية والأدبية، عنصراً جاذباً لكثيرين على مستوى العالم الغربي، خصوصاً مُدمني الموسيقى الكلاسيكية، فما زال سحر الموسيقار الكبير ريمسكي كورساكوف (مثالاً لا حصراً) يلهب مشاعر الملايين بسمفونيته الخالدة: «شهرزاد». أما روائع تشايكوفسكي فحدّث ولا حرج تجاه سيطرتها على الأرواح والقلوب، تماماً كسيطرتها على معاهد تعليم الموسيقى في الغرب والشرق. ويعتبر مسرح البولشوي، من أكبر المعالم المرتبطة بخصوصية فن الباليه وموسيقاها في العالم. وهذا الفن الراقص من أقدم وأكثر الفنون شعبية في روسيا. واستطاع الروس، ومنذ عقود طويلة، تسويقه في القارات الخمس، ولاسيما من خلال عروض فرقة البولشوي بلوحاتها المعجزة الباهرة، وفي طليعتها «باليه بحيرة البجع» التي عشقها الأوروبيون والغربيون أكثر من عشق الروس لها. أما متاحف روسيا للفنون التشكيلية والنحت، فهي قبلة أنظار عشاق فن الخط واللون، وفن نحت الحجر والخشب والمعدن في العالم قاطبة. قال النحات الفرنسي رودان (1840 1917): «من لم ير فن النحت الروسي ويتذوقه من الفنانين، فهو حتماّ يعاني من نقص شديد في ثقافته النحتية، ويصحبه هذا النقص، حتى إلى صميم تجربته النحتية التي ينغمس فيها». ومن أشهر متاحف روسيا الفنيّة: «الأرميتاج» في مدينة سانت بطرسبورغ، وهو المتحف الذي افتتحه القيصر الروسي نيقولا الأول في فبراير من العام 1852، ويحتوي على ما يقارب الـ4 مليون قطعة فنية، تستعرض تطور الفن البشري عبر التاريخ.. من العصر الحجري إلى يومنا هذا. تبعاً لذلك، تزور هذا المتحف، وسنوياً، أعلى نسبة زيارات لمرتادي متاحف كبرى في العالم (من الأجانب) وخصوصاً في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين واليابان. وهناك «المتحف الوطني الروسي للفنون»، والذي يضمّ ما قوامه 158 ألف لوحة لكبار فناني مدارس الفنون التشكيلية الكلاسيكية، والحديثة، وفن ما بعد الحداثة في روسيا. وقد زار هذا المتحف كبار فناني العصر أمثال: بيكاسو، سلفادور دالي، وخوان ميرو وغيرهم.. وغيرهم. وعلّق خوان ميرو على زيارته لهذا المتحف الضخم: «علمني التجريديون الروس حقيقة واقعية التجريد، وأنا ممتنّ لهم بالكثير من مراحل حياتي الفنية». وللأدب الروسي، روايةً وقصةً قصيرةً وشعراً، جاذبيته العالمية المستمرة، من خلال الأسماء الأعمدة: تولستوي، تشيخوف، غوغول، بوشكين، تورجنيف، غوركي، دستويفسكي، بلوك، باسترناك، شولوخوف، إخماتوفا، سولجنتسين وغيرهم.. وغيرهم. رموز عرفها قراء الأدب الجديّون في العالم أجمع، وبأكثر من سبعين لغة. والبعض منهم كتولستوي في «الحرب والسلم»، ودستويفسكي في «الإخوة كارامازوف» وتورجنيف في «الآباء والأبناء» وغوغول في «تاراس بولبا» وباسترناك في «دكتور جيفاكو»، حققوا في الغرب فقط، مبيعات خيالية فاقت نتاجات أكبر وأشهر الأسماء الأدبية الأميركية والفرنسية والألمانية والأميركية اللاتينية. يقول الناقد الأميركي جون فرنكلين: «ما زلنا حتى اليوم نقتات على روايات وأشعار رموز الأدب الروسي الكلاسيكي، ونتعامل معهم كجزء من التراث الإنساني الشامل، الذي لم ترق أمة إلى الإتيان بمثل غناه وتنوعه الدرامي الشامل» كل هذا، وغيره، شكّل إذن، قوة ناعمة ذات جاذبية قصوى لروسيا، تعمل حالياً على استنفارها من جديد لمواجهة الجاذبيات الثقافية الأخرى للخصوم الغربيين الأقوياء، والسائرين على منوالهم.. كاليابان مثلاً.bodyw حُكي الكثير عن دول البريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب أفريقيا) بالمعنى الاقتصادي والسياسي والأمني العسكري الإستراتيجي، لكن لم يُحك عنها من الجوانب الثقافية مجتمعة، وما يمكن أن تشكّله بكليتها من قوة ناعمة في إطار الاستثمار بالمعرفة والفنون والرصيد الإبداعي على اختلاف أجناسه ومشتقاته، ذلك أن جهات ثقافية وتربوية على مستوى وزراء من مختلف هذه البلدان، بدأت تشتغل حالياً على بلورة آليات عمل بحث ثقافية، من شأنها أن ترافق عمل الآليات الاقتصادية التي يقال إنها تسير ببطء مقصود، حتى تؤمّن رصّ آخر مداميك نجاحها على مستوى تشكيل قوى عولميّة مواجهة للقوى العولميّة الأخرى المسيطرة من خلال الثالوث: الأميركي، الأوروبي والياباني. أيقونة الروس «بحيرة البجع» التي ألّفها الموسيقي الروسي الكبير تشايكوفسكي في العام 1887، لا تزال تعرض على مسارح روسيا والعالم بزخم حتى اليوم، تعرض وكأنها منتجة ومخرجة منذ أسابيع. ولا غرو، فإن مسرح البولشوي يجدّد أجيال الراقصين فيه بشكل «شبه مقدس» جيلاً بعد جيل، ومرحلة إثر مرحلة، لتظلّ شعلة هذا الفن، هكذا، متألقة باستمرار. ولا عجب، فالباليه هو الرئة الروحية التي تتنفس خلالها الشخصية الروسية العامة إبداعها الكامن عبر التاريخ. تتضمن «بحيرة البجع» أربعة فصول استعراضية موسيقية راقصة في باليه درامي، وعرضت لأول مرة على مسرح البولشوي في موسكو في 4 مارس 1887، وقام بتصميم رقصات الباليه ماريوس بيتيبا. تقول الرواية إن حفلاً أقيم في الذكرى 21 لميلاد الأمير سيجفريد، حيث يحتفل بهذه المناسبة في حديقة قصره الذي ورثه عن عائلته ويشاركه في هذه المناسبة عدد من شبّان المناطق المجاورة الذين جاؤوا لتحيته وتهنئته. وخلال الحفل تقع أحداث الرواية، بما فيه من تآمر وبطولة ومجد وحب ونذالة وبغض. وما لا يعرفه الكثيرون عن «بحيرة البجع»، أنها منيت بفشل ذريع لدى عرضها للمرة الأولى، من قبل فرقة بولشوي للباليه، في الرابع من مارس العام 1877، وقوبلت بهجوم واستنكار من الصحافة والجمهور على مستوى القصة التي نفر منها الجمهور حينها، لتوجسه من كونها جزءاً من الفولكلور الألماني، وكان تشايكوفسي اتفق مع أصدقائه، على أن «بحيرة البجع»، تمثل الأنوثة في أنقى حالاتها. بلد ورجل من الجاذبية الثقافية الصينية التي خلبت لُبّ الكثير من المفكرين والمثقفين في العالم، بخاصة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، نجاح خطوات هذا الإصلاح السياسي لديها كمقدمة للبناء الديمقراطي، وترسيخ ثقافته على الأرض، خصوصاً مع قرارات الزعيم «دنغ هسياو بينغ»، القائد الفعلي للإصلاح الشامل في بلاد كونفوشيوس. فلقد جعل «تحرير العقول» أول مهمة لحركة الإصلاح التي قادها هذا الرجل التحديثي الكبير في الصين، والذي قال بالحرف الواحد: «إذا لم نحطّم الجمود الفكري، ولم نحرّر أفكار الكوادر والجماهير، فلن يكون هناك أمل في التحديث وتحقيق ثورة الحداثة الفعلية في كل الميادين في بلادنا».وقد قاد دنغ هسياو بينغ الصين إبان توليه قيادتها (بين عامي 1978 و1992) نحو تبني اقتصاد السوق. تولى قيادة الحزب الشيوعي الصيني بعد إطاحته هوا جيو فينج. له نبوءة بان الصين تحتاج إلى نصف قرن لاستكمال عملية التحديث والسيطرة السياسية والاقتصادية. بدأ بينغ في أواخر السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي في إرسال البعثات إلى البلاد الغربية لتعلم الهندسة والاقتصاد وطرق الإدارة الحديثة بغرض التطوير الاقتصادي في البلاد. واعتمد على هؤلاء الذين يسمون «تكنوقراطيون» في حل مشاكل الصين الشعبية والتطور بها وتشغيل الصينيين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©