الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«حياة الجريمة» يحصد جائزة الجمهور قبل المنافسة

«حياة الجريمة» يحصد جائزة الجمهور قبل المنافسة
26 أكتوبر 2013 00:30
قد تستغرب إذا قلنا أن فيلم ليلة افتتاح مهرجان أبوظبي السينمائي في دورته السابعة “حياة الجريمة” للمخرج العالمي دانيال شيكتر، يخلو من الجريمة، وأنه فيلم طريف، خفيف، يرتكز على مجموعة من المحاور، تعكس حياة المجتمع الأميركي المعاصر، وهي المال، الشهوة، الأنانية، المصالح الشخصية، وفن المساومة.. هو فيلم لا يخلو من الكوميديا واللحظات المرحة والانفتاح على عوالم إنسانية تدفعك للتعاطف مع أبطاله، وكان بالإمكان تغيير اسمه من “حياة الجريمة”، إلى حياة الخيانة أو البحث عن الذات، لأن جميع شخصيات الفيلم على وجه التقريب، كانت فاقدة لتوازنها، وسط عالم مشحون بالخشونة والعنف، ولا يعرف سوى لغة القوة. حبكة أول لقطة من “حياة الجريمة” تشير إلى أننا في ديترويت عام 1974، حيث علاقة زوجية سيئة آخذة في التّصدّع والانهيار، بين مارجريت ميكي (الممثلة جينفر أنستون)، وزوجها فرانك داوسن (المثثل جون هاوكس)، تاجر العقارات الثري، والذي يقرّر فجأة اصطحاب ابنه المراهق (بو) في رحلة إلى الباهاما، توازيا مع ما يخطط له المدانين، لويس (تيم روبنز) وأورديل (موس ديف) بخطف ميكي، وطلب فدية من زوجها قدرها مليون دولار.. اللقطة الثانية من الفيلم، تكشف عن أولى حبكات الفيلم، حيث يبدو فرانك مستمتعاً مع عشيقته ميلاني، في إحدى شققه على البحر، بعد أن أرسل ابنه إلى فلوريدا.. أما اللقطة الثالثة فتكشف لنا بوضوح عن ثنائيات، تتشابك من خلالها علاقات الشخصيات، فهنا ميكي التي تصدّ محاولات مارشال، صديق العائلة المتزوج وأب لفتاتين، وهنا أيضاً زوجها فرانك، الغارق إلى أذنيه في علاقة آثمة مع ميلاني، التي تستغله، وتدفعه إلى تقديم أوراق طلاقه من زوجته، وهنا أيضاً المدان لويس، الباحث عن ذاته ورومانسيته في العزف على آلة البيانو، ومعه صديقه الأسود أورديل الباحث عن المال من خلال مواهبه في فنون الابتزاز والمساومة، ولتحقيق مخططاته، يستدعي (القوّاد) ريتشارد، المتعصب للنازية، للمساعدة في تنفيذ خطة خطف ميكي، التي تتم بسرعة متناهية، نظرا لغياب زوجها وابنها، حيث يجري نقلها إلى منزل الخاطفين، ومن ثم تبدأ مرحلة مضنية من المساومات، تكتشف ميكي على إثرها أن زوجها على علاقة مع غيرها، وأنه إلى سبيل الخلاص منها عن طريق قضية الطلاق التي رفعها ضدها، لكن سرعان ما تتبدّل الأحوال، لنرى نوعاً من التقارب حدث بين ميكي وخاطفها لويس، ونوعاً من التقارب بين ميلاني وأورديل، بعد أن يقوم بالسفر إلى إلباهاما للقاء فرانك، لكن تشاء المصادفة أن يكون الأخير، قد غادر في عمل، حتى يعود إلى منزله من دون أن يصطحب معه ابنه المراهق، ويسجل سيناريو الفيلم أروع مشاهده في تصوير اللقاء الحاسم بين ميكي وزوجها فرانك، حيث المساومة على الطلاق بلغة المال، بعد أن تشارف حبكة الفيلم على نهايتها، وبعد أن تصل الأحداث إلى ذروتها، بعد أن تكتشف أن زوجها لم يدفع الفدية للخاطفين حتى يحررها، وأن الخاطفين كانوا قد تراجعوا عن طلبهم، وان كل ما كان يحدث من سجالات ومطاردات ومساومات، ليس أكثر من لعبة سينمائية، وربما يكون أجمل ما في هذا المشهد، هو حواراته الطريفة الفلسفية الخلاّبة، فكل شيء واضح وصريح، حتى في مجال المساومة، حيث تتغلب المصالح على القيم النبيلة وقدسية الزواج، وأخلاقيات العلاقة الإنسانية، حتى أن فرانك يذكرها بمقولة لوزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، عندما قال: “حينما تتعرض لمأزق، فلا تتذمر، ولا تشرح”. تحول وينتهي الفيلم بتحول عام في وجهة نظر الشخصيات نحو الحياة والجريمة، ولهذا تستسلم ميكي لخاطفها الرومانسي لويس، فيما ينقلب ثلاثتهم على ميلاني، الخاسرة الوحيدة في هذه المعركة، ومعها ريتشارد، المنتحل شخصية شرطي مزيف، حيث يقتل في النهاية على أيدي الشرطة، بعد أن حاول اغتصاب ميكي، التي هربت مع لويس إلى منزلها لتبدأ حياتها معه من جديد. دانيال شيكتر، مخرج حساس، يملك أدواته ولغته ومفرداته الإخراجية، ولك أن تكتشف براعته، في دقة كادراته، ولقطاته الليلية، حيث تجري كامل الأحداث في أجواء باردة وممطرة، وكان بارعا في استخداماته للإضاءة، الموشاة على الدوام بمؤثرات صوتية، ومقاطع من أغنيات قديمة، وظفت درامياً كخلفيات لتصوير المشاهد الخشنة العنيفة، كما أن اعتماده على اللقطات النهائية الواسعة، أعطى زخماً للمشاهد السينمائية، حيث تجري المطاردات، فكان توجيهه للكاميرا معقّداً، لكنه يسّر للمتفرج تتبع أحداث وإيقاع الفيلم السريع اللاهث، فالمشاهد السينمائية السريعة ونقلاتها أكثر سرعة، والحوار مكثف مقتصد، والفكاهة والطرافة تلعب دورها في كسر الجمود الذي فرضته خشونة الأحداث التي تحولت في النهاية إلى أحداث ذات حواف رومانسية، وبخاصة تلك الاستخدامات البارعة للموسيقى ومقتطفات الأغاني، ومونتاج غني، تدلل قطعاته على أن هناك استخدام لكاميرات عدة في عمليات التصوير. والواقع أن نجاح شيكتر في هذا الفيلم كان مديناً به لاختياره الموفق للنجمة جينفر أنستون بدور ميكي، التي تسبقها شهرتها الجماهيرية إلى الفيلم من خلال أعمالها الدرامية في التلفزيون وبخاصة مسلسل “أصدقاء”، حيث دخلت بقوة إلى كل بيت، بسبب أدائها التلقائي الطبيعي، وحيث طلّتها الحلوة على الشاشة، أداء صادق رفيع في دور ميكي حتى وهي في أسوأ حالاتها حينما كانت أسيرة لمجموعة من الخاطفين. وقد جسدت هذه التجربة القاسية ببهاء وشفافية تؤكد على صدق موهبتها، تمثيل راقٍ يجمع بين الهدوء والعنف والقوة والرومانسية، ويبدو أن شيكتر له طريقته في تأسيس الكادر التمثيلي، فما كان ذلك ليتحقق بهذا الجمال والبهاء، ولا الحرية المطلقة التي منحها للنجمة جينفر أنيستون، في أداء وتجسيد الشخصية، ومعها من الممثلين البارعين موس ديف، وتيم روبنز، في أجمل ثلاثية، حولت حياة الجريمة إلى سيمفونية من فن الكوميديا السوداء، التي لا تخلو من مشاهد رومانسية إنسانية عذبة وتحليل نفسي للشخصيات، حينما تتحول هذه الشخصيات من الكراهية إلى الحب. وربما يكون أكثر مشاهد الفيلم تأثيراً، ذلك اللقاء الحميمي بين ميكي ولويس، وهما يقفان في منتصف الطريق، في واحد من أروع كادرات الفيلم، حيث الصخب والزحام، وحركة السيارات، وجمهور الفيلم يترقب هذه النهاية، فيما يتجهان نحو حياة حقيقية، بعيداً عن حياة الجريمة، وربما نتحدث هنا عن القيمة الفنية والجمالية التي صنعها شيكتر لفيلمه، الذي يحمل مضموناً إنسانياً رفيعاً، ومحتوى اجتماعياً، يدين الحياة على الطريقة الأميركية، ويدين هذا التفكك العائلي الذي شاهدناه في مصير الابن المراهق “بو”، الذي ضاع في زحمة البحث عن المزيد من المال والشهوة، وتكريس مفهوم الأنا. تكامل بين المخرج والممثلين قدّم لنا شيكتر فيلماً رائعاً، على بساطة موضوعه ووضوحه، بحيث يبدو للبعض أنه مجرد عمل يتحدث عن نزوات أشخاص، فيما هو يتحدث عن نزوة مجتمع بكامله، مجتمع أسير ثورته الصناعية، وأسير تكنولوجيا عمياء. أداء الممثل توم روبنز، بدور لويس، كان بارعاً ومتقناً ومؤثراً، وهو من نوع الممثلين الذين يجيدون صناعة الدّور بطريقة راقية، فقد غاص في شخصيته، إلى الحد الذي جعلنا نتعاطف مع جريمته، ومع تحوله الإنساني، في نهاية الفيلم، وربما يكون أجمل ما في تجسيده في عالم الجريمة، أنه كان مختلفاً، في كل لقطة، ولكن في إطار متوازن منتظم، من الأداء الشاعري الممتد، حتى في لحظات أدائه للصمت، فقد كان بارعاً في استخدام لغة الجسد. نعتقد أن النجاح الجماهيري الساحق الذي حققه الفيلم في ليلة افتتاح المهرجان، وهذا التصفيق الحار الذي حصده لدقائق بعد انتهاء آخر لقطة منه، أمر يدعو إلى الإعجاب، على الرغم من أن كثيرين اعتبروا الفيلم، كوميديا زائفة عن مجتمع تم استهلاكه في عديد الأفلام السينمائية، إلا أن الواقع غير ذلك، فالفيلم بمحتواه وجمالياته وموضوعه، يمثل حالة خاصة، لمجتمع يدفع أفراده إلى حياة الجريمة دفعاً، كما يمثل نظرة واقعية وسوداوية شديدة لواقع واحدة من كبريات المدن الأميركية، و”حياة الجريمة” في الحقيقة يناقش أكثر مما قلناه، وما سردته شخصياته، بلغة سينمائية رفيعة، فهو يناقش صراحة مسألة (الشخصية الأميركية)، وأمورها وأرقها وأحلامها، وأقنعتها كافة التي عبر عنها مخرج الفيلم في تلك المشاهد التي كانت تتخفى فيها شخصيات الفيلم بمجموعة متنوعة من الأقنعة، وللفيلم في النهاية ميزة ونكهة خاصة مختلفة عن بقية أفلام دانيال شيكتر، من حيث جرأة الطرح، في إطار كوميدي يظلل ماهيات الجريمة بالابتسامة، التي جعلت الجمهور جزءاً من الأحداث، كما أعادته إلى أجواء السبعينيات من حيث استخدام السيارات القديمة، وتلك الديكورات الكلاسيكية والأزياء الخاصة، وموسيقى الجاز الدارجة، مما جعل الفيلم بصورته المعاصرة، مقنعاً، منطقياً، في شكله ولونه.
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©