الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مقهى الليل...

مقهى الليل...
29 أكتوبر 2011 13:43
1 اليوم الخميس، والعادة في أكثر أيام الخميس أن يعود من العمل، يأكل مع العائلة، ثم ينام قليلاً، بعدها تبدأ الإجازة، فنجان من القهوة المرّة ثم استعداد للطيران على أغصان المساء. في البيت أو في المحل الذي يرتاد، يجلس خلف أيقونة الرحيق، وفي الأغلب معه ورق، ورق للقراءة، ورق للكتابة. تعود الهواجس والأفكار، الرؤى والالتباسات، المزعجات وذكريات الزبد ومقدسات الريق. تعود الأوهام المكسورة، وما تبقى من أحلام الضوء، ما تبقى من خطوات الليل على طريق المدفون في النوم، تعود الخطط التي بعثرتها الأيام على طاولات النرد، واللحظات التي اقتحمت الغفلة وحققت الأمواج المستحيلة. يعود كل ذلك للاجتماع على جبل الطاولة، كل السطور التي تقرأ تبدأ بالاتساع، طرق هناك، كانت نائمة في المجهول تستيقظ كي تحمل الرأس إلى غابات أخرى. في الخلفية ظلال تلعب في ردهة الروح، في شروال الرغبة تين الجوع الشوكي. يمتلئ الجسد باللحظة، تمتلئ اللحظة بالجسد، على الطاولة في البيت أو في المحل الذي يرتاد. 2 اليوم الخميس هو هناك على الطاولة، أو في المحل الذي يرتاد أما أنا فمريض. المرض عطل في الحياة، تأجيل لها، جعلها هدفاً وأمنية، انتظارها على السلم المكسور خلف باب الحركة المغلق، المرض ثقل، حصاة تملؤ بئر اللحظة، صَلْبٌ على الكرسي، سماع صوت الأنفاس، والمرآة التي يظهر فيها النبض كالفقاعات. مَنْ ثُقل غفا على سطح الوقت، من ثقل كبر ظلَّه وغطست أعضاؤه في سطل الغفوة، امتلأت خلاياه بالمياه الزرقاء، تكسَّر دمه إلى رمل، لا الألم الذي ينتظر، ولا أعراض السقم ستجعل من وقته وقتا. كلُّه يرتصُّ على وحدته وينفصلُ. الطاولة وحيدة، الدواء، الحائط، الشجر الذي استمالت خضرته إلى مرارة، ابتسامة الطفل التي لم تعد قادرة على مسح الأحزان، هدير الروح المشاغب الذي صمت تحت غشاء التعب، الأمواج التي علت بالمفردات، وأظهرت الألق والزبد انسحبت وشجبت واختفت على لسان الارهاق. لا طعم لهذا الازدراء المتوالي، حيث تتوجس الخلايا من الجفاف، والعروق من الضياع في صحراء العطش. المرأةُ التي كمَسَت جعلتْ المرض يقشعر. المكالمة التي جرت في أسلاك المسافات وسألت، اختفت بلا ذكرى خلف ذبول الجسد، الصمت حكمة المرضى، الصمت الذي يتعب من الكلام، الصمت الذي لا يشاغبه كلام. 3 اليوم الخميس.. طاولته عامت في النشيد. جاء الأول وتحدث عن أخباره، اغتاب من اغتاب، وأمعن في سرد بطولاته، بطولاته تحدثُ في كل مكان، في أي لحظة، بطولاته المستمرة منذ الولادة، وها هو الآن يمر في إحدى لحظاته المحررة، يشربُ كأسيه، ويُلقي نظرة على بقية المهزومين، حتى أولئك السياح يحسون بهزيمتهم أمام مرآته، الصبية الغضَّة التي استفردت بإحدى الطاولات، صحنها يشبه حديقة من وجهة نظر طير، كأسها الأشقر مُضاء في يد الليل. تلك الصبية الغضَّة، حتى تلك الصبية الغضة تحلم بأن يرفع رايات انتصاره على أراضيها العطشى، لكنه لا يقوم من الكلام، وينتظر كل شيء هزيمته، فليتعذب من ذلك الانتظار، فالأبطال لا يحدثون بسهولة. يطيب له هذا البطل، ومثل هذا البطل، وكلما ارتفع منسوب النشوة في دمه اتسعت أحداثه لأكثر من عاصفة، لأعمق من فراغ، ووقفت النوافذ على طاولته كي تدخل السحب وتجلس مع البئر، وتخرج الشمس من الباب كي يأخذ الليل راحته. للبطل يأتي بطل آخر، يجلس البطل الجديد بلا كلام قبالة البطل السابق، الأخير ينظر إلى غريمه كما ينظر الأعداء عادة إلى الأعداء: - من رأيت اليوم؟ يسألني البطل الجديد، فهل أقول هذا، وأشير إلى البطل القديم، لا، لن أجيب، اصمت، فتيل المعركة صُبَّ عليها الكيروسين، وسرعان ما سيشتعل الكلام، وتُسن الألسنة، أضحك، أبطال وتُكسِّر بعضها. الجو المكفهر يعثر في الخرائب على المرح، هي كذا صراعات الحياة التافهة تشجع راقصات الغبار، وترفعُ من لهب الحماسة، وتربطُ أحذية الليل. أحد الأبطال يهربُ، البطل الباقي يُغني، على الجميع أن لا ييأس، فلكل منا دقيقة من هذا المجد الكوني، والعراك وجلبة العراك غسلا ثوب السأم، وها هو الاستعداد واقف أمام المرآة يلبس قميصه كي يمارس السهرة. 4 اليوم الخميس هو هناك على الطاولة، أو في المحل الذي يرتاد، أما أنا فمريض.. يزورني من يزور ليتمنى الشفاء، هو تحرك وخرج وجاء وجلس وأنا عاجز، قمت لاستقباله بصعوبة، وأجلس معه بصعوبة.. ماذا حدث؟ كم مرة عليك أن تسرد القصة؟ انقبضت أسارير الدم، فأحسست بالتعب، ويا لها من لعنة، تلك العضلة التافهة التي تسمى: القلب. قلبي، قلبي، يصيح البشر المتلوعون من الغرام، وفي الحقيقة فإن من يعاني في قلبه، فإنه يصيح ويندب مفارقته للحياة، أو قرب ذلك الفراق، أو إمكانيته، وهي إمكانية تحدث دوماً كما نعلم. 5 اليوم الخميس... طاولته وقفت لاستقبال الأصدقاء، الصديق الذي تعتعته الحياة يدخلُ مقهى الليل صارخاً “زنقة، زنقة، دار دار”، معه صديقته الأثيوبية: لما لا تتزوجها، الوحدة وقواربها بانتظاره كي يبحر كل ليلة في محيط الثمالة الفتّان. سيرتج كرشه من الضحك وتنسدل الجفون على الوجه كستارة من بلل، ما الذي بإمكاننا فعله في هذه الحياة؟.. لاشيء، بإمكاننا اللعب، كل الكلمات قابلة للاستعمال وعندما ننتهي من مضغ علكة العالم، تبقى في فمنا عصارة الريق. أين نخفي الوقت عن الخشب؟ أين نبدد التلال التي يبنيها نمل الدقائق على مدخل أرواحنا؟ على مَن نوزع أوراق الكلام؟ الصديق الذي حيّره العالم يحمل كأس السؤال: الجمال مُرٌ، والجلال رهبة، سأضع عصا الاستفهام في دولاب الاجابة، وبالتأكيد للصداع دور استراتيجي في توزيع العذاب على الطاولات. لنا اللعنة، ولهم حلويات الطمأنينة، لنا اللعنة ولهن ورود النبض. وهنالك كذلك الصديق الهادئ، الذي يخبؤ غفوة نهر في ياقة قميصه، وتقطر أصابعه دموع اللؤلؤ، فيا للفقدان، أخذوا مني دروب طفولتي وأخفوها، أين ذهبوا بها؟ لا أدري، بحثت عنها ولم أجدها، العصا الذهبية التي قالوا إنهم وضعوها في يدي لا تكشف لي شيئاً، كلما وضعتها على دلالة اختفت، بل إنني كلما أمسكت بها تلاشت يدي، أنا بلا يد، أنظروا، أشرب بلا يد. إذن فلنطلب كأساً أخرى لهذا العطش، ونفتح على الطاولة منصة للضحك، الثقيل تحيله الحيلة إلى خفة والعميق إلى سطح، يبقى اللذيذ يسيل عسله بين فواصل العبارات، ويتشقق سقف مواخير الصدور، وتتمزق البلاعيم كمواسير مهترئة وتغرق العيون في فيضان القهقهات العظيمة، تلك التي ترج سكون السماوات، وتكسر عبوس الأرض. 6 اليوم الخميس.. هو هناك على الطاولة، أو في المحل الذي يرتاد، أما أنا فمريض.. أتَّكِئ على الكنبة، على الحائط، على الكرسي، على المساعدة، أغفو قليلاً وفجأة تتصادم القطارات في رأسي وتُفزعُ غفوتي قرصة في الدم. أصحو، الساعة تقترب من العاشرة، الليل في أوله، تنفسي هادئ ولكني لا أستطيع أن أفعل شيئاً، الرغبة ذابت في فنجان المرض، الإرادات هشَّة، واللسان ثقيل، وحدها العينين تدور في المحجر كفرخين غابت أمها في الظلام. الساعة بطيئة، وفي الخارج، على الطاولة أو بدون طاولة، في المحال، في الشوارع تتسكع الحياة، الحياة المبتهجة بقمصانها المعطرة ووجوهها المثارة وأصابعها الهائجة، الساعة تتدحرج نحو منتصف الليل، متى سأنام من جديد، أحاول، أغفو قليلاً وفجأة ترتطم أنفاسي على أرضية السقم، وتقوم عيني من تلك الحفرة كظل سقط على حطام ضوء. أقوم، الساعة ما زالت في الواحدة، وحتى الفجر سيظل جسدي ناتئاً وفجّاً. سيظل مُراً وصعباً، سيظل متكسراً ومتضعضعاً وفظاً يذيبه التعب ويطحنه الإنهاك، فيتكوَّم ويثقل وينسحق وينام. 7 اليوم الخميس... طاولته امتلأت بهيجانات النبض، بوميض العروق، باهتياجات المفاصل، بحرقانات الأفكار، بالتهابات اللحظة، باضطرابات الأسئلة، بتفتقات الضحك، بوسامة الفراغ، بأسلحة الرغبة السرية، فمن يقوم معه من هذا الجلوس إلى الكلام، ويصعد إلى مرقص الخلايا، الرؤوس مكتظة بالنزق هناك، وتتدلى من الأجساد مفاتيح الأمواج، فلتضف إلى رأسك مزيداً من الجمر، وتلتهب نظراتك في ذلك الممشى الجارح، على أية قيامة تضع يدك، في يد أي صدفة، ومن سترافقك هذه الليلة إلى حديقة اللمس. الأغنية استولت على مصب الرغبة، تمايلت جدائل الماء في تفكير الحوض، رقصت اللحظة مع نفسها، ودخل الكلام إلى غرفته، واستعد المفتاح كي يدور في باب المستحيل، الاهتزاز يبحث عن إيقاع والإيقاع يبحث عن اهتزاز، وحين وضعت المسافات في الجيب، واتفقت المرايا مع النوافذ، والأبواب مع الموسيقى، وجدوا المصاعد توصلهم إلى الفجر. حاملون أنفسهم إلى السباحة في ماء الأسرة، متفتحة أجسادهم وكأنها قبور عادت من الموت. الآن سيحدث الخلود وتمتزج السماء بالبحر، والجسد بالروح، والرغبة بالنفض، وتلك الخلجات المتضاربة والمتصادمة حتى ينكسر النبع، ويمتلئ الحجر بنبيذ الهواء، تصبحون على خير أيها السعداء، المملوؤون حتى البهجة بماء الأبد، النائمون الآن كأمواج في المحيط. a.thani@live.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©