الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رغيف الخيال...

رغيف الخيال...
26 أكتوبر 2011 20:59
على ضفاف الجوع وبين يديه الخاويتين نسج الشعراء قصائد كثيرة مفعمة بالمشاعر والرؤى والأفكار، ورغم أنها تحكي عن الجوع وخوائه إلا أنها كانت بمنجاة من الخواء الفني أو المضموني. فالجوع الشعري خلافاً للجوع الفسيولوجي الذي يوهن الجسد جاء ممتلئاً بالحمولات والدلالات التي فتحته على تخوم فكرية وأمداء بلاغية، وأخذته من دنيا الواقع إلى تخوم المجاز، ومن مستنقع الجفاف إلى دفء العاطفة الدافقة. شعرياً، حضر الجوع سواء بوجهه السافر وحضوره الواقعي والعياني أو ارتدى لبوس الرمز والتف بعباءة الكناية والمجاز ليكون حاملاً شعرياً يقوّله الشاعر ما يعتمل في صدره من مكنونات وهموم تحمل في الغالب حزناً رهيباً أو ثورة جامحة ضد الجوع وانتهاك الكرامة الإنسانية أو توقاً محموماً للمساواة والعدالة بين بني البشر. أما الروائيون فلم يكتفوا بموحيات الجوع ومدلولاته المباشرة بل ارتفعوا به إلى مستوى القضية الإنسانية العامة التي تضرب في جذور المجتمع وبنيته وتغير الواقع وتترك أثرها الهائل على الأفراد والمجتمعات، ولأنها عمل سردي يحتمل التفاصيل ويتسع للأحداث والمقاربات والتعبير عن الرؤى بشكل أكبر تبدو الرواية أكثر قدرة على تجسيد الأبعاد الفلسفية والاجتماعية والنفسية والصراعية للجوع، وبهذا المعنى تحضر المجاعة في الأعمال الروائية بما هي خلل في بنية المجتمع يعلن عن وجود داء مستفحل يحتاج إلى علاج، وبصفتها حاملاً فنياً تتموضع حوله الأحداث ويقوم عليه مزاج السرد. مراتب الجوع كما أن للجوع الحقيقي مراتب ومستويات فإن للجوع في اللغة مراتب متفاوتة المعاني والدلالات؛ فالعرب عرفوا للجوع أسماء وحالات عدة منها: الجوع والمخمصة والمسغبة. ويعرف لسان العرب الجوع بأنه ضد الشبع، وعند الأصفهاني هو الإحساس الذي يصيب الحيوان بسبب خُلُوِّ المعدة من الطعام. أما المخمصة في اللغة فأصلها: الضمور، أُطْلِقَتْ على الجوع الشديد الذي يُورِث خَمْصَ البطن، أي ضموره. وجاء في كتاب النهاية لابن الأثير عن جابر رضى الله عنه قال: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خَمْصًا شديداً. وأما المسغبة التي وردت في أكثر من موقع في القرآن الكريم فهي: الجوع مع التعب. وعليه يكون الجوع في المرتبة الأولى يليه الخمص والمخمصة، أما المسغبة فهي أشدُّ أنواع الجوع وما يصاحب ذلك من ضعف وإعياء وتعب. ومن يقف على المواضع التي وردت فيها هذه المسميات في القرآن الكريم سيجد نوعاً من البلاغة المذهلة في مراعاة هذه الملامح الدلالية المتميزة للكلمات الثلاث، رغم ما بينها من تقارب دلالي حيث تشترك كلها في معنى الإحساس بخُلُوِّ المعدة من الطعام. وبينما تتميز المخمصة بظهور أثر الجوع على المظهر الحِسِّى للبطن فإن المسغبة تتميز بالتعب المصاحب للجوع، فهي وصف لأثر الجوع على النفس. لسان الجوع يشكل الجوع في البعد الشعري أحد أعمدة ثالوث يرتبط ببعضه ارتباطاً كاثوليكياً لا ينفصم عقده ولا يتراخى فعله، أما العمودان الآخران فهما: المرض والثورة التي غالباً ما جرى التعبير عنها بالجوع إلى الحرية الذي يظهر كلازمة أساسية في أي نص شعري عن الجوع؛ وهو الأمر الذي نعثر عليه في قصائد السياب والبياتي وقباني ودرويش وأحمد مطر وأمل دنقل وأحمد عفيفي مطر والبردوني وغيرهم كثير مما يصعب حصره، مما استدعى اقتصار هذه القراءة لتجليات الجوع عند الشعراء على بعض النماذج التي تفيد في تحقيق هذه الغاية. في قصيدته “لماذا لي الجوع؟” يستحضر الشاعر عبد الله البردوني الجوع في صورة إنسان يمتلك من سمات البشرية سمة القدرة على النطق والمناشدة، فيسأل مستعيراً لسان الجوع من يسكنون القصور عن السبب الذي جعلهم يتحكمون في قوت العباد ورقابهم: لماذا لي الجوع والقصر لك؟ يناشدني الجوع أن أسألك لكن أي سؤال يقذفه البردوني في وجه الظلام وفي وجوهنا نحن أيضاً؟ إنه سؤال يبحث عن سرّ الجوع، عن فكرته والسبب الذي يجعل الجائع جائعاً فاتحاً في الآن نفسه وعي القارئ على ضرورة البحث عن إجابة لأنه (الشاعر) يعرف الإجابة جيداً: أتقتات جوعي وتدعى النزيه وهل أصبح اللص يوماً ملك إذن، ثمة إشارة واضحة إلى أن قوت الجياع يُسرق من أفواههم، أما سبب السؤال فيكمن في أن الشاعر يتقمص صوت الشعب أو فئة الجياع على الأقل ليعلن بالنيابة عنهم أن هذا الحال سوف يتغير في الغد الآتي، وأن الثورة قادمة لتكتسح الظلم والفقر وتبني صورة مناقضة لهما: غدا سوف تعرفني من أنا ويسلبك النبل من نبـَّـلك ففي أضلعي، في دمي غضبة إذا عصفت أطفأت مـشعلك إن الشاعر لا يعبر فقط عن إيمانه بالغد بل يقرر في يقين تام حتمية حضوره لأن سارق قوت الجياع لا يستطيع أن يمنع الفجر من الانبلاج ولا أن يتحكم في السنن الكونية أو يوقف الزمن: غـدا سوف تلعنك الذكريات ويلعن ماضيك مستقبلك ولا.. لا تقل: أين مني غدٌ فلا لم تسمّر يداك الفلك في قصيدته الرائعة “أنشودة المطر” يوظف الشاعر بدر شاكر السياب الجوع الحقيقي الذي يمرّ به العراق بسبب الفيضان ليقول جوعه هو إلى العراق وأهله وشمسه وليله الذي يراه أجمل لأنه يحتضن العراق. ولعل المطر الذي يتردد كلفظة في كل القصيدة يحمل في دلالته الخصب لكن الشاعر يبني قصيدته على ثنائيات ومفارقات من بينها مفارقة تتمثل في حضور الجوع رغم خصوبة الأرض، وهو من خلاله يعري الواقع الذي يعانيه العراق في تلك الفترة، وهنا تصبح للمطر دلالات أخرى منها الثورة على القهر الاجتماعي والسياسي التي لا بد أن تأتي لتهب الحياة لكل الناس. والقصيدة تتوافر على حمولات فنية ورمزية لا متسع الآن للاستفاضة فيها، لكن في ديوان السياب وقفات أخرى كثيرة تتناول الجوع وتمظهراته وآثاره على حياة المهمشين والفقراء الذين وجدوا مساحة كبيرة في نصوصه. الثالوث غير المقدس ومثل السياب يربط الشاعر أحمد مطر الجوع بالقمع، وإن كان في قصيدته مباشراً وحاداً وتحريضياً، يصوغ معاناة المقهورين في قالبه الشعري المعبأ بالسخرية المرة، ويضع أصبعه على الأسباب التي جعلت الجوعى يجوعون، ويقرن بين الجوع والصمت والقهر معتبراً هذا الثالوث غير المقدس السبب الرئيس وراء ما تعيشه الأمة من انهيار سياسي وحضاري وثقافي وإنساني: الملايين على الجوع تنام وعلى الخوف تنام وعلى الصمت تنام والملايين التي تصرف من جيب النيام يتهاوى فوقهم سيل بنادق ومشانق وقرارات اتهام كلما نادوا بتقطيع ذراعي كل سارق وبتوفير الطعام. وكما أحمد مطر يفعل الشاعر محمد القيسي الذي يربط الجوع بالقهر في قصيدته “قمر الجوع” التي جاءت لوحة تنبض بالألم والجوع العارم إلى الخلاص والانعتاق من التعاسة والموات إلى واقع أجمل، ولهذا يذهب إلى الذاكرة وهناك يجدها لا تزال تحتفظ بعذابات الجوع التي رافقت الفلسطيني وقتاً طويلاً بسبب اللجوء والتهجير القسري: “أمطري في القلب زخات عذاب وجوع أمطري أرضي ظمآى وأنا تجتاحني حمى الرجوع أمطري أيتها الذكرى ورشّي العين حبات دموع فالمغني كمموا فاه وسدّوا بحجارة القهر بابه خطفوا منه الربابه”. باحثاً عن قمر الجوع عند الحضارات القديمة، وعن بشارة النبوة في لحم التواريخ يسأل القيسي ذاكرته المسكونة بالعذاب حاثاً إياها على مغادرة الصمت الذي يقترن باستمرار بالجوع: أعطني من صمتك الطافح حزنا ومرارة أعطني من شجر الأيام من لحم التواريخ القديمة أعطني منها العصارة عله يطلع من حقل الرماد قمر الجوع رغيفاً وثماراً. وفي قصيدة طويلة بعنوان: “رب قل للجوع” يذهب الشاعر بشارة الخوري إلى اثر الجوع الفتاك في تركيع الإنسان وإجباره على التنازل عن معتقدات أو قناعات يراها مصيرية، واصفاً بلغة حزينة كيف يجعل الجوع صاحبه عرضة لانتهاك الكرامة الشخصية والاستباحة، حيث تضطر اليتيمة ميّ إلى بيع نفسها للقصر لقاء لقمة تسد جوعها وجوع أخيها الصغير. وتأخذ قصيدته شكل القصة الشعرية على مستوى البناء الفني وتستخدم أساليب خطاب متعددة لتوصل إلى القارئ انفعالات الشاعر وموقفه من الجوع وأسئلته الوجودية التي يطلقها في فضاء النص الشعري. وفي طريقه لا ينسى الشاعر أن يصور حياة الأغنياء وحياة الفقراء ويجري مقارنات متعددة المستويات فنياً ومضمونياً فيما هو يشيد هجاء لاذعاً لغياب العدالة وطغيان الجور الأمر الذي يجعله يتمنى أن تفنى هذه البشرية الظالمة: رب، لو شئت لما سالت دما أمرك الأمر فمن ذا ينكر ولما يُتِّمَ مَنْ قد يُتِّما ولما استلَّ السلاح العسكر رب، إن نحن بلغنا الهرما أو يكن حان الذي ينتظر مر، ولا كفران، ذين الكوكبين يخرقا الناموس أو يحترقا واسترح منا، فنغدو بعد عين أثراً لا بد أن ينمحقا واخلق الإنسان خلقاً راقيا واقتل البغض به والكبرياء وليكن كل امتياز لاغياً يخرج الناس على حد سواء عزَّت السلعة الذليلة يستخدم حافظ إبراهيم الجوع ليسخر من القائمين على حاجات الناس الذين لم يحسنوا أداء الأمانة التي كلفوا بها، ويصور في قصيدة لاذعة ما وصل إليه الحال في مصر من السوء، ما حدا بالفقير أن ينوي الصيام، بيد أنه لا يقدم الجوع إلا في شكله المعروف من حيث غلاء الأسعار وندرة السلع التي جعلت من السلعة الذليلة عزيزة مكرمة: أيها المصلحون ضاق بنا العيش ولم تحسنوا عليه القياما عزت السلعة الذليلة حتى بات مسح الحذاء خطبا جساما وغدا القوت في يد الناس كالياقوت حتى نوى الفقير الصياما استحضار التاريخ وتحمل قصيدة أحمد شوقي هي الأخرى أسئلتها المستريبة مما يجري في مصر التي تعاني الجوع فيما نهر النيل يجري فيها، وتتوسل التاريخ وأحداثه الماضيات فتكني بحرب البسوس عن الحرب العالمية الثانية، كما تستدعي من التاريخ قصة يوسف (عليه السلام) وحنكته في التعامل مع المجاعة التي ضربت مصر في تلك الأيام: أمن حرب البسوس إلى غلاء يكاد يعيدها سبعا صعابا وهل في القوم يوسف يتقيها ويحسن حسبة ويرى صوابا عبادك رب قد جاعوا بمصر أنيلاً سقت فيهم أم سرابا وتعكس القصيدة فهماً عميقاً للجوع الذي يقف وراءه تجار جشعون لا يرحمون آلام الفقراء، في تماهٍ كبير مع ما يجري هذه الأيام، ويبكون بدموع أشبه بدموع التماسيح: إذا ما الطامعون شكوا وضجوا فدعهم واسمع الغرثى السغابا فما يبكون من ثكل ولكن كما تصف المعدّدة المصابا أما الشاعر محمود مفلح فينسج قصيدته “يموت المسلمون ولا نبالي” على إيقاع الموت الآتي من أفريقيا، محملاً إياها رؤاه العقدية مبيناً تهافت العون المقدم لهؤلاء الجياع، والتناقض الأخلاقي الرهيب الذي يسم موقف البشرية من موت الملايين من أبنائها، لكنه يجنح إلى الحديث عن “موت المسلمين” وما يتعرضون له من ظلم وتجويع مؤكداً أن صمتنا نحن العرب والمسلمين ولامبالاتنا موقفاً أكثر فداحة: يموت المسلمون ولا نبالي ونهرف بالمكارم والخصال وننسى إخوة في الله ذرت بهم كف الزمان على الرمال تمزقهم نيوب الجوع حـتى يكاد الشيخ يعثر بالعيال (..) يسيل لعابهم لهفا وتذوي عيونهم على جمر السؤال وليت جراحهم في الجسم لكن جراح النفس أقتل للرجال يمدون الحبال وليت شعري أنقطع أم سنمسـك بالحبال؟ والقصيدة طويلة وتأتي أبياتها طافحة بالألم لحال “أهل الهلال” الذين تقاعسوا عن إغاثة إخوتهم من الجياع فيما تنشط البعثات التبشيرية من اليهود والنصارى لإغاثتهم بهدف تنصيرهم وتغيير دينهم. والشاعر في قصيدته يذكر المسلمين باليوم الآخر وما ينتظر المرء فيه عذاب أو ثواب حاثاً إياهم على نصرة إخوتهم وفعل الخير تقرباً إلى الله، ناعياً نومهم الطويل وغرقهم في الملذات الدنيوية ونسيانهم الموت الذي لا مفر آت. الجوع وتوابعه كثيرة هي الروايات التي عالجت موضوعة الجوع فيما هي تتحدث عن مجتمعات بعينها أو فترات سياسية أو تاريخية من دون أن تحمل عنوان الجوع على غلافها كما في البؤساء رائعة فيكتور هوجو، أو ثلاثية نجيب محفوظ أو الخبز الحافي لمحمد شكري أو رجال تحت الشمس لغسان كنفاني وغيرها... لكن هناك روايات كرسها أصحابها بالكامل لثيمة الجوع ومنحوها اسمه أيضا، كالنرويجيّ كنوت هامسون (1859 ـ 1952) الحائز جائزة نوبل للآداب سنة 1920م، في روايته “الجوع”، والفرنسيّ جان ماري لوكلوزيو الحاصل عام 2008م على جائزة نوبل للآداب عن روايته “لازمة الجوع”، والروائيّة الألمانيّة هيرتا موللر، الحائزة جائزة نوبل للآداب 2009م التي خصصت روايتها للجوع في المعتقل وإن جاءت بعنوان “أرجوحة النفس”، والكاتبة البلجيكيّة آميلي نوثومب في رواية “بيوغرافيا الجوع”، والروائي المصري محمد البساطي صاحب “الجوع” التي وصلت إلى القائمة القصيرة في الجائزة العربية للرواية “البوكر”. في روايته يقدم كنوت هامسون قصة لجائع حقيقي يعاني قسوة الجوع آلاماً في الروح والجسد، ولا يجد لأيام ما يقيم أوده، ويصف عذابات روحية من طراز استثنائي، عذابات تترك بطله “طانجن” الصحفي الذي لا يجد من ينشر له مقالاته، شبه إنسان بسبب ما تعرض له من الإذلال والمهانة، وتدخله في طقس يقارب الهذيان. بيد أن الروائي يناقش مفاهيم أبعد غوراً من مجرد الجوع الفسيولوجي تتعلق بخيارات الإنسان وقدرته على الصمود إنسانياً لكي لا يتحول إلى الحقد والكراهية.. فالجوع رغم سطوته والمعاناة المرة التي مر بها البطل لا تفلح في تحويله إلى إنسان شرير لأنه إنسان خيّر. لكن الرواية تخبرنا أيضاً كيف تذوي الروح تحت ضربات الجوع، تنسحق، تتشظى حيث لا شيء يمكن أن ينمو أو يزدهر في ظل الجوع: لا الحب ولا الوطن ولا الحياة ذاتها. أما لوكليزيو فيذهب موضوعياً إلى أفريقيا ليروي، معتمداً على جدته، واحدة من أكثر حالات الجوع غرائبية، رافعاً هذا الإحساس البشري إلى مرتبة فنية عالية، مستكشفاً عوالم شديدة العتمة لا يعرفها إلا المهمشون والخائفون والجائعون. باحثاً عن بشرية ما وراء الحضارة السائدة حيث برزت تشظيات الإنسان الحضارية وأزمته الأخلاقية والإنسانية في المعاناة والجوع بمختلف صنوفه، بدءاً من الجوع المادي وانتهاء بالجوع المعرفي والثقافي. جوع المعتقلات في حين تحكي هيرتا موللر في روايتها عن جوع المعتقلات في الحقبة السوفياتية، عبر شخصية بطلها الذي يقع ضحية دخول الجيش السوفياتي إلى رومانيا في صيف 1944. يعاني ليوبولد أوبيرغ الذي يرحّل ليعمل في معسكرٍ مغلق أقسى أنواع الجوع والظلم والتعذيب. ومن خلاله تجسد الكاتبة وحشية الجوع الذي يخرب الروح ويتركها ركاماً بشرياً، وبسببه يفقد الإنسان إنسانيته ويتنازل عن المبادئ والأخلاقيات في سبيل الحصول على لقمة الخبز. في روايتها يظهر الجوع كائناً خرافياً، متغولاً يفترس ضحاياه، يتلون في صور شتى ويعلن قانونه الذي تتهاوى أمام جبروته كل الاعتبارات الأخرى. أما “جوع “ البساطي فتنتقل من الجوع الفردي إلى الجوع العام، من قاع المجتمع وفئاته المسحوقة وتفاصيلها اليومية التي تعكس حساسيته ورهافته العالية إلى الجوع بوصفه واقعاً اجتماعياً اقتصادياً يسوده التخلف على غير صعيد وذلك في مقاربة مع عالم آخر تسوده التخمة والترف. وصف حالة الفقراء المعدمين ومعركتهم الدائمة مع خبزهم “كفاف يومهم” ليس هو المهم – على أهميته- عند البساطي، بل الكشف عما يكمن خلف هذا الجوع والطريقة التي أصبح بها نمطاً حياتياً ومعيشياً وثقافة وسلوكاً يراد للفقراء أن يتواءموا معه ويقبلوه... لكن أبطال البساطي لا يستسلمون ويكافحون ويظلون رغم الفاقة الشديدة يأملون بحياة أفضل. اللافت في الرواية إلى جانب جمالياتها الفنية ولغتها أن البساطي “الناقد الاجتماعي” لم يضع انتقاداته للفقر والثقافة التي تنتجه في إهاب أخلاقي أو وعظي، بل وضع نفسه مكان هؤلاء البسطاء وترجم قلوبهم، وأثار قضاياهم الوجودية وشروخهم الذاتوية والنفسية بلسانهم، فجاءت صدقيته عالية. كان البساطي معنياً بـ “قضية اجتماعية شاملة”، وكان تركيزه “على أحلام الناس وعلى أمانيهم التي لم تتحقق” فأنتج روايةً مقتضبةً تستحوذ بصوتها الخاص على القرَّاء كما قال مترجم روايته إلى الألمانية هارتموت فندريش. ورغم أنها لا تحمل اسم الجوع مباشرة إلا أن رواية “الخبز الحافي” للروائي المغربي محمد شكري رواية عن الجوع بامتياز، فهي في كل تفاصيلها ترسم صورة تراجيدية لحالة الجوع والحرمان التي عاشها أطفال المغرب ومنهم الكاتب الذي يصعّد “جوعه” إبداعياً إلى مستويات عليا وبالغة الحساسية والرهافة الفنية والإنسانية. فشكري لا يتحدث فقط عن جوع البطن ولا معاناته في البحث عن لقمة العيش بل يقدم لنا لوحة كاملة عن مترافقات الجوع وتوابعه والحياة البائسة التي ينتجها: المرض، الحرمان، العنف الجسدي، التفكك الأسري، انتهاك الطفولة والبراءة، الانحرافات السلوكية الأخرى وحياة كاملة تخلو من الحب والحنان. والجوع في رواية شكري موجود في كل مكان، لا تنفع فيه الهجرة من الريف إلى المدينة، ولا تغيير مقر السكن، إنه موجود أينما ذهب في طنجة ووهران وتطوان، يلاحقه كظله ويبطش بكل الأحلام ويعطل إمكانيات الحياة الكريمة. ومن الجوع الحقيقي إلى جوع الناس إلى الحرية والانتهاء من الاستعمار يشيد شكري بناء من الأسئلة الجارحة عن أسباب الخوف والجوع والاستعمار. مباريات القتل “مباريات الجوع” لـ سوزان كولنز بقدر ما تحمله من الدهشة توجع القلب وتوقفه أمام تيار هوائي صاعق لما تحمله من تناقضات وأسئلة متفجرة. هذه رواية مختلقة ورمزية جداً لكنها واقعية إلى حد جارح. رواية تذهب بفكرة الجوع إلى مكان إبداعي وفلسفي ربما يكون مطروقاً لكنها تقترح شكلاً جديداً تماماً على المستوى الفني لتقول من خلاله أن العالم يغرق في منافسة ظالمة وغير مشروعة. تقوم فكرة الرواية على مباراة يتبارى أبطالها في الجوع والموت معاً، لكنها ليست مباراة اختيارية بل إجبارية. في بانيم، وهي دولة أقامتها الكاتبة على أنقاض ما كان يعرف ذات يوم باسم أميركا الشمالية، ظهرت الكابيتول الرائعة التي تحيط بها ثلاث عشرة مقاطعة، والتي جلبت السلام والرخاء إلى مواطنيها. لكن الرخاء والسلام لم يستمرا وتمردت المقاطعات ضد الكابيتول. هُزمت 12 مقاطعة بينما أزيلت المقاطعة الثالثة عشرة من الوجود. ولكيلا تتكرر محاولات (التمرد والثورة) وضعت معاهدة الخيانة قوانين جديدة من أجل ضمان السلام، ولأنه يجب عدم تكرار الأيام السوداء، فرضت “مباريات الجوع”، حيث يتعين على كل مقاطعة، وعقاباً على التمرد، أن تقدم فتاة واحدة وفتى واحداً يتراوح عمرهما ما بين 12 سنة و 18 سنة (لاحظ المعنى الرمزي للاختيارات العمرية) يطلق على كل منهما اسم المجالد Tribute، للمشاركة في هذه المباريات بعد ذلك يسجن المجالدين في ميدان واسع في الهواء الطلق، والذي يُمكن أن يشمل أي شيء بدءاً من الصحراء الحارقة، وحتى البراري المتجمدة (قانون العولمة)، ليتقاتل فيه المتنافسون حتى الموت، أما الفائز منهم فهو آخر مجالد يبقى على قيد الحياة. في ثلاث روايات هي على التوالي: “مباريات الجوع” و”ألسنة اللهب” و”الطائر المقلد” تقدم لنا الكاتبة بطلتها “كاتنيس إيفردين” التي تتطوع لإنقاذ أختها الصغرى التي اختيرت للمباراة، أمام خيارات توازن ما بين البقاء وبين المشاعر الإنسانية، وكذلك ما بين الحياة والحب. والرواية في مستواها الأعمق تعرض لنا صورة الحياة المعاصرة وما يعتورها من قلق وجودي، وتشخص بعمق سمات العلاقة بين الأقوياء والضعفاء أو المسيطر والمسيطر عليهم سواء بين الأفراد أو الدول وما ينمو على ضفافها من محاولات يائسة لإصلاح الفساد أو إنهاء المبرر الفكري للتسلط غير المشروع فتكون العقوبة هي القتل في مباراة تراجيدية... تشبه إلى حد كبير المباراة التي يخوضها فقراء العالم ضد أغنيائه في شوارع الدول الأوروبية وفي ساحات وميادين بعض الدول العربية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©