الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جريمة اللحم

جريمة اللحم
13 أكتوبر 2012
يعرف أبناء الطبقة الوسطى مثلي ذلك الشعور بالذنب الذي ينتابهم تجاه اللحم والمانجو.. لا أعرف منذ متى كان اللحم رخيص الثمن في متناول الجميع.. يبدو أن هذا حدث في عالم افتراضي مثالي لا أعرفه، وربما في بلدان مثل الأرجنتين، حيث الثروة الحيوانية ضخمة جداً، لكن ما أعرفه هو أن اللحم كان دوماً مشكلة، حتى في مذكرات طه حسين «الأيام»، نجد الشعور ذاته بالذنب لدى طلاب الأزهر الفقراء في أوائل القرن العشرين.. لم يكن اللحم رخيصاً في أي حقبة من الزمن، وعندما كان ثمن الرطل مليماً كان راتب الموظف عشرين قرشاً على ما يبدو. العبقري الساخر محمد عفيفي ناقش بإسهاب علاقة المانجو بالطبقة المتوسطة. الرجل من الطبقة المتوسطة يستطيع شراء أفخم نوع من المانجو.. لكن هذا معناه نقص قطع اللحم على المائدة نفسها.. هكذا يقضي الرجل حياته يشتهي المانجو ولا يجرؤ على إشباع شهيته منها بشكل كامل.. هناك دوماً ذلك الشعور بالذنب، وأعتقد أن الهنود هم الذين انتصروا على هذا الشعور بالذنب، لأن المانجو عندهم ينمو من بلاط الأرضيات وأسفلت الطرقات.. كلام محمد عفيفي ينطبق بشدة على اللحم، ولهذا يستحيل أن تجد رجلاً من الطبقة المتوسطة يأكل اللحم بضمير صاف ولا يشعر بالذنب. لي قريب من أعيان الريف الأثرياء، حكت لي ابنته أنهم كانوا يطهون له كيلوجرامين من اللحم ويضعونهما في طبق في غرفته ليلتهم شريحة كلما أراد.. هذا ترف لا يناله إلا أثرياء الريف، لكنه مستحيل بالنسبة لأبناء الطبقة الوسطى، وعلى الرغم من أنهم قادرون على ذلك، لكنه الشعور بالذنب الذي ورثوه من الآباء.. اللحم نوع من الخطيئة في كل الأحوال.. احتفظت بهذه الخواطر إلى أن كبرت وصرت طبيباً.. افتتحت عيادة مشتركة مع صديق لي، وبما أنها عيادة حديثة لا يعرفها أحد، فقد قضينا سنة سوداء.. لم يكن هناك قط ضال يجرؤ على دخول العيادة.. وكان هناك مطعم كباب في البناية نفسها تتصاعد منه الروائح الزكية طيلة اليوم.. تتصاعد إلى أن يأتي المساء ولا نستطيع أن نصمد أكثر، هكذا نعود لديارنا لنتناول العشاء.. أذكر ذلك اليوم الذي انصرفنا فيه بعد يوم حافل من عدم العمل.. يوم من الجلوس والثرثرة والقراءة وشرب الشاي.. لا مرضى.. هنا شممنا تلك الرائحة الشهية تزكم أنوفنا.. رائحة الكباب الشهي، وقد سال الدهن الضأن ليغرق الفحم المشتعل، ويتصاعد للسماء في صورة دخان دسم شيطاني الإغراء. قال لي صاحبي وقد سال لعابه: ـ «يمكن أن نتناول العشاء هنا..» قلت له في غيظ: ـ «بالطبع لا.. نحن لم نفحص أي مريض اليوم.. إذن حرام عليك» قال متوسلاً: ـ «لكننا لسنا مفلسين.. بالواقع معنا ما يكفي ست وجبات كهذه.. سوف أدعوك للعشاء» قلت في إصرار: ـ «أنت تفتقر للحساسية والضمير.. يوم كامل لم نر فيه مريضاً واحداً، ولم يدخل جيبنا مليم، وعلى الرغم من هذا تريد أن تكافئ نفسك بوجبة من الكباب.. ألا تستحي؟.. ألا تخجل؟» قال لي بلهجة أقرب للبكاء: ـ «لا تقل لي إن هذا مستحيل. نحن طبيبان وبالتأكيد يمكننا شراء ربع كيلو من الكباب لكل منا» ـ «بل هو مستحيل فعلاً... الأمر لا يتعلق بالقدرة الشرائية، بل يتعلق بحاجتنا الشديدة إلى عقاب النفس.. يجب أن تشعر بالحرمان والجوع لأنك لم تكسب مليماً.. هذا يبدو لي أخلاقياً..» ـ «لكني جائع ..» ـ «بل أنت مائع» وجررته جراً مبتعدين، وكان علي أن أشرح له ما شرحته لك في أول المقال.. اللحم خيار أخلاقي بالنسبة للطبقة الوسطى، وهو خيار ليس سهلاً. عدنا لديارنا.. لا أعرف ما حدث بالضبط، لكني توقفت عند المدخل.. نظرت حولي.. استقللت سيارة أجرة إلى عنوان معين. عندما دخلت المطعم والرائحة الزكية تملأ أنفي، فوجئت بذلك الوغد الخائن صديقي وهو جالس في ركن القاعة يلتهم الكباب.. يفرغ جرعة من المياه الغازية في جوفه ثم يملأ فمه بالمزيد من اللحم، والدموع توشك على أن تسيل من عينيه تأثراً.. لما رآني أوشك على الموت اختناقاً.. جذبت مقعداً وجلست أمامه وقلت لائماً: ـ «لم تعد لبيتك.. تسللت لتأتي هنا وترتكب هذه الرذيلة» ـ «لكنك أنت أيضاً ...» مددت يدي والتهمت إصبعاً من الكفتة من طبقه، وقلت بفم مليء: ـ «أنا وأنت لا نتحلى بأخلاق الطبقة الوسطى وغير جديرين بأن نكون منها.. جميل أن تشعر بالذنب عندما تمارس الجريمة لكن الأهم ألا ترتكبها..» ثم نظرت لطبقه مدققاً وقلت: ـ «هل تريد رأيي؟.. أرى أن ثلث كيلوجرام كثير جداً.. أكثر من اللازم.. أقترح أن نقتسم هذا الطبق في الأكل والحساب.. هذا سيبقي الشعور بالذنب ملتهباً لدينا!» د. أحمد خالد توفيق
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©