الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من الصالة إلى الفضاء

من الصالة إلى الفضاء
23 أكتوبر 2013 20:01
يكاد ما يُعرف عربيا بـ”الفن المفاهيمي” (The Conceptual Art) يكون قارة مجهولة بالنسبة لجمهور الفن التشكيلي العربي وللكثير من الفنانين على حدٍّ سواء، مع أنه واحد من أكثر أنواع الفنون التشكيلية قربا إلى المعنى المباشر في رسالته الفنية بكل مضامينها الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وذلك بحكم بنيته الفنية القائمة أساسا على التعبير الفني عن فكرة أو مفهوم واضحين ومعروفين من قبل الفنان والجمهور عموما. ربما تعود البدايات الحقيقية للفن المفاهيمي على المستوى العربي إلى السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، لكنه في هذه الأثناء يشهد رواجا كبيرا في أوساط الفنانين التشكيليين العرب من شبّان ومخضرمين. غير أن هذا الفن لا يزال يعيش عزلة خاصة، لا تتوقف أسبابها عند اختلافه في عادات التلقي عن عادات تلقي اللوحة أو التمثال أو سواهما من أشكال التعبير الفني، بل يتجاوز ذلك بسبب هجرته المتاحف وصالات العرض الاعتيادية إلى فضاءات مفتوحة تتأثر بها بنية العمل وطريقة تلقيه من قبل الناظر إليه؛ بالنسبة للفن المفاهيمي في الغرب، فلقد كانت الستينات من القرن الماضي، خصوصا في نصفها الثاني حاسمة جدا بالنسبة لهذا الفن، فلقد تأسس نظريا وتطبيقيا إثر الحرب العالمية الثانية والهزائم التي لحقت بالفرد على المستويين الذاتي والموضوعي مثلما في ظلّ ازدهار لأفكار عدمية حفّزت من طرح أسئلة عميقة حول الفن وجوهره ودوره الاجتماعي والجدوى من نظرياته التي تلغي خصوصية الفرد وتُعلي من شأن روح القطيع في الجماعة، وكذلك أيضا ما شهدته الستينات من بروز نظريات في الأدب والفن تكاد تكون هادمة لما قبلها، خاصة البنيوية التي اتكأت على نظريات الفرنسي ميشيل فوكو وأفكاره الثقافية العميقة التي تزامن انتشارها مع ثورة الطلاب في أوروبا والأميركيتين ربيع العام 1968. ذلك كلّه شكّل حاضنة ومرجعية نظرية للفن المفاهيمي يعود تاريخه إلى العشرينات من القرن الماضي مع حركتيه السوريالية والدادائية اللتين كانتا نوعا من التمرد على الحداثة الفنية الأوروبية ومحاولة لإحداث القطيعة معها خاصة مع أعمال مارشيل دوشامب الذي يعتبر واحدا من أيقونات الفن المفاهيمي الآن. ما يلي ترجمتان: واحدة لمعنى الفن المفاهيمي في سياق تطوره التاريخي بدءا من العشرينات، والتالية “جُمل في الفن المفاهيمي” وهي مجموعة من المقولات التأسيسية للفن المفاهيمي التي كتبها احد أبرز الفنانين المفاهيميين والمنظرين له: سول ليوِت في نيويرك من العام 1969 ونشرت في مجلة اختصت بالفن المفاهيمي وتحمل الاسم ذاته الذي حملته أول جماعة فنية مفاهيمية هي “الفن واللغة” في لندن في عدد مايو من العام نفسه. وقد كتب سول ليوِت نفسه مقالة أخرى حملت العنوان: “فقرات في الفن المفاهيمي” التي اعتبرت لاحقا بيانا هاما من البيانات الفنية التي أسست لهذا الشكل من الفن التشكيلي. رفض للتقاليد في مواجهة الإقصاء والتهميش ترجمة وتقديم: جهاد هديب “الفن المفاهيمي” شكل معاصر من أشكال الفن التشكيلي، يتجسد في مفهوم أو فكرة محدّدين، وغالبا ما يكون ـ هذا المفهوم أو الفكرة ـ شخصيا ومركّبا وشاملا، ويتخذ من التجريد ومن الأساليب غير المألوفة نظاما مستقلا تأسس على رفض القواعد الجمالية. يختلف “الفن المفاهيمي” عن “المفهوم” بوصفه محتوى العمل ومضمونه، لكن من الممكن اعتباره، أي الفن المفاهيمي، شكلا تجريديا للفكرة ولإدراك العمل الفني الناشئ في ذاكرة الفنان الذي يظهر لاحقا في بِنية مقترحة ومجموعة منوّعة من الأشكال. ومن هنا، للعمل المفاهيمي في الفن خصائص غير قابلة للتغيّر، نظرا لللغاية العامة منه وللمظاهر ذات الصلة التي تتخذها مكوّناته. وبالتالي وبالنسبة لفناني هذه الحركة، فإن تعريفات الفن والعمل الفني وصلتهما بالإنسان والبيئة والجماليات، هي في طور إعادة تقييم جارٍ العمل عليها باستمرار، من نقطة استشراف بعيدة عن الحداثة. وعبر استخدامهم أساليب وطرق معالجة متنوعة، كالاختزالية والفن الأدائي والفن التجهيزي، افتقر الفنانون المفاهيميون إلى التأويل بالضرورة، وهو ما قدّمه فنانو البوب آرت، أولا، بطريقة مشوشة ودون أساس يستند إلى نظرية الفن. وفي الحقيقة، ومن خلال تعريف الشيء وإدراكه بالحواس بطرق متنوعة ومن خلال توصيف لغوي وشروحات مكتوبة، شكّك الفنانون المفاهيميون بجوهر الفن بالذات وبطبيعته وروحيته ومظاهره المتخيّلة التي ظلّت محتوى دون شأن. إن العلاقة بين الفنان والعمل الفني والمتلقي هي علاقة متحوّلة بالنسبة للفن المفاهيمي. إن صنيع “الفن المفاهيمي” ليس سردا للطبيعة بأشكالها المتعددة فقط، ذلك أنّ الفنان المفاهيمي، ومن خلال استنتاج شخصي، لا ينتفع من عناصر تعبير متاحة لرسم لا طبيعة الأشياء فحسب بل يستفيد من الموضوعات السياسية والاجتماعية والتكنولوجية كذلك. ففي العديد من الحالات يكون المتلقي، وكذلك الفنان نفسه، جزءين متممين للعمل الفني ومفهومه الأساسي. وهذا الشكل من التعبير الفني سوف يحدث، في مجتمع ما حيث هيمنةُ “الحداثة” قد كابدت من كل أشكال مقاربة “الحديث” ومن رمزية تفادي الأساليب والمقاربات الإشارية التي تأسست على “الحداثة” في الفن. بالتالي، وبعيدا عن فهم المقاربات والنزعة إلى الاستكشاف والمعرفة الكافية بتطور الفن الحديث، فإن الفن المفاهيمي وتجلياته المتنوعة سوف تكون فقط نسخةً محرّفةً عن الشكل الأصلي. أيضا وفي الواقع، فإن تطور الفن أمر لا يمكن التنبؤ به ويوضِحُ ذلك تسلُّط بِدْعات فنية سريعة الزوال قد تخطّاها فن المجتمع ما بعد الحداثي. لقد انبنت الحداثة على الاختلاف والجِدَّة والفردية ونبذ تقاليد الماضي، فأحدثت الكثير من الطُرُز والمدارس في الفن الغربي أضاف كلٌ منها شيئا إلى نُضْج ورسوخ الفن الحديث. وعلى الرغم من أن الشكل والمضمون قد اعتُبرا نتيجةً لتطوّر تاريخي في الفن الغربي، وتحديدا منذ عصر النهضة، فقد كانت الحداثة سابقة على أشكال الفن على نحو من غير الممكن تجنّبه، وذلك مع كل تجربة أمكن لها، بصورة محتملة، أن تكون مثالا فعّالا وأكثر سعةً من الفن الأصلي. إنّ مظهر الحداثة وكذلك مظهر روّادها، هما اللذان اعتُقِدَ أنهما قد استقصيا وأصبحا غير قابلين للتجدد، عادا بوضوح في نهاية القرن العشرين؛ لقد ارتدّت الحداثة تلك عن المتاحف وقِيَمها وأوجدت متاحف أخرى عِوَضا عنها. وبهجمة الحرب العالمية الثانية وهجرة الفنانين الأوروبيين، انتقل مركز الفن الغربي إلى الولايات المتحدة الأميركية، ما تسبّب بتطورات جديدة. وفي حين انبنت تلك التطورات على المبادئ الأساسية لمعلمين حديثين، حيث أخذَتْ النتائجُ بعين الاعتبار الحداثة في ذروتها، إلا أنها على الرغم من ذلك قد أحدثت التفسُّخ الكامل للحاثة الكلاسيكية، فقد أبدع جيل ما بعد الحرب من الفنانين أعمالا بجرأة ذهانية، أي أنها تقوم على التفاعل بين ظاهر جسدية وأخرى نفسية، لم تكشف عن التحوّل الطبيعي للحداثة فحسب بل أيضا دمارها ونهايتها. ومثلما رسمت تراجيديا الحرب والكفاح الاجتماعي ضدها والأزمة الاقتصادية نهايتها، فقد تغيّر اتجاه الأوضاع بسبب النمو الاقتصادي، ولم تستطع المعايير الفنية لما بعد الحرب أنْ تبقى مُقتصَرَةً على شكل الحداثة ومحتواها. إن الحصيلة النهائية للحداثة قد تواجدت بأشكال متعددة، بل حتى في أعمال حركة البوب آرت المشوشة جماليا ومفاهيميا. وفي هذه المرحلة وجنبا إلى جنب مع تجارب فناني البوب آرت؛ نشأت تدريجيا حركات فنية أخرى أعلنت عن نهاية حقبة “إيزم” الحداثة. ومع قدوم التيارات الفنية الجديدة في الستينات، عاد شكل العمل الفني ومضمونه، وكذلك علاقته بالناس والمجال، ليصبح أمرا جدليا ثانية. فقد استخدم الفنانون التطورات التكنولوجية الأحدث في التعبير عن أفكارهم. وعلى نحو جاذب، فإن البراعة في تسجيل الصوت والصورة وعرض المادة المدوّنة قد جلبت، جميعا، الفيديو آرت إلى صالات معارض الفنون البصرية. في العام 1965، سعى فنانو “الاختزالية” إلى إحداث أعظم أثر ممكن على المتلقي من خلال أقلّ قَدْر ممكن من تقييد المعنى في شكل؛ هم الذين ألهمتهم التجريدية الهندسية وانتفعوا من الأشكال الأكثر بساطة والحجوم الأكبر مما يمكن تخيُّلها في التركيبات الصناعية. وحقق “الفن التجهيزي”، آنذاك، انتشارا واسعا يستفيد من بحث الفنانين البصريين عن امتدادات لفضاءات أعمالهم؛ وعن أعمال ضخمة تلائم وظائفها وفضاءاتها التي ابتُكِرتْ. وكان هذا الفن قد ظهر في فترة مبكرة من القرن العشرين بوصفه نتيجة مباشرة لمحاولة الحداثة تجنّب قيود اللوحة المسندية التقليدية. وفي العام 1968، اجتمع عدد من الفنانين الانجليز المعروفين على أنهم “جماعة الفن واللغة” لمناقشة النظرية والتطبيق في ما يتصل بالإبداع الفني. ورفضت هذه الجماعة مقاربة “الفن لأجل الفن” وطرق اشتقاقه ـ أي الفن ـ من الحداثة، إذ اعتقدوا بأن مصدر المعنى في الفنون البصرية هو اللغة، وبسبب ذلك أظهروا في أعمالهم كلمات وشروحات مكتوبة. كان جوزيف كوسيث رقما صعبا في هذه الجماعة، هو الذي استخدم نصا مكتوبا بمستويات مختلفة في عمله “شخص وثلاثة كراسي”، حيث ضمّ كرسيا حقيقيا وصورة بالحجم الطبيعي لكرسي ومدخلا قاموسيا لكلمةٍ تُسائل حقيقة موضوعه وعمله الفني، التي هي في محل شك وارتياب. وخلال تلك السنوات، غادر عدد من الفنانين في أميركا وأوروبا محترفاتهم بهدف الاستفادة إلى أقصى حدّ من الامتدادات المفتوحة في الطبيعة والمحيطات والصحراء والمزارع وسواها من المواقع التي كان من الممكن الوصول إليها. وقد صُنِّفت هذه الأعمال بوصفها “فن الأرض”؛ وهي أعمال بُنِيَتْ وفقا لمقياس ضخم بات خصيصة انتقالية لهذا الفن، وترمز ـ أي هذه الخصيصة ـ إلى شغف متبادل بين الشخص والطبيعة، فقد كانت هذه الأعمال استذكارُ ذكرياتٍ خرافيةٍ وأساطيرَ حياةٍ إنسانيةٍ أغفلها التاريخ القديم. من جهة أخرى، ثمة الفنانون الذين عثروا في الجسد البشري على الوسيط الأكثر ملاءمةً من اجل التواصل مع جمهور العمل الفني. وفي بعض الأحيان مزجوا ما بين خصائص الفن البصري من جانب، وبين حركات الجسد ومهارة التمثيل من جانب آخر؛ كما مزجوا بين تلك الخصائص والعنف المؤثر والسلوك الثوري للجسد البشري بطريقة قُصِدَ منها أنْ تُحدثَ صدمةً. أنصارُ هذا الشكل الفني قدّموا مفاهيمهم؛ فظهر هذا الشكل بوصفه “فنّا أدائيا” وفنّا “يحدث للتوّ” و”فن الجسد”. بالتالي، فالفن المفاهيمي، الذي بدأ كحركة من بين العديد من اتجاهات الفن الستيني، اعتبر أن الأسبقية ـ وقد تمّتْ البرهنة عليها ـ هي للمفهوم الذي أمكن للفنان تخيُّلَه على الأسلوب المُستخدَم في عرض هذا المفهوم، حيث كانت هذه الحركة قد أُنشِأتْ لتشمل ما هو أكثر بُعدا من الحركات المعاصرة لها إلا أنّ تأثيرها كان ضخما على الاتجاهات الفنية اللاحقة. لذلك فقد كان الأثر العظيم هو تلك النتيجة التي تتمثل في أنه بينما كانت أشكال الفنية تتأسس على المواقف الجمالية للفن المفاهيمي تراكميا، فقد حاز العديد منها ـ أي أشكال الفن ـ خصائص استثنائية وأسماء فردية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©