الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بوح الشاعر الطهراني

بوح الشاعر الطهراني
23 أكتوبر 2013 20:01
شأنه شأن الأدباء العرب الكبار، من جيل المبدعين أيام الزمن الزاهي. فهو أديب متعدد الخبرات، موسوعي المعارف. ولما كان يقبض على ناصية اللغة بدُربة ودراية، فجال ما يحلو له التجوال، في فيافي الأدب بأجناسه وأصنافه المعهودة في زمنه، فكتب القصيدة بلونيها النبطية والفصيحة، برقة وجذالة مرهفة، وجوّد فيها بمختلف أساليبها وألوانها بسليقة عفوية أصيلة، بدءاً من الغزل والعشق العفيف، إلى الشوق والشجن الشفيف، مرورا بالتأمل والوجدانيات والاخوانيات، والموقف النظيف بالمعنى الأخلاقي والانساني، وصولا إلى المديح والثناء، من دون أن يغفل عن الهموم الوطنية والقومية. كما كتب القصة القصيرة، والمسرحية الشعرية، فضلا عن مدوناته، التي ضمنها ملاحظاته ورؤاه حول الوقائع والأحداث السياسية والاجتماعية التي مرت بها البلاد العربية عموماً. هذا ما يقوله كتاب الأديب ابراهيم الهاشمي الجديد، الذي يتناول فيه مجددا سيرة الشاعر مبارك بن حمد العقيلي مع الشعر والحياة، مضيفاً إليها أكثر من عشرين قصيدة تنشر لأول مرة. ونُشر الكتاب ضمن “سلسلة أعلام الإمارات 7” الصادرة عن “مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية” ويحمل العنوان اسم الشاعر العقيلي. من دون ريب كان الشاعر مبارك بن حمد العقيلي ابن زمنه بامتياز، ولأنه يدرك هُويته جيدا، ويعرف مسارب التاريخ وخباياه، ويعاين تفاصيل الواقع بذهن متفتح وحس مرهف، أبت نفسه الضيم والخنوع بسجية الأعراب، فاستهل صباه المبكر برفض ظلم الولاة العثمانيين في مسقط رأسه، حيث “جهر بالعداء والرفض للاحتلال”، ولأن الشاعر لسان حال أمته، “فعبر عن آرائه ومناهضته قولا وفعلا، ما أدى به إلى السجن لفترة غير معروفة بدقة، وإنما تتراوح ما بين عامين، إلى ثلاثة أعوام، تم على إثرها نفيه إلى العراق” كما يقول الهاشمي. رأى العقيلي بسجنه ظلما فادحاً، زاد من قسوته تواطؤ أو ربما تخلي الأهل عنه. فعبر عن مرارته شعرا غاضبا حينا، عاتبا ولائما أحيانا، بقصائد فصيحة ونبطية متعددة، تطفح أسى وحزنا، منها قوله من ضمن قصيدة طويلة بعنوان “يا مفرج الكربات”: من حيث أنا محبوس من غير سبات اجرم بها والحبس عنهـــــــا نكالي تعلم باني ماطيــــــــت الخطيـات حاشــــــــا ولا جنبت نهج العدالي لكن فعلت احسان عند القرابـــات والسو منهم صار عنه الجزا لــــــي ويؤكد على هذا المعنى، الذي قاده إلى السجن بقوله في قصيدة أخرى: دخلنا بحبس الترك من غير سبـــه نجازا بها والنفس فيه تلومهـــــا فعلنا جميل في القرابة وبالردى جزونا وكم حسنى تجازا بشومهـا وللإشارة إلى أنه لم يسجن بجريمة أو خطيئة مشينة، وإنما دخله بموقف مشرف، لذلك لم ينل السجن من عزيمته أو شكيمته، ولم يندم على ما أقدم عليه، فيقول: أنا بحبسي فكرتي باتقــــــادي لا أفتل عزم لي ولا لان لي عود حرّ أنا واحرار كـــــــــل العبادي والحق شرع الله لا سوط نمـرود لا تحسبوني راجع عن مــــرادي ما قول ذا سيد وهذاك مسيـود ويختم القصيدة بتأكيده وإصراره على القيام بما قام به، لأنه حق دونه، خرط القَتاد، كما تقول العرب، وأقصاه التضحية بالروح، فيقول: حقــــــــي أطالبّه ودونه أفادي روحي بيد الله وآخر الجسم للدود ويذكر أحبابه وأصحابه بمقتضيات المروءة والرجولة والارادة الحرة ، فيقول من ضمن قصيدة أخرى: أنا هذا الحبس لـــــــي فيــه الفخر ما انخفض صوتي ولا لي العزم خار يا لداتي في المعـــــــــارف والنظر الصبر في الذل للاحــرار عـــــــــــار وبقصيدة اخرى يوبخ المفرطين بالكرامة، الممالئين للظالم، فيقول: فيا صاح ما بالهون تشرى المعالــــي ولا بالهوى تقضي الكسالى همومها الواضح أن السجن ترك في روح الشاعر ندوباً عميقة، وجروحا لا تندمل، رافقته حتى مماته غريبا عن أهله، حيث دفن بعيداً عن ملاعب صباه. ويقدر الهاشمي أن سنوات سجن العقيلي تقع مابين 1893 و1896، استنادا لقصائد الشاعر المؤرخة بخط يده في مخطوطاته، التي أثبتها في نهاية الكتاب. بعد السجن آثر العقيلي على هجر مسقط رأسه في الاحساء، بسبب الطعنات التي تلقاها من أهله وعشيرته، فطاف في الجزيرة لسنوات عدة، واستقر به المقام أخيرا في دبي، وبالتحديد في الرابع عشر من نوفمبر عام 1905، حسب تأريخ العقيلي نفسه. أسير عشق خفي ديوانا العقيلي “كفاية الغريم عن المدامة والنديم”، و”غاية المرام لأهل الغرام” حفلا بقصائد مطرزة بلوعة الحنين الجارف، وحرقة الهجر والصد، فيقول بقصيدة عنوانها “طال منك الجفاء”: قد طـــــال منـــك الجـــفاء وقــــــل منـي العـــــــزاء يـــا أكمـــــل الناس حسنــــا لك السنـــــــى والسنــــاء رفقـــــــاً على مستهــــــام قــد ضاع منه الذكــــــــاء نحيــــل جســـــم كئيـــــــب قـــــــد ملـــــــه الجلسـاء آه ولـــــــو كنت تــــــــدري أن الغـــــــرام فنــــــــــاء ما كنـــــت تجفـــــــوا محباً وفـــــــــاعلا ما تشـــــــاء ومن قصيدة أخرى بعنوان “عهد المحبة” يقول فيها الشاعر العقيلي: أتمنع طيب الوصل من جدّ في الهوى وتمنحه من يدعي وهـــــو عــــــابث لعمري هذا في الهوى شــــــر بدعـة ومبتدعوها فيه قوم خبائـــــــــــــث إلى أن يقول: إلى الله كم يهوى الصدود معذبي وإني على الميثاق لا شك ماكـــث. كذلك يقول الشاعر في قصيدة رومانسية مترعة وجدا وصبابة بعنوان “عهد الوفاء”: فؤاد المعنّى في هواك غريــم وإني على عهد الوفاء مقيــــم فكن ياحياة الروح يا غايـة المنى رحيماً بحالي فالمحب رحيــــــم إلى ان يقول: فيا فاتناً بالحب قلبي ومُتلفي ومن ذكره لي راحة ونــــــديم ترفق بمضناك الذي ذاب قلبه عليك جوىً فالصد منك عظيم الشاعر مبارك بن حمد العقيلي، من أولئك العشاق الفرسان، المفطورين على عفة اليد واللسان، المجبولين بالرقي والتسامي، المحكومين بالتعالي عن الدناءات أو الموبقات، المسكونين بشغف الحبيب بطهرانية تليق بالحب الشفيف، الذي لا يبرح الحنايا، وكلما زاد اضطراما، أوغل عميقاً في ثنايا الروح، فيأتي البوح مناجاة أندلسية عذبة، تهز الوجدان، وتحرك لواعج القلب كما في قوله من قصيدة بعنوان “عن أحباب قلبي”: سقى الله ايام التدانـــــــي وطيبهـــا سحاب الرضى في كل الأحيان هطالي زمانٍ تبعنا فيه مـــــــــــا يشرع الهوى بــــــه اهتز منا الغصن والغصن ميَّالي ولكن العقيلي على كثرة قصائده المتناثرة على امتداد سنوت عمره الثمانين، التي تتلطف أو تتعطف المحبوب، وتناجي طيفه، الذي استوطن العقل والروح، وبرح القلب وأوغر بالجروح، إلا أنه أبقى الحبيب حبيس الخيال، ولم يبح باسمه أو رسمه، لا تلميحا أو تصريحا، واكتفى منه بلهيب الجوى، وضرام النوى المتوقد أبداً، المشتاق لكأس لا تشفي العليل، وإنما تكون سببا لمزيد من التعليل، كما يقول في قصيدة بعنوان “قد جعل الغرام علي وقفاً”: أدر كأس المدام عليّ صرفــــاً ففي قلبي لهيب ليس يطفى أدرهـــــــا فالفؤاد صبا إليها ولي فيها معان ليس تخفى نفحات عروبية عُرف عن الشاعر العقيلي أنه كان يوثق للأحداث بدفاتره من خلال الصحف والمجلات التي كان يتابعها مثل مجلة “النديم”، “وأم القرى” المكية، و”الكويت” الكويتية، وجريدة “الأخبار” البغدادية، وجريدة “المقطم” المصرية، ومجلة “الجهاد” الحلبية، ومجلة “الفتح”، وجريدتي “البحرين” و”القافلة” البحرانيتين، وجريدة “الاهرام” المصرية، وجريدة “الجامعة الاسلامية” وغيرها ـ حسب الاديب ابراهيم الهاشمي ـ ما يعني أنه كان متابعا للحراك السياسي والثقافي في العالم العربي، لا بل منخرطا في معمعة السجالات التي كانت تدور في مطالع القرن العشرين حول الموقف من الحداثة الغربية، فيسجل موقفه من دعاة التغريب شعراً فيقول في قصيدة مطولة عنوانها “بني عدنان” نقتطف منها التالي: بني عدنان الدنيا استنــــارت وأنتم لا ضياء ولا شعــــــاع تركتم لغة القرآن تعفــــــى وفي إحيائها لكم ارتفـــــاع صبئتم للرطانــة وهي تيـــه بها للدين والوطن الضيــاع تقولــــون التمدن يقتضيهـا كذبتم أيه الهمج الرعــــــــاع ألا إن التمـــــدن صرف فكــر وجدّ في الصناعـــــة واختراع القصيدة تعبير عن موقف فكري صرف، يرتقي العقيلي به ذرى الحداثة المعاصرة في الوقت الراهن، برؤية فذة وحية بكل المقاييس، بمعنى أنها بقدر ما كانت تؤسس لوعي جديد في زمنه، فإنها تستشرف مفهوم الحداثة، في إطار المثاقفة الفاعلة، وليس الاستلاب أو التغريب، الذي كان سائدا في الساحة الثقافية العربية، في مطالع القرن الماضي. فالحداثة لديه لا تعني الرطانة، بمعنى تقليد الغرب، وإحلال لغته محل العربية بادعاء عجزها عن إسيعاب معطيات الحداثة المعاصرة، وإنما التمدن، حسب العقيلي، هو إبداع فكري خلاق، واجتهاد في الاختراعات والتصنيع، وحينها لن تعجز العربية أن تكون لغة للحداثة بامتياز. أما قضية فلسطين، التي شهد نكبة العرب بها، ولم يشهد نكساتهم المتلاحقة باثمها أو خطيئتها، حيث وافته المنية عام 1955، فيسجل موقفه منها بقصيدة نبطية، بعنوان “فلسطين” يقول بنهايتها: في فلسطين للنيران شبــــــاب وعد بلفور واهل الوغى يحمونه ما فلسطين إلا ملك الاعـــــراب فتح خالد وعمر الناس يدرونــــه وين اهل الحفايظ كــــل وثاب قدسكم ياعربنا يطلب العونـــة وفي قصيدة فصيحة بعنوان “فلسطين” ايضاً يستهلها بقوله: فلسطين لبيك لك الروح والجسم فما لي سوى أن تسلمي والعلى هم. ويقول: ففي الجو دخان وفي الأرض هزة وفي الناس رعب في الوجوه له رسم فما لأوربــــــــــــا واليهود عيالها بهم ضاق منها الذرع وهي لهم أم وكأنه يستشعر خذلان فلسطين الجريحة فيقول: وهل تنفع الأقوال والسيف مغمد ومنا أناس همها الوطء واللقــــم إلى أن يقول: فوا أمة قد قادهـــــــا الجهل للعمى وصوت ساداتها عن داعي الهدى صم لئن نُزعـــــــــــت منا فلسطين للعدى وأصبــــــح فيها للصهاينــــة الحكـــم إلى أيـــن يا أبناء عدنـــــان سيركــــم .............. ويترك الشاعر قصيدته بلا نهاية، من دون أن نعرف السبب، وما إذا كانت الدنيا حالت دون إكمالها؟ أم أن يده أبت أن تخط النهاية، التي يشهد مؤشراتها بحس الشاعر المرهف، الذي لا يقوى على تمثلها ولو بالكلمات؟ وربما أرادها مفتوحة، كما هي حال جروح فلسطين النازفة إلى أن يشاء الله... فكر وتأمل العقيلي شاعر من جيل الرواد، الواثقين من خياراتهم الفكرية، المتمكنين من ادواتهم المعرفية، لذلك لا يعرف المجاملات، ولايتردد في التعبير عن نفسه في كل المقامات والمواقف، بأرق لغة وأشفها، فيقول مخاطبا بعض عذاله أو لائميه على عشقه أو استغراقه في التأمل والتفكير، في قصيدة رائقة بعنوان “حنانيك”: حنانيك من سكر الفكر ما أنا صاحــي فسر في سبيلك واترك اللوم يا صاح مدامي غرامــــي بالمعاني ونزهتي سجل كما خد الرشا الأحـــور الضاحي إلى ان يقول: فريد وأيــــامي صحايف معارفـي والأعيان كتبي والتجاريب شراحـي أنــــــــاجيل وقتي بالتدبر قرّيتها ولا صح في عقلي بها قط اصحاح ويقول: وصبري جميــــــــل والعفاف جبلتي وحفظ الشرف والله من اعظم ارباحي تتعدد الموضوعات أو الأغراض الشعرية لدى الشاعرالعقيلي، وتتلون بشتى الاهتمامات والاتجاهات، ولا ينجو منه المنافق أو الطفيلي المتزلف، فيصفه في قصيدة بعنوان “الطماع” فيقول: إنمــــــــا الطمـــاع لــــــص أو أخــــو اللص المــــــــذوم إن رأى الدينـــــار صلـــــــــى وعلــــى الفلس يصـــــــــوم يأخـــــذ الرشـــــــــــوة قسراً أخـــذ من يجبي الرســــــــوم إن العقيلي بشعره الفصيح والنبطي، هو شاعر واقعي إلى أبعد الحدود، وإن جنح إلى الرومانسية قليلا، بسطوة الغربة والبعاد عن الأحبة، فذلك لأن العاطفة الجياشة، التي تمور بداخله، تجعل المفردات لديه طَيّعة، جذلة، فتتناسق مع الصور والدلالات بتناغم جذاب، يحمل قارئه إلى الحلم والخيال المفتوح على اقاصي الدهشة. هو باختصار شاعر من زمن الابداع البهي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©