الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

منافذ الشيطان

منافذ الشيطان
12 أكتوبر 2012
أحمد محمد (القاهرة) - الفقر جعل «سالم» في شبابه، كما في طفولته، ساخطاً على ما حوله، حاقداً على الناس، ينظر اليهم وإلى ما في أيديهم، يطمح للوصول إلى الثراء الذي يحلم به، بغض النظر عن الوسيلة التي سيسلكها، الغاية عنده تبرر الوسيلة، لديه قناعة بأن التعليم إحدى الوسائل التي يمكن أن يحقق بها ما يريد، لكنه تراجع عن هذا المفهوم، لأنه بحساباته يرى أيضاً أن الموظفين ليسوا في رغد من العيش، ويعانون ويشكون، ومعظمهم في حالة شظف، ومع أنه كان يدرس القانون، فإنه لم يعد مهتما بذلك، وتعثر في الدراسة في السنة الأولى بالجامعة، أبوه لا يهتم ولا يعرف ماذا يدرس ابنه، ولا في أي سنة دراسية هو، لأن الفتى منذ سنوات يعتمد على نفسه، ويتولى الإنفاق على احتياجاته ومصروفاته الدراسية. لم تكن الأعمال التي التحق بها ترضي غروره، ولا تحقق أحلامه، فهو دائماً في الجانب الأسفل، خادم في كل عمل، مقهور بلا إرادة يتلقى الأوامر، وما عليه إلا السمع والطاعة، وهذا يخالف شخصيته العنيدة الرافضة للواقع، لديه الإرادة، لكنه يفتقد الطريق والوسائل، لا يعرف من أين يبدأ، ولا إلى أين يسير، تائه بين التفاصيل التي تغرق تفكيره وتشوش عليه، يتعجل الفرصة ليخرج من القاع صاعداً إلى القمة، من دون المرور بمرحلة الوسط التي لا يرى لها أي أهمية، ولا يجب أن تستغرق الوقت، وقد يضيع هباء. كان السقوط الأول الذي اعتبره درجة نحو أحلامه العالية، فالمقاييس عنده مقلوبة، التقى بواحد من معدومي الضمير الذين تقابل معهم في التفكير، كان تاجر مخدرات، والطيور على أشكالها تقع، فليس صعباً أن يتعرفا على بعضهما بعضاً من دون سابق علاقة ومن غير وسيط أو صديق مشترك، فهؤلاء مثل الحيوانات التي تلتقي على الجيف، لا تعرف ما تأكل ولا تبحث عن الصلاحية، فقط تريد أن تملأ بطونها، ولا تعرف الشبع، ولا تريد لغيرها أن يشاركها، مجرد حوار عابر بينهما على مقهى شعبي، تحدثا فيه عن الظروف والأحوال وضيق ذات اليد، وأنه يجب ألا يقف الإنسان مكتوف اليدين ويتحجج بحجج واهية، إذاً لابد أن يعترف بعجزه، ولا يلومن إلا نفسه، بدلاً من أن يلقي بالاتهامات على الآخرين. كان ذاك اللقاء من وجهة نظره فاتحة خير، فقد دعاه محدثه إلى «سهرة» في مكان هادئ يمكنهما هُناك أن يتحدثا بحرية أكثر بعيداً عن العيون، وهناك كان الحوار صريحاً، المسألة ليست في حاجة إلى المناورة، كان الاتفاق على أن يعمل «سالم» معه في تجارة المخدرات، لكن شرطه الأول أن يكون العمل لحساب نفسه لأنه أصابه الملل من التهميش والإلغاء، وانطلق إلى عالم الانحراف من أوسع أبوابه، عرف الأموال التي جرت بين يديه غزيرة للمرة الأولى في حياته، مما جعله يندم على ما فات منها، بدت عليه آثارها بشكل واضح، وتغيرت هيئته، وما زال يقول هل من مزيد. لم يكن ما حققه يرضي شهوته التي انفتحت على حب المال، ويبحث عن التكاثر، فهُناك أحلام كبيرة وكثيرة لم تتحقق، ولم يبدأ السير نحوها، يريد أن تكون لديه سيارة فاخرة، وبناية شاهقة، لكن الغريب أنه يريدها في منطقة شعبية، فهو لا يستطيع أن يتعايش مع المناطق الراقية، وكذلك يحلم بأن يتباهى على جيرانه كي يبدو أنه أكبر منهم، بل أن تفكيره يذهب إلى أكثر من ذلك، يود أن يكون له رجال وخدم وتابعون يأمرهم فيطيعون، فما زالت عقد النقص تسيطر عليه، ولم يكن قادراً على التخلص منها، فهو مريض بحب التملك والتسلط. فتح الشيطان أمامه أبواباً أخرى للحصول على المال، كان منها تجارة السلاح، وجد فيها أيضاً مكاسب سريعة وكبيرة، لكنها ليست ميسرة مثل المخدرات من حيث الطلب والنقل والقيمة، فاكتشافها أسهل من المخدرات وتحتاج إلى مجهود أصعب، لكن هؤلاء لا يعدمون حيلة ولا يفتقدون الوسيلة، فالنتيجة تستحق المجازفة والعائد كبير ومضمون، ولا مانع من استخدام بعض الشباب من المتعطشين للمال والمجازفين من أجله حتى بحياتهم ليتولوا عمليات النقل وتكليفهم بالأوامر والتنفيذ، ولم يكن العثور على هؤلاء صعباً. لم يكن هذا كله سهلاً بشكل عام، فهم يخشون السقوط في يد البوليس، وليس بالضرورة أن تكون هناك معلومات مسبقة عنهم وإنما يمكن أن يقعوا بالمصادفة، وكلا الأمرين وارد في كل عملية، وإن كانت مخاوف سالم وشركاه من السجن أقل من مخاوفهم من ضياع الصفقات التي أصبحت أرقامها تدخل في حسابات بالملايين، ولم تكن تلك مجرد أوهام، فقد حدث بالفعل أن أُلقي القبض على صديق سالم الأول الذي كانت البداية معه، ويعتبر معلمه وأستاذه في هذه الأعمال، وإن كان لا يعترف به بتلك الصفات، وإنما فقط يقر بالشراكة والندية. كان القبض على المعلم درسا قاسياً وضربة موجعة من كل الجوانب، فقد تم ضبط صفقة كبيرة ضاع معها الربح ورأس المال لكلا الرجلين، وضاع فيها الرجل الكبير الذي ينتظر حكماً بالمؤبد خمساً وعشرين سنة في الظلام وخلف القضبان، بداية بلا نهاية، تفقد الأمل تماماً في العودة إلى الحياة، ولم تكن تلك آخر الخسائر، بل إن سالم نفسه أصبح الآن تحت المجهر وتحركاته والصبية الذين يعاونونه مرصودة بكل دقة، وقد استنفدوا كل وسائل المراوغة والخداع، وأصبحت مكشوفة ومعروفة، فتوقف النشاط وتأثر الجميع، وافتقدوا صنبور الأموال الذي كان مفتوحاً يخر عليهم الدولارات بأقل مجهود بغض النظر عما يفعلون أو النتائج السلبية من ورائه، والخراب وتدمير الشباب، وهذا أصلاً لم يرد على تفكيرهم ولا يقيمون له وزناً، بل هم على أتم استعداد للسير على الجماجم والجثث من أجل الوصول إلى الهدف. أمام هذه الحال لم يقف «سالم» مكتوف الأيدي، وفكر في تغيير نشاطه كله، ولم يفكر أبداً في الحلال أو الطرق المشروعة وإنما هو وأمثاله يسلكون الدروب المعوجة، توجه إلى المنطقة الجبلية القريبة نسبياً من العمران، لم يكن اختياره لها اعتباطاً، وإنما بتخطيط مسبق وهدف مرسوم، فقد سمع منذ فترة عندما كان يتجول لترويج سمومه، أنها وكر كبير لتجارة الآثار، وتلك التجارة مختلفة، فهي أكثر ربحاً ورواجاً وأقل في العقوبة إذا ما وقع في يد الشرطة، ويمكنه أن يستعين بمحامٍ ماهر قد يخرجه منها مثل «الشعرة من العجين»، وكي يكون له غطاء ومبرر لوجوده هنا قام بما تبقى معه من مال بشراء مساحة محدودة من الأراضي التي يوجد بها بعض الشجيرات، والأهم فإن المنطقة مكشوفة، وكل من فيها وحولها معروفون، وهذا ييسر لهم التعرف إلى أي غريب يمكن أن تدب قدماه هناك. اللقاءات والصفقات ليست كثيرة لأن «البضاعة» غير متوافرة في كل وقت، والمطلوب منها يكون بمواصفات خاصة، وأيضاً كثيراً ما تكون هناك أطراف من الخارج، فيكون في الأمر صعوبة، لكن سالم ذاق هذا النوع من الربح السريع الذي كان يحلم به منذ زمن، ويحقق له ما يريد، بل ويستحق التضحية والمغامرة والمجازفة، واشترى سيارة دفع رباعي كي تناسب المنطقة الوعرة التي يقيم فيها ويتنقل حولها، ويخبئ فيها القطع الثمينة. أعمت الأموال قلب سالم، أصابه مرض الطمع في شركائه، فنفسه لا تشبع أبداً، كانت تلك الصفقة كبيرة تزيد قيمتها على عشرة ملايين دولار، مع أن القطع صغيرة وقليلة، ابتدع وسيلة جديدة بجانب هذا كله، فقد قام بعرض عينات سليمة، وبعد إتمام الصفقة قام بتسليم قطع مقلدة بشكل متقن، ولكن المشترين اكتشفوها مبكراً، وعادوا إليه بها يطلبوا استبدالها بالقطع الحقيقية أو استرداد المال. احتد النقاش من البداية، فقد رفض الاعتراف، ورفض التفاوض، ورفض كل الحلول والمقترحات، وهؤلاء ممن يحملون السلاح دائماً ويتحسبون لمثل هذه المقالب والمواقف، فلا يجدي معها غير القوة، لكن سالم شعر بتحركهم، فقام بإخراج سلاحه الآلي وأطلق عليهم الرصاص فقتل أحدهم وأصاب الثاني الذي فر مع الآخرين هاربين بجلدهم، لكن لم يمض أكثر من نصف الساعة حتى جاءت مجموعة مسلحة من أقارب القتيل لينتقموا له قبل أن يبرد دمه، وقد كان رجال سالم قد تجمعوا، وانتشروا في المنطقة، لأنهم يتوقعون ردة الفعل السريعة. دارت معركة حربية بكل الأسلحة، سقط قتيلان آخران، وأصيب عدد آخر، تحول الموقف فعلاً إلى ساحة قتال، اعتقدوا بعدها أنهم في العصر الجاهلي، وأنه بعد انتهاء المعركة سيحمل كل طرف قتلاه وينتهي الأمر، لكن الواقع ليس كذلك، فقد حضرت قوات الشرطة وطوقت المنطقة كلها، وألقت القبض على جميع المشاركين، وأولهم سالم، الذي لم يعد يعرف الخوف، لكنه الآن يواجه الموت، لأنه من المتوقع أن يحكم عليه بالإعدام في جريمة القتل، فأصبح يرى أن صاحبه الذي سبقه إلى السجن، وينتظر المؤبد، أحسن حالاً منه بكثير، فالفرق كبير بين الحياة والموت، ضاع الأمل والحلم والمال، ولم يبق لسالم أثر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©