السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الجداريات.. دمقرطة الجَمال

الجداريات.. دمقرطة الجَمال
6 نوفمبر 2014 15:24
أثرت التغيرات التي شهدها العالم في المجالات الاقتصادية والاجتماعية وما شهدته الحريات ومجال حقوق الإنسان من تطور، تأثيراً إيجابياً على الفن التشكيلي ولو نسبياً، هذا الفن الذي ظل لزمن طويل حبيس صالونات العرض، فعُدَّ نتيجة ذلك فناً نخبوياً، محققاً عزلته عن الشعب وعن الجماهير العريضة، فتم تدجينه والخروج به عن مساره الصحيح المتمثل في التعبير عن هموم الإنسان ومشاغله وتطلعاته... فيما لعبت دوراً باهتاً في الدول العربية التي شجعت ثقافة صالونات العرض سيراً على خطى الدول الغربية، الأمر الذي كرس الأمية البصرية لدى الشعوب العربية التي هي وريثة حضارة لطالما اعتبرت الفن من تفاصيل الحياة اليومية. أفرزت الحالة النخبوية التي كان يعيشها الفن التشكيلي تياراً مضاداً تلخص في اتجاهات فنية وتكاثف جهود فنانين ومبادرات أفراد وجماعات من أجل جعل الفن ينفتح على المجتمع، فكيف تم ذلك؟ وما سبل جعل الفن في متناول الشعوب؟ تمرد على الاحتكار في ستينيات القرن الماضي خرجت مجموعة من التشكيليين الشباب إلى الشوارع في باريس، ثائرين ومطالبين بهدم متحف اللوفر، وشعارهم: «لقد ضقنا ذرعاً بالمتاحف وغبار الواجهات الزجاجية، ينبغي أن نقود الفن كي يستنشق الهواء»، إنها ثورة على ثقافة صالونات العرض التي تحتكر الفن وتعرضه على النخبة، ويحرم بالمقابل منه الشعب، حيث أضحى الفن التشكيلي يستجيب لمتطلبات السوق والمزادات، فتم تسليعه وإخضاعه لقاعدة العرض والطلب والاحتكار من قبل سلطة المال التي تتحكم في تقييمه، فأصبحت الأعمال التشكيلية بضاعة تباع وتشترى كسائر البضائع الأخرى، وأعمال الفنانين الكبار تدر الملايين على منظمي المعارض والمزادات. فكان لا بد من أن يفرز ذلك تيارات مضادة وممارسات فنية رافضة لاحتكار الفن التشكيلي من قبل الرأسمالية التي تسلع كل شيء وتنزع عنه أهدافه النبيلة وتجعل منه مجرد طريقة للربح، فيتحول الفنان نتيجة ذلك إلى تابع لها يخضع لمخططاتها وإيديولوجيتها. هذه الممارسات المضادة هدفت إلى تثوير الفن وجعله في متناول الشعب. إن الكثير من المبادرات النبيلة والثورية تمردت على ثقافة الصالونات واحتكار الفن التشكيلي عبر العالم، ومكنته ولو نسبياً من الانفتاح على الشرائح العريضة من المجتمع، ومن هذه المبادرات قيام بعض الأفراد بفتح متاحف خاصة، والظاهرة بدأت في بانكوك عاصمة تايلاند حيث قام العديد من الأثرياء ببناء متاحفهم ليعرضوا فيها مقتنياتهم الخاصة وفتحها في وجه الزوار من كل الفئات. وهناك تشكيليون عرب قاموا بمبادرات فردية لتقريب الفن من المجتمع عبر إقامة معارض في الهواء الطلق بالساحات العامة، أيضاً تقوم بعض الحكومات في العالم العربي بفتح المتاحف في وجه شرائح المجتمع لتقريب الفن من المجتمع والابتعاد به عن النخبوية لكن هذه المبادرات لا زالت خجولة ولم تعط ثمارها المرجوة بعد. ونكاية في صالونات العرض، ولجعل الفن التشكيلي في متناول كل الشرائح الاجتماعية أضحى هذا الفن جزءاً من الأزياء والموضة، والكثير من الفنانين التشكيليين وضعوا بصمتهم الفنية على الأزياء، بالإضافة إلى أعمالهم التشكيلية، لحساب شركات عالمية معروفة تعنى بالموضة وبتصاميم الأزياء والأكسسوارات، من هؤلاء، الفنان التشكيلي المغربي المهدي قطبي الذي اشتغل لحساب «كريستيان ديور» وغيرها من الشركات العالمية، ويبرر قطبي اشتغاله لحساب هذه الشركات والهدف المتوخى من ذلك بقوله: «هناك من الفنانين من يشتغلون على اللوحات التي تعلق على الحائط عادة لكن أنا أريد أن أجعل لوحاتي قابلة للارتداء وفي متناول أكبر شريحة من الناس». ويؤكد بأن الهدف من ذلك هو دمقرطة الفن ليصبح في متناول الشعب. والأمر ليس جديداً لأن العديد من الفنانين العالميين رسموا على الأزياء والأواني وغيرها كبيكاسو وسلفادور دالي وغيرهم كثير. وتعتبر الجداريات أهم وسائل تقريب الفن التشكيلي من المجتمع حيث التواصل بين المتلقي والفن يتم بطريقة مباشرة ودون وسائط. والجداريات تعد شكلا من أشكال الفن المعاصر التي حققت الإشباع البصري لأكبر الشرائح المجتمعية، فتمركزت في الأماكن العامة التي ترتادها الجماهير العريضة كالساحات العامة والمطارات ومحطات القطار والحدائق والشوارع، فحققت التواصل والتماس المباشر بين الفن التشكيلي والجمهور. وهي من الأشكال الفنية الأكثر شعبية، فهل يساهم هذا النوع من الفن في الرقي بذوق الشعب ويترجم تطلعاته وأحلامه؟ فن الجداريات فن التصوير الجداري موجود منذ عهد الإنسان البدائي الذي كان يعبر بالرسم على جدران الكهوف، وهو قديم قدم البشرية، ويعد من أقدم أشكال الإبداع في التاريخ، لكنه يتجدد عبر العصور معبراً عن استمرارية الحياة وجدتها وعنفوانها. وقد تم استثمار الفن الجداري منذ القديم لتقريب الدين من الشعب عبر تزيين المعابد بالرسوم، وهي توثق للكثير من الطقوس الدينية والعادات الاجتماعية. وازدهر الفن الجداري أيضاً مع الفن الإسلامي. وفي العصر الراهن أضحت الجداريات فناً غير رسمي نما خارج إطار المؤسسات الرسمية التي كانت في الغالب الأعم غير راضية عنه لأنه عبر عن الرفض للوضع السائد واستشراف الممكن، فكانت أغلب الجداريات ترسم تحت جنح الظلام من قبل شباب متمردين، يتوجهون بفنهم ضد المؤسسات، وكانت الشرطة تطاردهم، وتتهمهم بالشغب وبالتخريب، ويقدمون للمحاكمة في الكثير من الأحيان، لكن مع تغير الأوضاع وتطور الحريات أضحى الفن الجداري معترفاً به عبر العالم، ويلقى الترحيب مع فرض بعض القيود عليه بمبررات تتلخص في مراعاة الذوق العام، وإن كان الأمر يثير الكثير من الشكوك حول صفاء نية هذه الجهات التي ربما ترغب في تدجين هذا النوع من الفن أيضاً ساهم فن التصوير الجداري الذي يوصل رسالته الجمالية والثقافية دون حواجز أو قيود، وينفتح على كل الشرائح المجتمعية، في دمقرطة الفن التشكيلي، حيث بات الإنسان يرى الجداريات مباشرة ودون وسائط، أثناء تنقله اليومي، أو وهو يتنزه أو ينتظر قطاره أو طائرته فتكون أكثر طزاجة لأنه بمجرد انتهاء الفنان التشكيلي من رسم معالمها تصبح في متناوله، وهناك من يتابع حتى مراحل إنجازها، حيث غالباً ما نشاهد أشخاصاً متحلقين حول فنان ينجز جدارية. لقد حررت الجداريات الفن التشكيلي ولو نسبياً من صالات العرض وجعلته ينفتح على المجتمع، ومكنت الفنان من نشر رسالته وترجمة رؤاه وأفكاره، واستطاعت أن تسهم في جمالية المدينة وبهائها، وحولت الجدران إلى حوامل فنية انتقلت من فضاءات جامدة وميتة ومتسخة في بعض الأحيان إلى أماكن تضج بالحياة والجمال. والكثير من الفنانين يساهمون في تكريس ظاهرة الجداريات في الوقت الراهن، والتي تعد ظاهرة صحية وتعود بفوائد كثيرة على المجتمعات حيث تهذب الذوق وترقى به كما أنها وسيلة لمد الجسور بين الثقافات، وبعض الحكومات انخرطت في تشجيع هذا الفن حيث تكلف تشكيليين معروفين بإنجاز جداريات في أماكن عامة، وفي بعض الأحيان يتم الانزياح عن المألوف وتنجز هذه الأعمال على الطريق كما حصل مع الفنان الجزائري المحجوب بن بلة الذي أنجز لوحة على مسافة اثني عشر كيلومتراً في الطريق على مسار باريس. لكن الجداريات، حسب بعض النقاد، لما تصبح تابعة للسلطة وتشترط على المبدع التنسيق معها تقيده، ونتيجة ذلك يفقد الفن الجداري الكثير من ألقه لأن المسؤولين يخضعونه للسياسة العامة، ومبررهم عدم التأثير السلبي على المتلقي، لكن النتيجة الطبيعية لذلك أن العمل الفني يعتريه الضعف ويفقد الكثير من الألق والقوة لأنه يخضع لشروط السلطة وتوجهاتها. وبالمقابل عندما يكون الفنان حراً وغير مقيد، يعبر بكل حرية عما يمور في نفسه، يتميز عمله بالابتكار والإبداع والتميز، ويوصل رسالته الثقافية والجمالية التي يتوخى ترجمتها من خلال الجدارية التي ينجزها. لكن المشكل المطروح أمام فنان الجداريات يتلخص في كون هذا الفن موجه لشرائح مجتمعية مختلفة، مما يتطلب منه بالتالي بذل جهود مضاعفة لإرضاء كل الأذواق، والرقي بها وتهذيبها أيضاً. ومع انتشار الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي بدأ الفن الجداري يفرض ذاته ويحقق مصداقيته، ودخل المتاحف والمزادات بعد أن حظي بتسامح السلطة بصدد وجوده في الأماكن العامة. لقد أسهم فن الجداريات في الرقي بالذوق وتربية الروح وتشذيبها من كل النواقص التي تبلد الأحاسيس. لأن الفن أحد الأشكال التعبيرية التي تترجم قيم الإنسان الراقية وتطلق خياله ليحلق عالياً في سماوات رحيبة، فتمكنه من الانعتاق من الماديات ومن اليومي والمبتذل، والسمو إلى الروحي والمطلق، فيرقى فكره وتصفو روحه لتصبح شفافة وسامية. وبالإضافة إلى المبادرات النبيلة للفنانين التشكيليين وإسهامهم في جعل الفن التشكيلي في متناول الجماهير الواسعة من خلال فن الجداريات، فإن الحكومات العربية مطالبة بالتشجيع على جعل الفن التشكيلي في متناول شعوبها، لأن الثقافة البصرية لها دور فعال في الرقي بشخصية الفرد وبذوقه وبالنتيجة بتطور المجتمع ككل، كما يجب دمج التواصل مع الأعمال الفنية في البرامج والمناهج المدرسية، من أجل تربية ذوق الأجيال الصاعدة بجعلهم متواصلين باستمرار مع الفنون التشكيلية. تجربة مغربية من المدن العربية التي أضحت الجداريات من أهم معالمها، مدينة «أصيلة» المغربية المعروفة بمهرجانها السنوي الصيفي الذي يعد ملتقى المبدعين والفنانين التشكيليين، والجداريات هنا حالة استثنائية حيث ينجزها فنانون من مختلف البلدان العربية فتتحول المدينة بدروبها العتيقة وواجهتها البحرية الأخاذة إلى مهرجان لوني يأسر العين والقلب ويرسل رسائل مشفرة تحيل على الوحدة والسلام والحب. إنها وسيلة لنشر لغة الفن، ومن خلالها تنفتح هذه المدينة على العالم الرحب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©