الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الموسوعة.. خزّان التأويل

الموسوعة.. خزّان التأويل
7 نوفمبر 2014 13:16
يعرف إيكو الموسوعة بوصفها «مسلمة سيميائية، ولكن ليس بالمعنى الذي تكون معه أيضا حقيقة سيميائية: إنها المجموع المسجل لكل التأويلات القابلة لأن يتعرف عليها موضوعيا بوصفها مكتبة المكتبات، وتعني المكتبة أيضا محفوظات لكل المعلومات غير اللفظية الموثقة بشكل أو بآخر، بدءا من النحت إلى السينما. ومع ذلك يجب أن تظل مسلمة، لأنها غير قابلة لأن توصف في كليتها». يمكن القول إن المعنى المستخلص من التعريف السابق، كفيل بجعل الموسوعة آلية عامة للتأويل، لأنها خزان غير محدود من المعارف المسبقة حول أي موضوع. ويبدو أن جزءا فقط من تلك المعارف هو الذي يتحين كلما حضر دليل ما في الذهن، وذلك لأن المعارف المتعالقة مع أي دليل غير قابلة لأن تتحين في ذهن الفرد أو الجماعة، نظرا لكونها في المستوى النظري، نفسه، غير قابلة لأن توصف في كليتها. ولعل هذه الحقيقة هي التي جعلته (إيكو) يصفها بكونها مجرد مسلمة سيميائية. وهو الوصف الذي يجعلها تماثل مفهوم الاستمراري كما حدده يالمسليف. إن خاصية استحالة وصفها في كليتها هي، في الحقيقة، نفس الخاصية المميزة للسيرورة الاستمرارية المولدة للموضوع الدينامي المجرد. وما يجعلها تتمتع بهذه الصفة هو كونها، في نفس الوقت، كونية وثقافية وأفرادية. وتجعلها هذه السمات مجردة ومتعالية، لا تحضر أجزاؤها المناسبة للدليل – المصدر في الذهن إلا بفضل المؤشرات المناسبة التي يستطيع المدرك استنتاج كونها أساسا لممثل الدليل - المصدر. ولا ريب أن هذه العلاقة المقيدة هي التي دفعت إيكو إلى اعتبارها غير مكتملة عند الشارح – الفرد، سيما وأنها تقتضي، في المستوى المثالي، استحضار كل ما يتصل بالدليل – المصدر. وهذا مستحيل بالنسبة للفرد. ذلك أنه من وجهة نظر موسوعية مثالية، فإن «القضية (ب) تستلزم كل القضايا التي يمكن أن تكون مستنبطة منها، لكن هذا لا يعني أنه إذا استطعنا أن نستنبط من (ب) (ج)، ومن (ج) (ك) أن الشخص الذي يعرف (ب) يعرف مباشرة (ك). عندما تكلم B.Bernstein عن السُّنَنِ المهيأة والسنن الحصرية، كان يريد الإحالة إلى جهات الامتلاك الثقافي للمعطيات الموسوعية: فإذا كان الشخص (أ) يعرف أن القط من السنوريات، هناك دائما شخصا آخر (ب) لا يعرف ذلك، ولكنه يعرف على خلاف ذلك ما لا يعرفه (أ) [كأن يعرف] أن القط حين يطبخ جيدا يشبه الأرنب [في المذاق]». وبناء على هذه الخاصية يشير، أثناء معالجته لمستوى تلقي النصوص، إلى ضرورة الالتزام بما تؤشر عليه النصوص من أجزاء الموسوعة المناسبة لها، إذ يرى أن «الشارح الذي عليه أن يؤول نصا ما، ليس مرغما على معرفة الموسوعة في شموليتها، بل يكفيه أن يعرف منها الجزء الذي يكون ضروريا لفهم النص». وقد تجسدت خاصية استحالة الوصف الشمولي للموسوعة في ربطه للتدلال اللامحدود (الذي تقول به التفكيكية) بالتأويل الموسوعي، حيث رأى أن: «التمثيل الموسوعي (..) غير محدود. فقد تكون وظائف الكأس [مثلاً] عند مجموعة ثقافية ما متعددة، بحيث لا تكون وظيفة احتواء السائل إلا واحدة منها». وبناء على هذه الخاصية ينبه إيكو إلى الخطر الذي يتهدد تلقي النصوص كلما تم الاستناد إليها. ولذلك يشرط التأويل بالاقتصار على جزء الموسوعة الذي يؤشر عليه النص، ويَعتبر تجاوز ذلك الجزء استعمالاً للنص وليس تأويلاً له. بنية الموسوعة تبدو الموسوعة، وفق تحديده، خزانا جامعا للمعارف المجردة المسبقة، والتي، في نفس الوقت، تضم وتتجاوز ما يمكن للأفراد أو للكليات الاجتماعية معرفته، بحيث تبدو، كما لو كانت حصيلة تراكمية لمعارف كل الثقافات (في المستوى التزامني والتعاقبي)، ولكل مكوناتها (الشيئية والمؤسساتية..). ولما صورت الموسوعة بذلك الشكل، فقد بدت خاضعة لأشكال تقطيع الفكر للعالم، وليس لتقطيع اللغة عبر الفكر للعالم. ويبدو أنه، وهو يستشعر ذلك، قد قام بإصلاحه عن طريق إدماج المعجم الأساس ضمن بنيتها. وقد أتاح هذا الإدماج إمكانية تحولها إلى آلية مناسبة لتحليل النصوص. إن المعجم الأساس الذي يشكل بنية أولى تتيح تحديد الألفاظ المعجمية، رغم أنه يشكل الخطوة الأولى اللازمة في طريق بناء المعنى، فإنه لا يكون كافيا جراء عدم استطاعته الإحاطة بكل دلالات اللفظ أو الدليل. ولعل ذلك يبدو أكثر وضوحا حين يتعلق الأمر بالتراكيب المنتجة انطلاقا من تحيين ما فوق التسنينات البلاغية، مثل الكناية والسخرية..، إذ لا يستطيع (المعنى المعجمي)، في عدد من أوضاع التمثيل، أن يحدد المدلول المتكامل، بخاصة وأن هذا الأخير يفرض، في أغلب الأحيان، تعاونا يقتضي إدماج البعد الذريعي. ومن الأمثلة البسيطة على ذلك كون المعجم يحدد الموضوع الفعلي للفظة (قط)، مثلا، بوصفه حيوانا أليفا.. من فصيلة السنوريات.. يموء..، ولكنه لا يحدده بوصفه لذيذ الطعم..، أو رمزا للسمو.. بل حتى لو تم افتراض وجود معجم يضم المدلولات الثقافية إلى جانب المعجمية – وهو أمر يبدو عمليا مستحيلا –، فلن يكون إلا حصرا للموضوعات الدينامية للمداخل المعجمية، أو حصرا لأشكال واقعياتها الثقافية، كما هي مدركة قبل إنجازه وحسب، لأنه، بعد إنجازه مباشرة، سيصير متجاوزا، لأن الفكر الإنساني ينحو بطبعه نحو إنتاج علاقات جديدة، انطلاقا من الوسائل نفسها.. وإذن فحالما سيستقر هذا المعجم سيصير ناقصا. نقد مفهوم الموسوعة تبدو الموسوعة، من جهة عموميتها، مناظرة للغة وفق تحديد دي سوسير، أي أنها تبدو متعالية ومجردة بشكل لا يستطيع معه الفرد امتلاكها في كليتها، بل تبدو، أحيانا، كما لو كانت كلية معرفية مثالية لا زمنية تماثل معرفة إنسان «مُؤَلَّهٍ». إنها، باختصار، عبارة عن موضوع دينامي للعالم وقد نظر إليه من وجهة نظر تاريخانية..، وذلك واضح ليس من خلال إشارته إلى أنها «مكتبة المكتبات»، بل من خلال تطبيقاته التي تفيد أنها تضم حتى أسماء الأمكنة التخييلية والفعلية (بما فيها أسماء الأزقة، وأسماء المقاهي مثلا..) وأسماء الأعلام الفعلية أو الخيالية.. الشيء الذي يجعلها ليست، كما اعتبرها إيكو، تركيبا للموضوع المباشر [الذي يشمل كل الاستنتاجات البديهية والضرورية لقضية ما] والموضوع الدينامي وحسب، ولكنها، إضافة إلى ذلك، تشكل، في نفس الوقت، التمثيل المجسد للتأويل وللآليات المتيحة لذلك التمثيل نفسه. وبهذا يتضح أن إيكو لم ينتبه، وهو يحددها، إلى «مستوى التواجد الأنطولوجي والإبستمولوجي لمقولتي الثالثانية [التي تضم المؤولات التعرفية المحايثة للتدلال، والتي تربط في المستوى المجرد الدليل بموضوعاته] والثانيانية [التي تضم المؤولات الإظهارية التجسيدية المحققة للموضوعات]. ولا بد أن الانطلاق من النظرة التلقّياتية، هي التي حالت دون تمييز الموضوع الدينامي عن المؤول الدينامي الذي ليس فقط خلفية معرفية، ولكنه أيضا قدرة على تحريك تلك الخلفية. وهكذا يبدو من الأنسب تفريعها إلى ثلاثة فروع منفصلة، ومتضامنة، في نفس الآن، وهي الموسوعة الكونية، والموسوعة الثقافية، والموسوعة الفرادية: أولاً: الموسوعة الكونية، إن المقصود بالموسوعة الكونية، هو جانب الموسوعة العام الذي يضم كل ما أفرزته الثقافات من المظاهر الوسائطية (من الأديان والأساطير واللغات.. إلى أبسط الأدلة الرمزية). ثانياً: الموسوعة الثقافية، وتشمل كل المعارف الخاصة بالمعتقدات المستخلصة بخصوص الأدلة المتداولة في إطار هذه الثقافة أو تلك. إن النمطين معا يعتبران مستويين مجردين لا يحضران في كليتهما، بالضرورة، في ذهن فرد ما، كما أنهما يعتبران بنيتين مشكلتين لمصدر تحيين كل الموضوعات الدينامية، لأنهما يحتويان على مكونات صغرى تقبل، بدورها، أن تكون متراتبة، وهكذا إلى ما لا نهاية. لكن رغم كونهما نسقين ثالثانيين، مثل اللغة، فإن أدلتهما على خلاف الأدلة اللغوية، قد لا تكون، بالضرورة، في المستوى المجرد أدلة قانونية رمزية حملية. ذلك أنه من الممكن ألا تكون رمزية في مستوى الموضوع، بل مؤشرية أو أيقونية، وألا تكون حملية في مستوى المؤول، بل قضوية أو برهانية. ثالثاً: الموسوعة الفرادية، إن المقصود بالموسوعة الفرادية، هنا، هو أولا، شكل حضور معطيات الموسوعتين المتعاليتين في ذهن الأفراد الفعليين. وبديهي أن هذا الحضور - كما سبق التوضيح - يختلف من ذات لأخرى تبعا لقدراتها الإدراكية، ولنوعية المؤول الذي تستطيع تحيينه بخصوص الأدلة – المصادر. أما الوضع الثاني المقصود بالموسوعة الفرادية فيتصل بشكل إدراك الذوات المتميز والمختلف، أحيانا، للأدلة التي تحضر في ذهنها، وذلك نتيجة كون الإدراك عادة ما يتم عن طريق تصورات الذوات الخاصة لتلك الأدلة، وكون جزء هام من محتوى التصورات ناتجا عن تجربة الذات الخاصة ع الدليل المصدر (ذلك أن التجارب الخاصة هي التي تحدد نوع المقصديات التي تصاحب إدراك الذات، وتتجلى في انفعالات مثل التضايق والحزن والزهو والفرح وغيرها من مكونات المقصدية، والتي ليس من الضروري أن تصاحب إدراك الذوات الأخرى لنفس الدليل- المصدر). وتكمن أهمية هذا المستوى في كونه وإن كان محكوما بالمستويين المتعاليين، وبمدى معرفة الفرد بأدلتهما، فإنه عندما يتعلق الأمر بالتحيينات الوجودية، يصبح متحكما بهما، وهو ما يفسر، تعويض مفهوم الواقعية بمفهوم المتبدي (*) الذي تُشَكِّلُ أدلة الموسوعتين المتعاليتين مصدَرَهُ. * المتبدي هو مفهوم مشاكل لمفهوم الواقع دون أن يعبر عن صرامته الإرجاعية. انطر تعريفه ضمن: عبد اللطيف محفوظ، آليات إنتاج النص الروائي، ص: 161 – 165. تأويل أوّلي المعجم، في مستوى إنتاج أو تلقي النصوص، لا يتجاوز مستوى المساعدة على إدراك الشيء في مستوى وجوده الأولي المحايد. إنه يمنح، وفق تراتبية المؤولات، المؤولات المباشرة؛ على خلاف الموسوعة التي تستطيع توفير كل أنواع المؤولات، وذلك ما يمكن استنتاجه من إشارة إيكو التوضيحية إلى حكاية (بلانش نيج)، التي لا يستطيع المعجم، وفق شجرة فورفوريوس، مثلا، أن يحددها إلا بوصفها حيوانا، وأنثى، أما تحديدها بوصفها أميرة جميلة.. متخيلة.. فرهين بالموسوعة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©