الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السرد وتخوم الفصل والوصل

11 أكتوبر 2012
منذ العنوان الرئيس يفصح الناقد العراقي الدكتور عبدالله إبراهيم عن المحاور الأساسية التي يشتغل عليها بحثه في كتابه الصادر حديثا، “التخيل التاريخي: السرد، والأمبراطورية، والتجربة الاستعمارية”. وتأتي مقدمة الكتاب لتطرح إشكالية المصطلح، الذي طالما رافق الرواية التي تتخذ من التاريخ مادة لها، عندما يطالب بضرورة الانتقال من استخدام مصطلح الرواية التاريخية، الذي طالما أطلق على هذا النوع من الكتابة الروائية، إلى مصطلح آخر أكثر دقة، هو مصطلح التخيل التاريخي، لكي يتم تخطي مشكلة الأجناس الأدبية وحدودها ووظائفها، إضافة إلى أن هذا التحول يسهم في تفكيك ثنائية الرواية والتاريخ ويعيد دمجهما في هوية سردية جديدة، تجعل التخيلات السردية تقترح مساراتها بعيدا عن محاولة مطابقتها للمرجعيات التاريخية، بصورة تتحرر فيه تلك الكتابة من وقع التقييد للحدود النوعية، إلى تخوم الكتابة المفتوحة على الماضي والحاضر في آن معا. لذلك يعرِّف التخييل التاريخي بأنه المادة التاريخية المتشكلة بواسطة السرد وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية والوصفية، وأصبحت تؤدي وظيفة جمالية ورمزية. الانسجام والتنافر ويحدد الناقد موقع التخيل التاريخي من التاريخ والكتابة السردية في منطقة التخوم الفاصلة والواصلة بين التاريخي والخيالي، إذ إن عمليات الحبك تلعب دورا أساسيا في التوفيق بين الأحداث وسياقاتها المختلفة عندما تتوسط بين حدين متنازعين، هما الانسجام من طرف والتنافر من طرف آخر، ما ينجم عنه حسب بول ريكو مفهوم الهوية السردية أو البؤرة، التي يتم فيها التبادل والتمازج والتشابك بين التاريخ والخيال بواسطة السرد، خاصة وأن التاريخ والسرد يتقاطعان في أكثر من علاقة وذلك من خلال قوة التاريخ وقوة السرد اللذين يجدان المعنى المشترك لهما في إعادة تصوير الزمان، وأنهما كثيرا ما يتبادلان الأدوار والوظائف من خلال إضفاء الصفة التاريخية على السرد القصصي، وإضفاء الصفة الخيالية على السرد التاريخي. تتوزع محاور الكتاب على ثمانية فصول يتناول الفصل الأول منها علاقة السرد بمفهوم الإمبراطورية التي تؤمن للشخصيات حرية الحركة، بوصفها فضاء سرديا مفتوحا على التنوع الخصب حيث تأخذ الأفعال فيه صفة المغامرة التي تستبطن فكرة. ويرى الناقد أن تعريف الإطار الثقافي والسياسي للإمبراطورية يمكنه أن يكشف عن طبيعة المدونة السردية المعبرة عن نزوع الشخصيات للعيش في عالم تمثل الإمبراطورية إحدى ركائزه. أما بالنسبة للسرد العربي، فإن البحث عن هوية مرنة وجامعة، يقف وراء التوجه نحو الكتابة التاريخية، نظرا لما توفره للكاتب من فضاء أوسع على مستوى حرية القول والقصد. ويناقش في الفصل الثاني قضية التهجين السردي وتمثيل الأحداث التاريخية، وفي المقدمة منها مسألة أعراف الكتابة القديمة، كما تجلت في شرط البداية الذي يمثل شرطا مأساويا خيم على حياة شخصيات الرواية التاريخية لتكون شاهدا سلبيا أو إيجابيا على انهيار المنظومة القيمية، وتخريب الركائز السوية للقيم الدينية والاجتماعية والسياسية، حيث يتخذ من ثلاثية الروائي المغربي بنسالم حميش “العلاّمة” و”مجنون الحكم” و؛هذا الأندلسي؛ مجالا للبحث والكشف عن تمظهراتها التي تجلت في مجموعة من العناوين والمحاور، أهمها طغيان الحاكم ونزوات المماليك والنزاع على السلطة، وموظفا من أجل ذلك أعراف الكتابة العربية القديمة، من خلال تبني أسلوب سردي يحاكي الأساليب الموروثة في المدونات العربية القديمة. الفصول التالية من الكتاب يخصصهها الناقد لدراسة مجموعة كبيرة من الأعمال الروائية العربية الحديثة التي تتناول موضوعات تاريخية متنوعة، يوزعها على محاور مختلفة، يستهلها بمناقشة ثلاثية السرد والتاريخ واللاهوت في ثلاثية الروائية المصرية رضوة عاشور التي قدمت فيها تخيلا تاريخا للتحولات الاجتماعية والثقافية الكبرى التي عايشها المسلمون في إسبانيا إثر سقوط غرناطة بيد الإسبان، في حين تشكل ثنائية الكتابة المقدسة والكتابة المدنسة والانشقاقات الدينية محور البحث في الفصل الرابع انطلاقا من رواية “عزازيل” ليوسف زيدان، والتي يرى أن التمثيل السردي فيها قام على قاعدة الانقسام بين اللاهوتي والتاريخي عندما جرى فصل شخصية المسيح عن جذره التاريخي، حيث انحاز الكاتب في روايته إلى الانتماء الدنيوي للإنسان. الحرية والعبودي أما الفصل الخامس الذي حمل عنوان “التخيل التاريخي وتفكيك الهوية الطبيعية” فيناقش موضوع أخلاق الحرية وأخلاق العبودية كما تجسدت في رواية “ساق الغراب” ليحيى آمقاسم والتي لم يقتصر التنازع فيها على هذين المفهومين (الثقافة والطبيعة) وأداتهما المتمثلة سرديا في القبيلة والإمارة، إنما هي تبدأ عبر أسلوبين أحدهما رمزي إيحائي، والآخر دعوي وعظي. ويفرد الناقد للعلاقة بين التوثيق والتخيل التاريخي فصلا خاصا يناقش فيه رواية “بيروت مدينة العالم” لربيع جابر، والتي تنقسم إلى قسمين يقدم الكاتب في القسم الأول منها تخيله لوقائع حدثت في الماضي، وترتبط بحيوات مجموعة من الشخصيات بصورة تجرد تلك الوقائع من إطارها التاريخي وإن بدا عليها إثقال السرد بالمادة التاريخية على حسب السرد وحركته. ويفرد للبحث في مسألة التخيل السردي وعلاقته بالتمثيل الاستعماري للعالم حيزا خاصا يبدأه بمقدمة نظرية يتقصى فيها جذور تلك العلاقة وتجلياتها، ثم ينتقل منها إلى مناقشة الأعمال الروائية التي قدمت نقدها لركائز تلك التجربة وتداعياتها، ولتداخل الأثر الذي أحدثته حركات التحرر الوطني والقومي فيه. إن استعادة الرواية العربية لجانب من تلك التجربة قد ترافق مع عملية التحوير التي أجريت عليها وفقا لمتطلبات الخطاب السردي لاسيما وأن التجربة الاستعمارية كانت طويلة ومتشعبة. ولعل رواية أهداف سويف “خارطة الحب” بما تقدمه من تمثل لجانب من تلك التجربة كانت محاولة لرسم مسارين اثنين لها مسار أول للحب وآخر للكراهية من خلال مجموعات من الشخصيات التي تزاوجت (انجليزية ومصرية) واندرجت في أحداث التاريخ التي لم تتوقف الكاتبة فيها عند حدود تلك التجربة بل خاضت فيها عبر الواقع الاجتماعي والسياسي المصري قي السنوات الأخيرة من القرن العشرين. كذلك يبحث الناقد في رواية “واحة الغروب” لبهاء طاهر بوصفها رحلة نفي حاول فيها الكاتب تقديم سرد تراتبي مكشوف بين عدد من مستويات السلطة، وفقا لتراتبيتها التي عكست في علاقاتها مع بعضها البعض غيابا للتوافق والتواصل بين تلك المستويات التي شكلت هرم السلطة، إضافة إلى قامت به التجربة الاستعمارية من دور على صعيد سحق المزايا الفردية والوطنية للشخصيات المصرية. ويذهب الناقد إلى أن التخيل التاريخي في تلك الرواية قد بني من خلال رؤية متصلة بالرؤية الاستعمارية من خلال رسم صورة سيئة للبدو المحيطين بواحة سيوة من جهة، ومن جهة ثانية بأهالي الواحة الذين بدوا غارقين في أساطيرهم البدائية، ما جعل الموضوعية تغيب عن عالم السرد، حتى بدت حملات التأديب التي كانت ترسلها سلطات الاحتلال البريطانية إلى هناك تبدو مشروعة ومبررة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©