الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأستورية الصغيرة

الأستورية الصغيرة
11 أكتوبر 2012
كثيراً ما تتوارى بعض المعجزات التي تحدث للبعض، ولا يعرفها أحد حتى تحدث معجزة أخرى تكشف عنها، وربما كان يجب الانتظار لما يقرب من قرن من الزمان حتى نكتشف ما فعلته تلك المرأة الصغيرة التي تنتمي إلى إحدى قرى إقليم استورياس في شمال غرب إسبانيا التي فقدت ذراعيها، وهي لا تزال طفلة صغيرة، ولكنها بإرادة كامنة داخلها قررت أن تتفوق على هذا الحادث وأن تتفوق على غيرها من البشر فتصنع حياة كاملة لا تتحقق ولا في أكثر الأحلام شطحاً. في محاولة لاستعادة الذاكرة الوطنية من جانب إسبانيا المعاصرة، صدر قانون “الذاكرة التاريخية” الذي يسمح لكل ضحايا الحرب الأهلية وبشكل خاص ضحايا نظام الجنرال فرانكو باستعادة ذاكرتهم التاريخية التي حرموا منها، وسمح لأبناء وأحفاد ضحايا نظام فرانكو بالمطالبة بالكشف عن مصير الكثيرين منهم الذين تم إعدامهم بلا محاكمة ودفنهم في مقابر جماعية الكثير منها مجهول المكان، وبعضها فقد ملامحه مع مرور الزمن، ولكن بعض قصص هؤلاء تخطت الزمن نفسه وغطت شهرتها على الجنرال فرانكو نفسه، ومن هؤلاء الضحايا 13 امرأة من إحدى القرى الصغيرة تمت محاكمتهن وجرى تنفيذ حكم الإعدام فيهن عام 1939، واشتهرت قصتهن واطلق الخيال الشعبي عليهن اسم حكاية “13 وردة”. أثناء بحث أبنائهن وأحفادهن تم الكشف عن معجزة إسبانية كانت تجري على أرض الواقع في ذلك الوقت، وحكاية صاحبة المعجزة لا تكفي عشرات المجلدات لتناول حكايتها، بل تحتاج إلى بحث يفوق ذلك بكثير، إنها حكاية “رخينا جارثيا لوبث” الشهيرة باسم “الاستورية الصغيرة” المولودة عام 1898 بقرية فالترافبيسو، قرية صغيرة مكونة من 25 منزلاً ويسكنها 63 فرداً فقط، وعندما كانت في التاسعة من عمرها تعرضت لحادث مأساوي، فقد سقطت على منشار الأخشاب الذي كان يملكه والدها وفقدت ذراعيها الاثنتين بكاملهما، أي أصبحت عاجزة، لكن احد أثرياء الاقليم الذي كان يقيم في الارجنتين تبناها وقرر ان يتولى تكاليف تعليمها في احدى المدارس الخاصة التي لا يدخلها سوى ابناء الاثرياء في ذلك الوقت، بل انه تعاقد مع احد المختصين الألمان لتركيب اطراف اصطناعية لها لتتمكن من ممارسة حياتها، ولكن العملية فشلت فبقيت الصغيرة بلا ذراعين. في الكتاب الذي لويس جونثالث فرنانديث بعنوان “رخينا جارثيا لوبث/ الأستورية الصغيرة” Regina Garcia Lopez La Asturinanita يتتبع قصة هذه الفتاة منذ أن كان عمرها الخامسة عشرة، وكان عليها ان تترك المدرسة وان تعود الى قريتها؛ لأن أبويها رفضا طلبا من الثري بتبنيها، وهناك شهدت نظرات الشفقة في عيون جيرانها، كان حلمها ان تصير معلمة ولكنها سمعت الناس من حولها تقول: “كيف لهذه ان تصبح معلمة بلا ذراعين؟ ما عليك أيتها الصغيرة سوى ان تأكلي وتصلي وتنامي”، وان تحمدي الله على ان المنشار ابقى عليك حية”، هذه الحال دفعتها ان تفكر في الانتحار؛ لأنها كانت تشعر بأن جسدها يحول بينها وبين تحقيق احلام كثيرة، اثناء عودتها الى بيتها بعد ان تخلت عن فكرة الانتحار شاهدت بعض الغجر في الطريق ومعهم قرود صغيرة مدربة على الاتيان بحركات وتناول الطعام بأقدامها، فقالت لنفسها: “ان كانت القرود تفعل ذلك، فلماذا لا أستطيع انا”. بدأت في تعلم الرسم بقدميها، فاعتقد الناس انها مجنونة، لكنها ظلت تعلم نفسها أشياء أخرى، كلما أتقنت شيئاً تفعله بقدميها انتقلت إلى شيء آخر، فتعلمت الحياكة بقدميها، وعزف البيانو، والفيولين بل إنها اتقنت الرماية بالبندقية باستخدام قدميها، وكذلك قيادة السيارة، ولعب البلياردو، ولم تترك شيئا لم تتعلمه، واتقنت الحديث بخمس لغات: البرتغالية والفرنسية والانجليزية والالمانية والايطالية، اضافة الى لغتها الاسبانية بالطبع. ثم تقدمت خطوة ما كان ليقدم عليها احد وهو ان تستعرض مهاراتها امام الجمهور، فانضمت الى فرقة مسرحية متنقلة، سرعان ما تعدت شهرتها العالم المحيط بها، فقررت ان تستعرض مهاراتها خارج اسبانيا، فسافرت إلى أكثر من عشرين بلدا من بينها مصر وتركيا والولايات المتحدة والارجنتين، واثناء زيارتها للولايات المتحدة استقبلها في البيت الابيض الرئيس روزفلت، وعندما مد يده لتحيتها تلقت التحية بقدمها، وخلال عملها في هذه الفرقة تعرفت إلى زميل لها واحبته واحبها فتزوجا وانجبا ثلاثة ابناء: ولدان وبنت. واثناء الحرب الاهلية، قررت ان تكون مفيدة لمجتمعها، فشكلت استعراضا اطلقت عليه اسم “المنتخب” لجمع تبرعات لتلاميذ المدارس الفقراء بقريتها والقرى المجاورة لها، ولعرض استعراضها انتقلت إلى مدريد التي كانت تخضع في ذلك الوقت للحكومة الجمهورية. ونظرا الى شهرتها واجادتها لغات متعددة استدعتها وزارة الحرب في الحكومة الجمهورية عام 1937 أثناء الحرب الاهلية وطلبت منها الانتقال الى فرنسا لتعمل جاسوسة لحساب الجمهورية، لكنها رفضت، وعلى اثر هذا الرفض حوكمت صدر ضدها حكم بالسجن. ظلت بالسجن لما يقرب من عام، ولم تخرج منه إلا بعد سقوط مدريد في ايدي قوات الجنرال فرانكو، وعندما تم اطلاق سراحها على ايدي قوات فرانكو قررت أن تحتفل بنيلها الحرية بالذهاب الى السينما، فارتدت معطفا واسعا يخفي افتقادها لذراعيها، وبعد انتهاء عرض الفيلم وقفت جماهير صالة السينما لأداء نشيد “الكتائب” اليمينية التابعة لقوات الجنرال، ولغناء النشيد كان لا بد من رفع الذراع إلى أعلى، ولاحظ احد جنود الكتائب انها لا ترفع ذراعها، وعندما نبهها إلى ذلك صرخت فيه: “لن ارفع ذراعي حتى لو طلب مني ذلك الجنرال فرانكو نفسه”، فألقي القبض عليها. تم تقديمها للمحاكمة حتى بعد ان تبين انها بلا ذراعين، والمثير للسخرية ان تقارير البوليس السري التي قدمها النظام ضدها كانت تتهمها بالعمالة للجمهورية، وانها تنشر الشيوعية وان استعراضها “المنتخب” الهدف منه ليس جمع تبرعات لمساعدة الفقراء من تلاميذ ابناء قريها، وانما حيلة لتمويل المنظمات الشيوعية السرية، اثناء وجودها بالسجن تم القبض على 13 امرأة اخرى تمت محاكمتهن في الخامس من اغسطس عام 1939، وصدر ضدهن حكم بالإعدام، وتم تنفيذ حكم الإعدام في فجر اليوم التالي، واصبح التاريخ يذكرهن على انهن “13 وردة”. اما بالنسبة لها، فقد انتظرت في السجن لست سنوات وتقرر بعدها نقلها الى مستشفى الامراض العقلية بناء على تقرير الطبيب النفسي الذي قرر انها مجنونة رغم ان النائب العام طالب بإعدامها؛ لأنها في رأيه تمثل خطرا على النظام. بعد سنة من ايداعها المستشفى ماتت يوم 19 مايو عام 1942 عن عمر لم يتجاوز الرابعة والاربعين، وطبقا لحديث ابنها مرثيلينو البالغ من العمر 89 عاما في الكتاب الذي يحكي سيرتها “الاستورية الصغيرة”، انها ماتت مقتولة بالسم، وانها كتبت في مذكراتها قبل موتها بيوم واحد انها تخشى من اغتيالها بالمستشفى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©