الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

«إلينا».. الحياة فوق أنقاض الموت الجسدي والخراب الروحي

«إلينا».. الحياة فوق أنقاض الموت الجسدي والخراب الروحي
22 أكتوبر 2011 00:45
في العام 2003 سيطر اسم المخرج الروسي الشاب أندريه زيفياكنتسوف على الأوساط السينمائية العالمية، بعد تقديمه لفيلمه الطويل الأول وباكورة أعماله السينمائية “العودة”، وأعلن من خلال هذا الفيلم عن ولادة موهبة متفجرة، وضاجة باقتراحات بصرية مذهلة على صعيد تحويل الشريط السينمائي إلى حقل مفعم بالأبعاد النفسية والتكوين المشهدي الخاص والمبتكر الذي يمنح هذه الأبعاد قيمتها وتأثيرها وانعكاساتها الجوّانية الصادمة للمتفرج، رغم أن هذه الصدمة تتأتّى من صنيع وعي إخراجي، يعتمد في الدرجة الأساسية على ثقل المشهد وهدوءه القاتل في أغلب الأحيان. تناول فيلم “العودة” قصة أخوين ينتظران عودة والدهما بعد غيبة طويلة ومجهولة الأسباب، ولكن هذه العودة تحولت إلى لعنة جارفة، لأنها أيقظت الوحش النائم في دواخل الأب، والذي يبدو أنه ممسوس بذاكرة انتقامية، تنبعث من أعماق داكنة ومليئة بالاحتقان واليأس والتبدلات النفسية العنيفة والمدمرة. قدم زيفياكنتسوف بعدها فيلمه القاتم “النفي” الذي يروي حكاية عائلة تذهب في رحلة إلى منطقة ريفية نائية، وهناك تتشكل صراعات غامضة بين شخوص الفيلم وبين الطبيعة المريبة والمحيطة بهم، ولم يتخل زيفياكنتسوف في هذا الفيلم عن أسلوبه المعتمد على البساطة الماكرة في التعبير عن قصص إنسانية تترجم الجوانب الشيطانية والأخرى الملائكية المتصارعة والمحتدمة في النفس البشرية. الفيلم الثالث لهذا المخرج الاستثنائي حمل عنوان “إيلينا” وشهد عرضه الأول هذا العام في مهرجان كان السينمائي، وكان على موعد مساء أمس الأول مع محبي السينما الفنية المستقلة في الإمارات، عندما عرض على مسرح أبوظبي بكاسر الأمواج، ضمن عروض مسابقة الأفلام الروائية الطويلة لمهرجان أبوظبي السينمائي في دورته الخامسة. تقودنا أجواء الفيلم التأسيسية مباشرة نحو التعرف على شخصية “إلينا” ـ نادجيدا ماركينا ـ المرأة الخمسينية التي تتصدر عنوان الفيلم، والتي تعيش مع زوجها المسنّ فلاديمير ـ أندريه سميرنوف ـ في شقة فارهة ومسكونة بالغرابة، ومن خلال لقطات ثابتة وطويلة وصبورة على القطع المونتاجي، نتعرف على الطبيعة الصامتة للمكان، وعلى فخامته وثراء مالكه، كما تدلل هذه اللقطات الواسعة والحيادية على العلاقة الباردة التي تجمع بين الزوجين، ونكتشف من خلال حوار يأتي متأخرا كثيرا أن ثمة خلاف عميق ومتأصل في العلاقة بينهما ومردّه إهمال زوج إلينا الثري والمقتدر لإبنها من زواج سابق، خصوصا وأن الابن سيرجي ـ اليكسي روزين ـ الذي يعيل أسرته الصغيرة، هو في الأساس عاطل عن العمل، وغير قادر على دفع تكاليف الدراسة الجامعية لابنه المراهق، وتخليصه من شبح الالتحاق بالجيش، في حالة عدم دفع هذه التكاليف، ونتعرف من خلال الحوارات المقتضبة والمختزلة بين الزوجين، وجود ابنة لفلاديمير من زواج سابق أيضا، ولكن ابنته كاتيا ـ يلينا زيادوفا ـ تعيش قطيعة كبرى مع والدها رغم حبه لها ودفعه لمبالغ طائلة من أجل إرضائها. يرفض الزوج مساعدة ابن زوجته، معللا ذلك بسلبية هذا الابن وكسله وعدم بحثه عن عمل، ويوضح لها أنه غير مسؤول عن إعالة أشخاص لا يمتون له بصلة، ما يضطر إلينا لدفع تكاليف ابنها من جيبها الخاص، خصوصا مع طفل رضيع يحتاج لعناية خاصة، تجد إيلينا الدفء والتواصل الاجتماعي الظاهري مع أسرة ابنها رغم إيمانها بأن هذا التواصل لم يكن ليتم لولا الحاجة المادية للأسرة ولولا الرغبة القوية في تجنب حفيدها (ساشا) الانضمام إلى الجيش. يمضي بنا الفيلم بعد اكتشافنا لحكاية الزوجين في اتجاه سردي تصاعدي لخلق حالة من التنويع الدرامي اللاحق والمكمل للمشاهد التأسيسية، ويبدأ هذا التنويع أو الانعطافة الدرامية انطلاقا من المشهد الذي يصاب فيه الزوج بذبحة صدرية بعد ممارسته لرياضة عنيفة في ناد صحي، وينقل على إثرها إلى المستشفى، وهناك وبعد أن يتعافى قليلا نتعرف على طبيعة علاقته المتوترة مع ابنته التي تزوره في المستشفى وتكشف لنا عن فلسفتها الخاصة في تفسير الوجود والعالم والعلاقات العائلية، وهي مفاهيم سوف تكون معاكسة تماما لمفاهيم الأب التقليدية والمغلقة، ومع تتابع الحوارات الغريبة والمضادة بين الطرفين، نعثر على هذه الخيوط الناعمة من الود الخفي والمحبة المستترة التي تجمع الأب مع ابنته، والتي تبدو ظاهريا أنها جامدة وسميكة، ولكنها وفي العمق تبوح بكم هائل من التعاطف والحنان والهشاشة الداخلية المغيبة عمدا. وبعد عودة فلاديمير إلى المنزل تعتني به الزوجة التي سبق لها العمل في مجال التمريض، وتفتح معه مجددا الموضوع المتعلق بحفيدها ساشا وضرورة مساعدته كي ينضم للجامعة، ويكون الرفض هو الجواب القاطع والنهائي لهذه المسألة، بل الأكثر من ذلك يبوح فلاديمير لإلينا برغبته في كتابة وصيته وتسليمها للمحامي، بحيث تتضمن هذه الوصية تحويل كل أملاكه بعد وفاته إلى ابنته، مع تخصيص راتب شهري ثابت لإيلينا كي تتدبر شؤونها من بعده، وانطلاقا من هذا الحوار الصادم والمقلق بالنسبة لإيلينا يقودنا الفيلم إلى ذروته الدرامية عندما تبدأ الزوجة بالتفكير جديا في التخلص من زوجها قبل أن تقع مسودة الوصية في يد محامي العائلة، فتستعين بخبرتها في التركيبات الدوائية وتضع لزوجها دواء قاتلا مع الأدوية الاعتيادية الأخرى الخاصة بمرضى الذبحة الصدرية، يتحقق هذا الموت فعلا بعد ساعات قليلة، وتتحقق معه صراعات نفسية طاحنة حول مشروعية ودوافع ومبررات هذه الجريمة، فموت فلاديمير ومن دون تركه لأية وصية، سوف يساهم في إنقاذ عائلة ابنها من مصير قاتم ومحفوف بالإفلاس والضياع والتشرد، خصوصا وأن العائلة بانتظار قدوم مولود ثالث، لا تريد له الجدة أن يفتح عينيه على كارثة اجتماعية مؤكدة. الجزء الأخير من الفيلم سوف يكون مربط الفرس في التأكيد والرهان على موهبة زيفياكنتسوف وتفرده بالمعالجات البصرية الذكية والحاذقة في نقله لصراعات ونوازع نفسية غائرة لا يمكن التعبير عنها مشهديا وبشكل مباشر، فإلينا النادمة على قتل زوجها، والمتوجسة من انتقام سماوي منتظر، سوف تدخل في دوامة من الشكوك والهواجس، وستكون المشاهد التي يصيغها المخرج بقسوة مخادعة وغير ملحوظة من الوهلة الأولى، هي رديف وصنو هذه الشكوك والهواجس، فعندما تذهب إيلينا لتسليم المبلغ الخاص بمصاريف الجامعة لحفيدتها، تفاجأ بتوقف القطار الذي يقلها، وتكتشف لاحقا أن القطار قد اصطدم بحصان قاده صاحبه إلى زمن خاطئ وفي مكان خاطئ، وتستمر العلامات المرعبة عندما تنطفئ الكهرباء فجأة عن شقة ابنها، وعن المدينة بأكملها، فتمسك بيد ابنها وتقول له وهي مرتعبة: “إنها نهاية العالم”، الظلام الدامس في الشقة سوف يدفع بحفيدها ساشا للخروج مع أصدقائه في مجابهة انتقامية مع إحدى العصابات في الحي، ومن خلال عراك طاحن وعنيف بين الطرفين، يخيل لنا وللحظات أن ساشا قد قتل بعد مواجهة دامية مع أحد أفراد العصابة، ولكن المخرج يعيدنا للواقع الاعتيادي، ويزيل الشكوك التي باتت مشتركة الآن بين إيلينا بين المتفرجين في الصالة، ويختتم الفيلم على مشهد طبيعي جدا، ويحتزل في ذات الوقت الكثير من الدلالات العميقة، حيث نرى في المشهد إيلينا وهي تحتضن حفيدها في منزل زوجها الراحل، ونرى أفراد العائلة الجديدة والوافدة وهي تصدّر لنا وبعفوية بالغة مقولة الفيلم المشيرة إلى أن الحياة تستمر وتتواصل، حتى لو كانت قائمة على أنقاض الموت الجسدي لفلادمير، وعلى أنقاض الخراب الروحي لإلينا نفسها!
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©