الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الثورات العربية... وأزمة الشرعية

22 أكتوبر 2011 01:38
انبثقت الثورات العربية من تراكمات سياسية واقتصادية واجتماعية، وتطورت بنيتها، التي لا تزال في حيز النمو، في بيئة وطنية حاضنة للتغيير، من أهمها مشاركة شعبية واسعة النطاق في حركات الاحتجاج السلمية. لم يكن توقيت وقوع الثورات سوى صدفة، فحادثة حرق البوعزيزي نفسه كان يمكن أن تقع قبل أسابيع أو شهور من لحظة وقوعها فتؤدي إلى النتائج نفسها. كان الوضع العربي عشية الثورات بركانيَّ المزاج، ينتظر حادثة بسيطة ليعبِّر عن مكوناته في عدد من الدول العربية. وما حدث ارتبط برغبة الشعوب في تلك الدول العربية في التخلص من الأنظمة الديكتاتورية وبناء شرعية سياسية جديدة جوهرها إنساني وديمقراطي. وقد مثلت أزمة الشرعية عنصراً أساسيّاً في الثورات الراهنة، إذ أدى حرمان الإنسان العربي خلال عقود، من التعبير والتصويت الحر والحضور السياسي والاحتجاج والشراكة الحقيقية، إلى إثارة الأسئلة حول بعض نظم الحكم في بلاده. وقد ساهم فشل بعض الأنظمة في التعامل مع الاحتياجات العادية للناس، ومنها الحد من البطالة والتراجعات الوطنية، في تعميق التساؤلات. ومع الوقت، كبر التساؤل العربي حول شرعية بعض النظم، خصوصاً مع انطلاق مشاريع التوريث في الجمهوريات. ومن خلال سلوكيات بعض الأنظمة العربية وتكرار الفشل في إداراتها وأجهزتها، بدأ المواطن يرفض سلطتها، بينما تلجأ هي إلى التعامل مع هذا الرفض عبر مزيد من القمع الداخلي، بهدف حماية سلطتها المتآكلة. وانكشفت الشرعية الاستبدادية بصفتها شرعية هشة، بعد فشل أولئك الرؤساء العرب في تحقيق أي من الوعود الإصلاحية التي أعلنوا عنها منذ عقود. واكتشفت الشعوب أن بعض قادتها يعِدون ولا ينفذون، يقولون ولا يفعلون، ثم يتصرفون كما يحلو لهم بلا مساءلة أو مراجعة. وما حل في العراق مع صدّام تحول بصورة أو بأخرى إلى نموذج واضح للاستئثار والتسلط المصحوبين بالمغامرة والتوريث الجمهوري، وأرادت الشعوب في لاوعيها أن تبحث عما يساعدها في تفادي مصير مشابه لما وقع في العراق. ويتضح من السياق التاريخي أن الشعوب، خصوصاً النشطاء من أبنائها وبناتها من الجيل الجديد، فهموا أن معركة التخلص من الديكتاتورية لن تحتمل التأجيل والانتظار. وفهموا جيداً مصدر قوتهم، ففي الجوهر، لا يوجد نظام سياسي في التاريخ قادر على الاستمرار إذا قررت الغالبية إسقاطه عبر سحب الشرعية منه. وهذا أساس اكتشاف الشعب لمعنى قوته عند مقارنتها مع شرعية مستمدة من أقلية مستبدة تعتمد على أجهزة القمع. وقد شكل نمو الوعي بحقوق الإنسان ودور المواطن بداية لتطوير رؤية جديدة مهيأة لتفكيك الشرعية العربية التسلطية، فأبناء المدن والقرى في البلاد العربية تعرضوا لمعرفة جديدة من خلال التكنولوجيا الحديثة. لقد اكتنزت البلاد العربية بمعارف حية تنافس تلك الكتب الرتيبة التي تدرَّس في المدارس الحكومية العربية، ولكن هذه المرة، جاءت المعرفة إلينا عبر الفضاء المفتوح والإنترنت ووسائل الاتصال الاجتماعي، وفي هذا انتقال وتغير كبيران. ومن القضايا المساهمة في الربيع العربي، سقوط شرعية الخطاب الرسمي في بعض الجمهوريات العربية ووسائل إعلامه الركيكة التي خيَّرت المجتمعات العربية بين القبول بالديكتاتورية ومزاجيتها وفسادها من جهة، وبين الوقوع تحت براثن التطرف الإسلامي من جهة أخرى. وأكد النموذج التركي، الأقرب إلى العالم العربي من حيث المواءمة بين قيم الديمقراطية الحديثة وبين قيم التنمية والإدارة العصرية والإسلام، إمكانيةَ توافر طريق ثالث مدني ديمقراطي وتنموي ومتصالح مع الدين. وقد شكَّل اتجاه كثير من المواطنين العرب نحو التدين، الوجه الآخر لمأزق الشرعية العربية. إذ احتاج الناس إلى ملاذ آمن في ظل تحريم العمل السياسي المفتوح في معظم الدول العربية. لقد زحف الناس أفواجاً وجماعات نحو الجوامع بصورة مضاعفة، حيث وجدوا المكان الذي يعطيهم بعض الطمأنينة في ظل الخوف والقلق ونقص الحياة الكريمة. ولكن التديُّن تحول إلى قوة للمجتمع وحصانة، فهو نفسه المسؤول عن تلك الشجاعة التي تتحلى بها الشعوب العربية في مواجهة القمع والرصاص، وهو نفسه المسؤول عن الانتقال في لحظة تاريخية مفصلية من التركيز على الحلال والحرام، والشرعي وغير الشرعي، إلى العادل وغير العادل، والمنصف وغير المنصف. والتديُّن في البلاد العربية كان تعبيراً عن المشكلة وحلاًّ لها في الوقت نفسه. وما أن اندلعت الثورات، حتى أصبحت بعض الأنظمة نفسُها أحدَ مسببات انتشار الثورة، وبهذا دمرت تلك الأنظمة ما تبقى لها من الشرعية، فهي لم تكن قادرة، بحكم ضعف شرعيتها وتفككها الداخلي وفسادها، على القبول بمطالب الثوريين في حدها الأدنى، بل نجدها اتجهت فوراً إلى استخدام القوة والعنف ضد المحتجين، في ظل محاولة خداعهم وإيهامهم بأنها بدأت الإصلاح الموعود. وبهذا السلوك الضيق نجد أنها قد ساهمت في نشر التعاطف مع الثورات والخوف من إيقافها. أليس غريباً أن مطالب الشعب بالحرية والكرامة تحولت بسرعة إلى «الشعب يريد إسقاط النظام»؟ واليوم يتأسس أمام أعيننا منطق سياسي جديد لشرعية عربية جديدة صاعدة. وقد حققت هذه الشرعية الجديدة نجاحات سريعة في مصر وتونس وليبيا، ولكنها في طريقها للانتصار في اليمن وسوريا، عبر استمرار النضال لإزاحة الديكتاتورية. وتتميز الشرعية الجديدة للثورات العربية بمقدرتها على احتلال الساحات العامة والميادين بطرق سلمية، وبمقدرتها على اتباع وسائل سلمية للنضال تؤدي إلى شل إرادة النظام السياسي وتشتيت قواه. والثورات العربية بدايةٌ لتأسيس كيانات عربية ديمقراطية في تلك البلدان تسعى إلى أخذ شرعيتها السياسية من شعوبها. وهذا لن يعني بروز مدن فاضلة بين يوم وليلة، ولكن ما يقع يمثل بداية جريئة وغير مسبوقة للتعامل مع مشكلات العالم العربي من خلال بناء شرعية سياسية جديدة مصدرها الشعب وحرياته. د. شفيق الغبرا - كاتب كويتي ينشر بترتيب مع مشروع «منبر الحرية»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©