الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عيون الفقراء في قلوبهم

عيون الفقراء في قلوبهم
15 أكتوبر 2015 00:15
في فيلم «أميركا» أو Umrika لكاتبه ومخرجه الهندي الشاب پراشانت ناير هناك اشتغال إبداعي وذكي على تقديم حلم الفقراء عن العالم الآخر المُسمى أمريكا بشكل ساخر ومؤلم في آن، ومن خلال طرح رؤية جديدة ليس فقط مقارنة مع شكل الأفلام الهندية السائدة، وإنما أيضاً مقارنة مع الأفلام التي عالجت فكرة أميركا الخرافة بالنسبة للقادمين من دول العالم الثالث أو الدول غير القادرة على احتواء فقرائها. هذا الاختلاف في التناول والنجاح في تجسيد فكرة الحالمين بالقارة المانحة للفرص حسب ما يعتقدون استحق عليه الفيلم جائزة الجمهور في مهرجان صندانس لهذا العام وكان أحد أسباب اختياره ضمن فئة العروض الرسمية خارج المسابقة في مهرجان كارلو?ي ?اري السينمائي الدولي مؤخراً. الفيلم يذكرنا بالتناول الروائي الساخر لروايات كتاب أميركا اللاتينية وهو مُعالَج بحرفية عالية ومُشابِهة لأساليب الواقعية الجديدة. فهو ينتمي بشكل أو بآخر إلى الأدب من حيث معالجة الشخصيات ووصفها بصرياً ومتابعة حالاتها بالإضافة إلى بناء عوالم لها تجعلها تبدو وكأنها خارج المعتاد لكنها ما تلبث أن تعود لمسارها الأكثر اقتراباً من الحقيقة. يصيغ براشانت قصته بهدوء يشبه هدوء القرية التي تنطلق منها الأحداث ويرسم لكل شخصية ملامحها ومساراتها بعناية الكاتب، بلا استعراضات أو رتوش ذات أهداف تجارية معتادة في الأفلام الهندية. أبطال وشخصيات يختار پراشانت ناير أبطاله من ضمن مجموعة النجوم الشباب الجدد الذين حققوا لأنفسهم سمعة دولية. ف«براتيك بابار» بطل فيلم «صديقي بينتو» يلعب هنا دور أوداي الابن الذي يقرر السفر إلى أميركا بحثاً عن فرصة عمل تجلب الحظ له ولعائلته. و«سُراج شارما» بطل فيلم «حياة پاي» يلعب دور راما، الشقيق الأصغر لأوداي الذي يسرد بصوته الأحداث ويجعلنا نراها من وجهة نظره كطفل في بداية الأمر وكشاب فيما بعد. أما «توني ريفولوري» الذي لعب دور فتى الاستقبال في فيلم «فندق بودابست الكبير» فيقوم بدور لالو صديق راما. أعطى الأداء الجيد والطبيعي لهذه النخبة من الفنانين روحاً حقيقية وهادئة للفيلم الذي تجري أحداثه في فترة الثمانينيات في واحدة من القرى البعيدة وشبه المنسية في شمال الهند حيث تتميز الشخصيات فيها بالبساطة والطيبة والعواطف. في هذه القرية التي تسكن عالياً فوق الجبال وقريباً من الغيم يتحول استقبال أهلها لأخبار العالم الخارجي من خلال رسائل أبنائهم إلى ضرب من السحر وحافز لأن يحلموا وأن يتخيلوا بحرية إلى درجة تحويل حياتهم إلى مسرح لابتكار واقع بديل يضفي بعض الإثارة على حياتهم الرتيبة. الممثلة الهندية سميتا تامب مثلت دور الأم وأبدعت فيه بأسلوب أدائها الطبيعي. وإن كان المخرج/‏ الكاتب قد اختار الابن الأصغر ليروي حكاية عائلته ويصف العلاقة بين أمه وأبيه فإنه ينجح في أن يوجه المُشاهِد لمحبة فكرة الابن عن أمه وتأمل مزاجها. نُشاهدها في بداية الفيلم أثناء توديعها لابنها معتدة بنفسها وفخورة به رغم ألم الفراق. إلا أن الابن الذي يرحل عنهم للبحث عن فرصة للعمل في أميركا يغيب تماماً وتختفي معه أخباره. وتتجلى مع هذا الغياب الانكسارات التي ستتعرض لها الأم وكأنها تهوي في أحاسيس الخذلان. يذهب كبرياؤها مع ذهاب ابنها أوداي وتنحني قامتها أمام الانكسار النفسي والخجل الاجتماعي. تبدو غير قابلة للفرح نتيجة آلام الشوق والحنين المختلط بالرغبة للتفاخر أمام الجيران بوصول رسالة من ابنها الذي يعمل في القارة البعيدة. خيبة الأمل التي تنتابها تجعلها تفقد الإحساس بكل شيء حولها وحتى الواجبات اليومية والعلاقة بالزوج والطفل الصغير الذي يراقبها دون أن يستطيع التخفيف من حزنها. وحزنها يتفاقم في كل مرة يأتي فيها ساعي بريد القرية حاملاً رسائل الأبناء الغائبين دون أن تكون بينها رسالة من ابنها. يُعلِّق الصغير على حالة أبيه الذي يحاول كسر عزلة زوجته وحالة الحداد التي فرضتها عليهم جميعاً بشكل ساخر واصفاً وضعهما بدولتين تعيشان حرباً باردة وأن أمه من تستطيع وقف هذه الحرب، ولكن سيتبين فيما بعد أن دهاء أبيه هو الذي سيؤدي إلى إنهاء تلك الحرب. رسائل الوهم فجأة تبدأ الرسائل بالوصول فتدب الحياة في القرية بأكملها ويتزايد الحماس لدى السكان لمعرفة المزيد ليس فقط عن الابن المسافر ولكن أيضاً عن أميركا وحياة الناس فيها وعاداتهم واحتفالاتهم. وتنتعش حالة الأم أخيراً فتعود الحرارة إلى علاقتها الزوجية مما يجعلها تُقبل على الحياة بفرح غامر. ومع كل رسالة جديدة يزداد تباهيها بابنها الذي يحرص على إضافة الصور المقتطعة من الجرائد عن تفاصيل الحياة الأميركية حتى يتمكن جميع سكان القرية من مشاهدتها والتعرف على البلاد التي سافر إليها، وتبدأ الهدايا الغريبة تصل هي الأخرى وتكون مصدراً لاستغراب أهل القرية وتعجبهم لكنهم يبررون كل غرابة بردها إلى غرابة المكان الذي جاءت منه. ويكبر الأخ الأصغر ليصبح شاباً ويتساءل عن سبب عدم زيارة أخيه لهم ولكن دون أن يعرف السبب الحقيقي. وعندما يموت الأب تنقطع الرسائل وتختفي معها البهجة التي كانت تتركها في الأجواء. وهنا يكتشف راما الشاب أن مصدر ذلك السحر كان والده وليس شقيقه، حيث يأخذه ساعي البريد إلى المخبأ السري الذي كان يستخدمه أبوه ويُريه قصاصات الصحف والأختام البريدية المزورة والصور المقتطعة وبعض الهدايا التي كان يرسلها وفقاً للمناسبات. كان الأب بشخصيته المبالية والحنونة قد أعاد الرونق لحياة زوجته بابتكار واقع مُختَلق وصار على الابن الأصغر أن يُكمل التقليد الذي بدأه أبوه. يضطر راما لمتابعة الكتابة لوالدته بنفس الطريقة التي ورثها عن أبيه فيما تتفاقم الحيرة في نفسه عن غياب شقيقه غير المبرر. وأخيراً يقرر السفر بحثاً عنه. تنتقل أجواء الفيلم من القرية إلى المدينة بومباي، ومن حياة العائلة إلى حياة العزوبية الإجبارية للشاب الذي سيكون في مواجهة تحديات التعايش مع قساوة الواقع الجديد. ورغم التربية القروية الأصيلة فإنه عند أول صعوبة سيستولي على عمل ودراجة أحد الباعة المتجولين من أجل توفير الثمن الذي يتصور أنه سيمكّنه من اللحاق بأخيه في أميركا. هذه المخاطرة في جعل البطل يرتكب السوء بالأسلوب الميكا?يلي القائم على مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة» أحد أكثر المعالجات جرأة في الفيلم. ينجح پراشانت ناير في تشتيت مشاعر الامتعاض من تصرف راما حين يضعه في موازاة أمثلة أكثر سوءا وتتصرف بشكل غير إنساني. وهو يبرهن من جهة ثانية ما تفعله المدن القاسية بمن يكافحون فيها من أجل الرزق. وهذا ما سنكتشفه مع راما حين يعرف صدفة أن شقيقه لم يترك مدينة بومباي أبداً وأنه كان يعمل طيلة سنوات الغياب تلك كحلاق في أحد محال الحلاقة. وقد آثر بدل أن يُكشف أمر فشله في الذهاب إلى أميركا أن يكون منسياً بالنسبة لعائلته. ظل راما مواظباً على كتابة الرسائل لأمه باسم هذا الشقيق ونسي هو نفسه أن يكتب لها، وسيأتيه اتصال من ساعي البريد يخبره فيه أن والدته غاضبة منه لأنه لم يكتب لها أبداً منذ رحيله بينما أخاه لم ينقطع عن الكتابة أبداً. انكسار وهروب يصور المخرج والكاتب الأم في هذا المشهد إلى جانب ساعي البريد وقد أفناها الحزن وكسر كبرياءها بشكل مؤثر. فهي تجلس هناك كأم مجروحة من نسيان ابنها لها وهي شاهدة على المكالمة التي يحث فيها ساعي البريد راما على الكتابة لها لكنها لا تأخذ منه الهاتف لتتحدث معه بنفسها، إنها تتأكد فقط من أنه ينفذ رغبتها بإيصال شكواها له. راما وعلى عكس اعتقادها يواصل جهوده الحثيثة لتحقيق حلمها بإصراره على خلق فرصة للذهاب لأميركا حتى وإن كانت بالتورط في الشر. وكأنه بذلك يسعى لتعويضها عن كل الأكاذيب التي عايشتها سواء بسبب أخيه أو والده أو بسببه هو شخصياً. في نهاية الأمر يلتقي بأخيه أوداي وينشأ بينهما جدل غاضب يعبّر فيه راما عن غضب السنوات التي اضطرته ووالده للكذب من أجل ترميم مشاعر والدته التي أنهكها الفقد والشوق إلى رؤياه أو سماع أخباره. يساهم أوداي في تكاليف تهريب أخيه راما إلى أميركا. وقبل أن يذهب كل من الشقيقين في طريق ستجمعهما صورة مشتركة التقطاها سويا لإرسالها لوالدتهما كدليل على أنهما التقيا في أميركا من أجل أن تتمكن على الأقل من رؤية صورة فوتوغرافية لهما. لن يخبر أوداي الذي اعتاد على إخفاء تفاصيل حياته عن أهله أنه متزوج ولديه طفل، وحين تسأله زوجته إن كان عازما على إخبار شقيقه الأصغر يجيبها بأنه لم يحن الوقت لذلك بعد. أما راما فإنه سيحب «سواتهي ريدي» الفتاة العاملة في المقهى الذي يتناول فيه طعامه ويشاهد مع رواده الأفلام في المساء في بومباي المكتظة والوحشية ولكنه سيفترق عنها وعن صديق طفولته لالو من أجل تحقيق الحلم المستحيل. المشهد الأخير هو خروج مركب يحمل صناديق شحن وفي أحدها راما مع آخرين يحلمون مثله بعبور المحيطات للوصول إلى القارة الأميركية. الكثير من القراءات النقدية اعتبرت هذا الفيلم قريباً من الغرب أكثر منه من السينما الهندية خاصة أن المخرج/‏ الكاتب تلقى تعليمه وعمل في الخارج وبالطبع تأثر بالسينما الأميركية والأوروبية، هناك الكثير مما يمكن ملاحظته، والمختلف فيما يتعلق بالجانب الفني وأسلوب المعالجة، غير أن هناك أمرا آخر ذا أهمية استثنائية وهو خصوصية الثقافة الاجتماعية وبناء الشخصية الهندية التي قدمها المخرج والتي تعكس بصدق التقاليد الشرقية ولا سيما الطبيعة الآسيوية وطريقة تصرف الفرد في مواجهة التحديات وميولها نحو عدم المواجهة والاحتفاظ بالأسرار وكبت المشاعر الخاصة. فيلم «أميركا» يسلط الضوء بطريقته الهادئة والذكية على ما هو بين السطور ويترك حزمة من الآلام وإحساساً بالمرارة التي لا تُحتمل بسبب الشبه الكبير بالواقع من جهة، وأيضاً بفضل الأداء الرائع لممثليه من جهة ثانية، والذي ساهم في تحديد ملامح الشخصيات وإضافة أبعاد نفسية وفلسفية عليها فظهرت مكتملة وعميقة تماماً كما رسمها مؤلف العمل ومخرجه پراشانت ناير. الفقر والأحلام ينتميان إلى بعضهما ليهبا الإنسان رمزاً جديداً وهو الأمل. وبالذات بالنسبة للفقر فهو لا يُمكن أن يُحتمل دون وجود الحلم. ولقد قال الحكماء الكثير عن هذه الثنائية بشكل فلسفي أحياناً وبشكل شعري في كثير من الأحيان. ولكن حين يتم التعبير عن هذا المفهوم في السينما، فإن النتيجة لا تعد مجرد أخيلة إذ تدخل في عملية تحويل الحلم إلى واقع آخر يشبه التحقق أو التجسد كونه يعبر من خلال لغة البصر. سينما المؤلف ظهرت نظرية المؤلف فى الخمسينيات من القرن الماضي، من خلال مجلة «كراسات السينما» الفرنسية وحملت المصطلح الفرنسي politique des auteurs، حيث يترقى المخرجون ليصيروا في مكانة المؤلفين والروائيين، وكان من أبرز المتحمسين لهذه المدرسة السينمائية المخرج الفرنسي الشهير فرنسوا تروفو والمخرج جاك ريفيت. ويقول تروفو، إن مشكلة المخرجين الأوربيين، هي أنهم يقدمون إعدادات سينمائية لمواد ذات قيمة أدبية فيكتسبون سمعة كبيرة ليس بسبب عملهم، ولكن بسبب النص الكلاسيكي الذي أعدوه، وهذا لا يعني أن كبار المخرجين الأوربيين لم يعدوا كتباً عظيمة، فرينوار أخرج فيلماً معداً عن رواية «مدام بوفاري»، واخرج بريسون فيلما مُعدا عن «يوميات قسيس ريفي»، وكلا المخرجين كانا يحظيان بمكانة كبيرة في نظر مجلة «كراسات السينما». وقد نالت سينما المؤلف الاعتراف منذ سنة 1960 ،عندما حصل فيلم «الحياة الحلوة» للمخرج الايطالي فيدريكو فيلليني (Federico Fellini)، على السعفة الذهبية بمهرجان كان الدولي، لكونه زعزع انتظار المتتبعين، وعلى رأسهم لجنة التحكيم، بأسلوبه الجديد، الذي لم يعد فيه دور المخرج ينحصر في توجيه الممثلين، وتحديد زوايا التصوير، بل يتعدّاه إلى وضوح الرؤية الفلسفية للعالم من حوله وللعلاقات بين الموجودات من خلال عمله الفني الذي يحمل بصماته هو (كمخرج يملك الحرية والسُلطة على عمله).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©