الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من المسؤول؟

من المسؤول؟
11 فبراير 2007 00:42
طرقات خفيفة على باب غرفتي أعلنت تردد صاحبها· كنت قد رجعت للتو من عملي وبالكاد أغلقت باب غرفتي علي· عاد الطارق يدق بابي من جديد بذات الخفة ونفس التردد· قلت: تفضل· فتح الباب ببطء ثم تبينت أن والدتي هي صاحبة الطرقات لكنها كانت مترددة في الدخول وعلى وجهها قلق واضح· قلت: خير إن شاء الله يا أمي··· أقلقتني''· دلفت إلى الغرفة بدون أن تقول شيئاً· أغلقت الباب وجلست قبالتي على السرير تتجنب النظر في عيني· أقلقني منظرها· أعدت السؤال: ''خير إن شاء الله''· أمسكت بيدي محاولة إخراج الكلمات من حلقها··· أفزعتني طريقتها، فقد عاشرت أمي ما يزيد على الثلاثين عاماً ولا أذكر أنني رأيتها بهكذا حالة· توسلتها أن تتكلم··· أخيراً قالت: ابنتي العزيزة··· أنا أعلم أنك ابنة بارة عاقلة قنوعة راضية بما قسم الله لك· وأدرك جيداً بأنك مؤمنة أنه لو كان لك نصيب لتتزوجي لتزوجتٍ ولو وقفت كل الدنيا في وجهك''· ماذا تعني أمي بتلك الكلمات؟! ومنذ متى أصبحت تتحدث بهذه الصراحة؟! ولم تتكلم بهذا وهي تعلم جيداً بأن ذلك يؤذيني؟! وهل أيقنت أخيراً بأنها هي وأبي وضعوا آلاف العقبات دون تزويجي لذا جاءت تعتذر؟! أردفت أمي قائلة: اسمعي يا ابنتي··· لقد تقدم لأختك شاب لا يمكن رفضه· شاب رائع بكل المعايير· خلوق، متدين، ابن عائلة ومقتدر، وبصراحة تحدثت مع والدك ووافق على الموضوع··· فما رأيك أنتِ؟· أحسست بثقل الدمعة التي تجمعت في عيني وأبت لكبريائي أن تسيل· قلت: على أساس أنكم لا تقبلون بتزويجنا ونحن لازلنا على مقاعد الدراسة··· وما زال أمام أختي أكثر من سنتين لتتخرج من الجامعة!· قالت: ''بصراحة، لا نريد أن نكرر ذات الغلطة''· سكتت برهة كأنها لا تريد أن تخوض في التفاصيل أكثر متجنبة النظر إلى عيني· ثم قالت: أختك أيضاً وافقت وإن تسهلت الأمور فسيكون كتب الكتاب قريباً إن شاء الله··· كوني مستعدة''· قالت كلماتها تلك وأسرعت بالخروج من الغرفة تهرب بملامح وجهها عني··· أما أنا فتركتني خلفها منقبضة القلب· موجات الألم أحسست بقسوة كلماتها رغم كل محاولاتها إظهار حنانها·· أحسست بأن كلماتها كانت كضربات سياط متلاحقة لا ترحم·· إذن كنت أنا فأرة التجارب·· وبعد كل هذا العمر جئتم لكي تهدونني صك العنوسة مجاناً·· وأنتم تعلمون جيداً كيف ينظر مجتمعنا لمن تتجاوز الثلاثين من عمرها دون زواج بل وكيف ينظرون إلى من يتجاوزها الزواج إلى من تليها خصوصاً وإن كانت في هذا العمر·· لست أعترض على قضاء الله تعالى، بل أعترض وأستغرب من هذا الانقلاب المفاجئ·· فطوال سنوات دراستي تقدم لي خطاب من أفضل الشباب، وكنتم ترفضون بحجة إتمام دراستي·· وبعد التخرج أيضاً كانت حجتكم أنه لا بد لي من أن ''أعيش حياتي'' و''أعمل'' قبل أن أتزوج·· وأنتم تعلمون جيداً أنني لا أرغب بالعمل، إلا أنني خرجت إليه مرغمة كي أساعد في مصاريف البيت الذي أهمله والدي برغم ثرائه، والذي كنت أحسب أن وظيفته الوحيدة تجاهي هو أن يغلق بابي أمام الخطاب بقوله: ''لا·· هي ما زالت صغيرة!!''·· وهكذا انفرط عقد شبابي وأنا أنتظر ذلك الوقت المناسب من وجهة نظركم لكي توافقوا على تزويجي·· وبدأ عدد الخطاب يتناقص تدريجياً حتى لم يعد يطرق بابي طارق·· وتحول الجميع من بابي إلى أبواب أخواتي اللاتي تصغرني أكبرهن بأكثر من عشر سنوات·· والآن لم يعد قانوناً أن تنتظروا إتمام الدراسة أو العمل·· والآن تخافون عليهن أن يصيبهن ما أصابني من عنوسة وقهر·· والآن أيقنتم أن ما جنته يداكم تجاهي كان خطأً·· والآن لا يمكنكم رفض هذا القادم لأنه قد لا يتقدم لأختي أفضل منه·· سبحان الله!!! تلك حياتنا كان أبي دائم السفر والترحال بحكم عمله·· لذا لم يكن يقيم عندنا كثيراً ولم يكن بيننا ذلك الارتباط العاطفي أو المعنوي المفترض أن يكون بين الأب وأولاده·· وكانت أمي هي المسؤولة مسؤولية مباشرة عنا·· وربما لشعورها بثقل تلك المسؤولية صارت تعاملنا بتسلط كبير·· فالممنوعات كثيرة·· والمحظورات أكثر·· وصرت أحلم باليوم الذي أنطلق فيه بعيداً عن سياج هذا البيت إلى أسوار بيت جميل صغير دافئ يحتضنني مع زوج يحبني ويحميني وأبناء أربيهم بما يرضي الله - عز وجل- ويسلونني ما بقي لي من عمر·· لكن هذا لم يتحقق·· بل ويبدو أنه لن يتحقق أبداً·· جاء اليوم الذي كنت أخشاه·· فاليوم يوم زفاف أختي إلى عريسها·· كنت قد عاهدت نفسي أن تضبط كل انفعالاتها وأن تكتم دموع الحسرات والحزن·· كنت أحب أختي هذه حباً كبيراً·· والله كنت أتمنى لها السعادة من كل قلبي·· لكنني كنت أرثي لحالي وأعلم بأن عرسها هذا يعني قتلاً لآخر روح للأمل لدي·· فأنا اليوم سأحمل لقب العانس بجدارة·· العانس التي ينبذها المجتمع بطريقة قاسية·· العانس التي ينظر لها الآخرون على أنها بائر وبأنه لو كان فيها خير لما تجاوزها الخاطبون·· العانس التي لا بد لها وأن تتجرع في اليوم آلاف المرات مرارة الأسئلة السخيفة الممزوجة بسخرية قاتلة: مدام أم آنسة؟ كم صار لديك من الأولاد؟ كم عمرك؟ لم لم تتزوجي بعد؟ ألا يتقدم إليك أحد؟ إذن لماذا أنت مضربة عن الزواج؟ وفي الحفل كان الجميع حريصاً على مراقبة كل تحركاتي·· فإذا ما انزويت لأعدل زينتي سمعت همسات ولمزات خبيثة وضحكات تشير إلى أنني انزويت لأبكي!! يا إلهي!! ألا يرحمون يأسي؟!! ألا يتركوني في حالي؟!! سبحان الله·· كم يستلذ البعض بالصيد في المياه العكرة·· عدنا إلى البيت بعد أن انتهى ذلك الحفل الذي كان رائعاً بكل المعايير·· فأختي كانت في قمة جمالها وتألقها وسعادتها وهي تجلس إلى جوار زوجها الذي بدا هو الآخر سعيداً أيما سعادة·· وقد التقيت بزميلات الدراسة وكل منهن كانت تصطحب أطفالها الذين بدأ بعضهم في الدخول إلى المدارس·· أما أنا·· آآآآه وألف آه! كل آه أقولها تحرق أنفاسي حرقاً·· تقطعني·· تمزقني·· حتى آخر آمالي انساب من بين يدي انسياب الماء·· ألقيت بنفسي الجريحة على سريري واحتضنت وسادتي وأغرقتها بدموع كسيرة لم تطفئ شيئاً من حرقة صدري·· ولا أدري كم من الساعات أمضيت على هذه الحال حتى أشفق علي النوم واستسلمت له·· آخر من يعلم بعد ذلك اليوم تزوجت أخواتي تباعاً·· كان الموضوع صعباً على والدتي في أول مرة·· وبعدها لم تعد تكترث بمشاعري أو تهتم بإعلامي إلا بعد أن يرتبوا كل شيء·· ربما اعتقدَت أنني فقدت الإحساس·· لكنني أبداً ما فقدته·· ففي كل حفلة زفاف أحضرها كانت تتجدد لدي مشاعر الحسرة وأنا أنظر إلى العروس في فستانها الأبيض الملائكي·· شيء آخر قد تغير في حياتي·· أبي الذي كنا بالكاد نعرفه هاجمته أمراض الكبر·· فترك أعماله ولزم فراشه·· ولأنه كما ذكرت لم يكن يرتبط بنا عاطفياً فقد أهمله الجميع·· إلا أنا·· فقد حباني الباري بحنان فياض·· ولأنني حرمت من نعمة الزوج ونعمة الولد فقد أفرغت على والدي جرعات حناني الكبير·· كان ينظر إلي وأنا أسهر الليالي إلى جواره وأهب في مواعيد دوائه لكي أعطيه إياه بيدي فينظر إلي ودموع في عينيه لا أدري إن كانت دموع شفقة أو ندم·· المهم أنني لم أكن أفارقه إلا للذهاب لعملي·· فقد أصبح هو كل دنيتي وحياتي·· وفي اليوم الذي غادرنا فيه كانت آخر كلماته لي: ''سامحيني يا ابنتي فقد ظلمتك''·· بعدها فاضت روحه إلى بارئها وسط دموعي ودموع إخوتي وأمي·· وتجرعت آلامي من جديد ولملمت بقايا الأمل المسكوب وسجلت انكساراً آخر في تاريخ انكساراتي·· وفي عرس آخر أخواتي كنت قد بدوت كأمها، فقد تراكمت علي الأحزان وتسلل الشعر الأبيض إلى رأسي وانهارت قوة الاحتمال لدي ولم يعد هناك داعٍ من المكابرة أو المداراة، فالكل كان يقرأ خطوط الحزن العميق في لمحات عيوني وحركاتي وانقباضاتي·· وهكذا انقضى العرس وعاد كل إلى بيته وعدت أنا إلى حجرتي التي أجتر فيها كل يوم مرارة أيام حياتي·· أين مكاني؟ توفيت أمي بعد ذلك بسنين·· ومرة أخرى تجرعت مزيداً من الألم والعذاب بعد أن أصبحت في هذه الدنيا وحيدة أقاسي مرارة الوحدة والتشرد·· فلم أعد أستطيع السكن وحدي لغلاء المعيشة فاضطررت إلى الإقامة في بيوت أخواتي تباعاً·· كنت أشعر بأنني عالة على الجميع·· فلا مكان لي في بيت إحداهن·· فالكل مشغول والكل لديه أطفال والكل لديه خصوصيات·· أما أنا فلا انشغال ولا خصوصية كما يقولون·· لذا فقد كنت أعمل طوال النهار خارجاً وفي الليل تخرج أخواتي مع أزواجهن ويوكلن لي مهمة الاعتناء بأطفالهن·· لم أكن أكره ذلك بل بالعكس·· فقد كان حبي للأطفال عميقاً·· لكنني كم تمنيت أن يكون لي واحد! لكن هذا لم يحصل·· بل ما حصل هو أن حياتي ما عادت مستقرة أبداً·· في يوم من الأيام وقد كنت أبيت في بيت أختي التي تليني مباشرة عدت من عملي مرهقة·· تبعتني أختي إلى الغرفة التي كانت تخصصها لي كلما جئتها للمبيت·· قالت: ''عندي لك خبر رائع''·· قلت: ''خير إن شاء الله''·· قالت: ''أكيد خير·· تقدم لك رجل للزواج''·· ياه·· نظرت إليها نظرة الجريح الساخر من الأحزان ولم أعلق·· قالت: ''ألن تسألي عنه؟'' قلت: ''لا يهمني·· فقد مضى عهد الزواج، ولم يعد له بهجة·· ولم يعد في العمر بقية''·· قالت: ''حرام عليك·· لا تستبقي الأحداث ولا تحملي نفسك أكثر مما تحتمل·· اسمعي·· هو زميل قديم لوالد زوجي·· أرمل ولديه أبناء·· يعاني من الوحدة بعد أن تزوج أبناؤه ومن بعض الأمراض و··'' قاطعتها: ''ويحتاج ممرضة تواسيه في عجزه ومرضه وكبره·· أليس كذلك؟؟ ألهذا الحد صرت عالة على الجميع وأصبحتم جميعاً تريدون التخلص مني؟ ألست أقوم على خدمتكم وخدمة أبنائكم؟ اسمعي·· سأخرج محاولة إيجاد مأوى لي حتى وإن كان مأوى العجزة والمسنين·· وإن وجدت مكاناً سأعود مساءً لآخذ حاجياتي وأرحل''·· قلت كلماتي تلك مندفعة نحو باب الشقة تتبعني أختي ذاهلة تحاول تهدئتي إلا أن محاولاتها لم تفلح، فقد خرجت فعلاً وركبت سيارتي منطلقة بسرعة لكنني لا أدري إلى أين·· مسكينة أختي·· أفرغت في وجهها كل الشحنات المكتومة في قلبي منذ سنين·· لا أدري لم فعلت ذلك وهي لا ذنب لها·· بل بالعكس هي آوتني وأشركتني في حياتها وبيتها وأطفالها وقد ظنت بسؤالها ذلك أنها قد تنهي معاناتي لكنها كانت كمن داس جرحي بحذاء أسود ثقيل فانفجرت في وجهها كل الآهات·· همت على وجهي في الطرقات وأنا أفكر·· غلطة من هذه؟ هل هي غلطة والديّ -رحمهما الله- اللذين وقفا عائقاً أمام كل من جاءني خاطباً بحجج واهية·· أم هي غلطة المجتمع الذي يعتبر كل ''مختلف'' منبوذاً ويعامله ككائن غريب·· أم هي غلطتي أنا لأنني لم أستطع خلال كل تلك السنين أن أتعايش مع العنوسة وأتكيف معها ومع وحدتي وحسرتي ولم أستطع مقاومة غرائز الأمومة لدي؟؟ لا أدري·· كما أنني لا أدري إلى أين أرحل··· (هذه القصة أوردتها كما وصلتني بقلم صاحبتها، لما لمسته فيها من صدق في التعبير وجمال في الأسلوب، فتركتها بلا تدخل من قلمي لتصل إلى قلوب القراء بشكل أكثر قربا في الإحساس)·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©