الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

«أزهار الشر».. هل يحرّر الرقص العنيف الإنسان من الأسر؟

«أزهار الشر».. هل يحرّر الرقص العنيف الإنسان من الأسر؟
20 أكتوبر 2011 09:15
(أبوظبي) - لم يختر المخرج المجري ديفيد يوسا الذي ولد في بودابست، ونشأ وترعرع في السويد وجنوب إفريقيا موضوعاً محلياً مستوحى من بلده الأصلي أو من البلدين اللذين أمضى فيهما ردحاً من حياته، وإنما وقع اختياره على إيران هذه المرة بوصفها بؤرة لربيع الثورة الخضراء التي فجّرها الشباب الإيراني الناشط عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل عام 2009، وما أعقبها من تداعيات خطيرة حينما نزل هؤلاء الناشطون الشباب إلى الشوارع وبدأوا يقاومون وحشية الشرطة. لقد انتقى كُتّاب سيناريو فيلم “أزهار الشر” الأربعة وهم ديفيد يوسا، مايك سينز، رفاييل مايس ولويز موليير ثيمة رئيسية واحدة وهي القمع الوحشي، آخذين بنظر الاعتبار أن الذي حدث هو تظاهرة احتجاجية عارمة ضدّ إعادة انتخاب الرئيس أحمدي نجاد بعد الحادثة المعروفة لتزوير الانتخابات بغية إبعاد غريمه مير حسين موسوي وقد نجح في ذلك، كما نجح لاحقاً في قمع الآلاف المؤلفة من المحتجين، وربما كان الكثير من المشاهدين يعرفون بعض الضحايا من الوجوه الإعلامية التي وقفت في خطوط المواجهة الأولى، كما ورد في توصيف بطلة الفلم أناهيتا (أليس بلايدي) في إشارة إلى الضحايا الشجعان الذي لاقوا حتفهم في المظاهرات المتواصلة التي اندلعت بعد الانتخابات ومن بينهم الصحفية الإيرانية المعروفة ندى آغا سلطان التي رأيناها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة أمام عدسات الهواتف النقالة التي نقلت الخبر إلى مختلف أرجاء الكرة الأرضية في زمن قصير وخاطف. لقد وظّف ديفيد يوسا، في فيلمه الذي عرض في مهرجان أبوظبي السينمائي ضمن برنامج “عروض السينما العالمية”، هذه اللقطات والمشاهد الوثائقية التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية وانطلق من خلالها إلى المتلقي الذي سوف يجد نفسه أمام فيلم يمزج بين التقنيتين الوثائقية والروائية في آنٍ معاً، معتمداً بشكل كبير على فكرة التواصل سواء عبر الوسائط الإلكترونية الحديثة كالتوتير و”الفيس بوك” و”الماسنجر” والهواتف النقالة أو المواصلات المتمثلة بشبكة الشوارع الإسفلتية التي رأيناها بشكل مكثف ورمزي في بداية الفيلم وفي نهايته وكأنه أراد لهذه الخطوط أن تأخذ بعداً رمزياً كثيف الدلالة. المتن السردي أراد المخرج ومعه كُتاب السيناريو الثلاثة أن يقدموا لنا قصة لا تخلو من المنحى الفنتازي الذي ينطوي على فراغات تحتاج إلى من يملؤها وأسئلة غامضة تحتاج إلى من يجيب عليها. ولو تتبعنا السياق السردي الواقعي فسوف نجد أن أناهيتا، الطالبة والناشطة الشبابية المنهمكة في الثورة الخضراء التي يعود فيها بعض الفضل إلى المفكر الأميركي جين شارب الذي ألهم العديد من الناشطين والمحتجين في عدد كبير من بلدان العالم على تبني نظرية الكفاح السلمي التي تسقط أي نظام دكتاتوري في العالم إن هي تتبعت خطواته السحرية التي بات يعرفها القاصي والداني من الثوار والمحتجين. لقد فرّت أناهيتا من طهران إلى باريس بعيد التظاهرات الاحتجاجية مباشرة، فهي تنتمي إلى أسرة غنية ميسورة الحال. وسوف نعرف من أحاديثها المتواصلة مع رشيد أنها كانت تتعلم اللغة الفرنسية منذ صغرها فلا غرابة أن تتحدث بلغة فرنسية طليقة، كما أنها شابة مثقفة تقرأ أشعار الخيام، وتستمع بقراءة (أزهار الشر) لبودلير حيث لاحظنا لاحقاً بأنها أخذت تحرّض رشيد على قراءة بعض قصائده، بل أنها ذهبت إلى سوق الكتب المستعملة واقتنت له الديوان بثمن زهيد، وأكثر من ذلك فهي متحررة تشرب النبيذ وتدخن السجائر وربما كانت تستغرب لأن صديقها الجديد لا يحتسي المشروبات الكحولية. السؤال الذي يجب إثارته في هذا المضمار هو: هل هربت أناهيتا من المواجهة الحقيقية مع الشرطة الإيرانية والعناصر الأمنية التابعة للنظام، أم أنها خرجت تحت ضغط أمها على وجه التحديد فهي تخشى عليها أن تكون ضحية عابرة ربما لا يتذكرها أحد بعد حين من الوقت، خصوصاً وأن المتغيرات الدراماتيكية التي تعصف بالعالم كثيرة وتطغى على هذه الوقائع والأحداث التي سوف تكون هامشية بعد مدة قصيرة من الزمن؟ هل خافت أناهيتا حقاً لأنها كانت تشعر في أعماقها بالجبن والخذلان والانكسار، أم أنها كانت شجاعة ولا تخشى مواجهة الموت؟ إن المتتبع لأحاديثها التي تنطوي على بعض التناقض والارتباك يكتشف أنها تنتقد مجموعة من القيم الراسخة في المجتمع الإيراني، فقد قالت “إننا نتعلم الكذب منذ وقت مبكر”، هذا إضافة إلى تذمرها من العادات والتقاليد الاجتماعية المفروضة على النساء تحديداً. فعلى الرغم من تخليها عن الحجاب الذي كانت تتلفع به، إلا أنها خلعته وبدأت تمارس حريتها مع صديقها الجديد رشيد علماً بأنها كانت لها علاقة مع شخص آخر يدعى (آراش) الذي كنا نسمع به ولم نره في النصف الأول من الفيلم. لقد تمردت أناهيتا على قرارها الذي اتخذته بنفسها حينما تخلت عن ارتباطها بآراش الذي لم يرد على رسائلها التي كانت تبعثها على التويتر والفيس بوك، وقررت أن تخوض مغامرة عاطفية غير مأمونة العواقب. يا ترى ما الذي دفعها لأن تختار رشيد حبيباً لها؟ ما مقومات رشيد العلمية أو الثقافية، فهو ينحدر من أبوين لا يعرفهما، وقد يكون لقيطاً، كما أنه لم يدرس، ولم يثقف نفسه بالقراءة الخارجية، ولكنه يحب السفر ورقص الباركور الذي يقترب من الحركات الرياضية البهلوانية التي تلفت الانتباه، وربما يكون الرقص بمعناه العميق هو الذي جذب أناهيتا لهذا الشاب بوصفه راقصاً محترفاً ومتمرساً، ولو تعمقنا في ثيمة الرقص لوجدنا أن المخرج كان يريد القول بأن الرقص يحرر روح الراقص من سجن الجسد، وهذا ما لمسته حقيقة وأنا أتابع الفلم بمتعة كبيرة. فتوق رشيد إلى الرقص إنما هو توق إلى الحرية والحب الرومانسي الذي لمسنا بعض تجلياته بين العاشق والمعشوقة، كما أنه تعبير عن الحيوية الفائضة التي تفور في أعماق الشباب في كل مكان من هذا العالم. حنين ودماء تتطور العلاقة بين رشيد وأناهيتا ويواظب على زيارتها في الشقة الجديدة التي استأجرتها في باريس حيث تأخذ العلاقة منحى آخر في التواصل الجسدي، وكأن أناهيتا هربت من قمع طهران تلبية لمشاعرها العاطفية التي تحققت ما أن وصلت إلى باريس حتى وجدت ضالتها في هذا الشاب الجزائري مقطوع الجذور. ولأن أناهيتا مرتبطة بإيران، هذا المكان المقموع، فإنها تحِّن إليه وتتواصل مع أصدقائها وتتابع أخبارهم. تتعرض العلاقة العاطفية إلى بعض الهزّات، لكنهما كانا يتداركان الأخطاء التي يقترفانها، وربما يكون المشهد الأخير قبل عودتها إلى إيران مدعاة للتوقف. فما أن يلتحما في العملية الإيروسية حتى ينزف أنفها دماً الأمر الذي يضع المتلقي أمام دلالات جديدة، فالدم يمكن أن يحيل وفقا للصورة التي رسمها رشيد على وجه أناهيتا إلى لحى رجال النظام التي لا تفضي بالنتيجة إلا إلى الدم والاستباحة بشقيها الجسدي والذهني. وعلى الرغم من حجم الخسارات الكبيرة التي يتعرض الشعب الإيراني إلا أن المخرج أراد أن يقول بأن أناهيتا قد عادت إلى أرض الوطن الجريح، لكنها مفعمة بالأمل، وهو ذات الأمل الذي زرعه رشيد في عقلها وقلبها معاً حينما ربط معصمها بشريط أخضر يحيل من دون شك إلى الثورة الخضراء التي اندلعت أمام البرلمان الإيراني، وما هذه العودة الميمونة لأناهيتا إلا رفد لزخم الثورة التي تفجرت في إيران. كما أن رشيد نفسه يذهب، بعد أن يودعها في المطار وداع الحبيب لحبيبته والزوج لزوجته، ويقف على قارعة الطريق حاملاً لافتة ورقية مكتوب عليها بأحرف فرنسية (EST) التي تعني الشرق أو إيران تحديداً معبِّراً عن رغبته الجدية في اللحاق بأناهيتا على الرغم من ضيق ذات اليد، ولهذا فقد استعان بإشارة “الأوتو ستوب” التي لُبيت على وجه السرعة. وقبل أن تنغلق الشاشة ويعم الظلام نلاحظ حركة السيارات الكثيرة وهي تمخر الشوارع الممتدة في أحياء باريس مثل شرايين نابضة بالحيوية، وهي ذات الحركة التي بدأ بها المشهد الافتتاحي للفلم الذي حافظ على سياق سردي منتظم انطلق من البداية حتى بلغ الذروة ثم أفضى إلى هذه النتيجة المنطقية التي تُرضي ذهنية المتلقي الذي يؤمن بآلية الفني بين المنحيين الواقعي والفنتازي اللذين استقيا مادتهما السردية من النمطين السينمائيين الروائي والوثائقي على حد سواء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©