الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ذاكرة معذَّبة وحلم مقيم

ذاكرة معذَّبة وحلم مقيم
19 أكتوبر 2011 20:41
بالتعاون والتشارك مع متاحف الشارقة وإدارة الفنون في دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة دأبت إدارة متحف الشارقة منذ العام الماضي على إقامة فعالية ضمن المسمى: “علامة فارقة” تستضيف خلالها أعمالا لتجربة تشكيلية مميزة خلال الشهرين ديسمبر وأكتوبر سواء أكانت إماراتية أم عربية بحيث يمثل هذا المعرض إحدى التجارب المهمة لموسمي العروض التشكيلية لشتاء وربيع متتاليين، وبحيث يمثل علامة فارقة أيضا في تجربة الفنان نفسه على صعيد الاستعداد “الفني التشكيلي” لهذا المعرض مثلما على صعيد العرض. إدارة المتاحف اختارت لهذا العام الفنانة التشكيلية الإماراتية الدكتورة نجاة مكّي في معرض حمل العنوان: “إيقاعات ملوّنة” لتضع تجربتها الفنية تحت الضوء ولتستضيف أعمالها في أكثر صالات العرض جاهزية وإعدادا ورسوخا ثقافيا على مستوى الشارقة، هكذا تُعرض الآن أعمالا لنجاة مكّي يزيد عددها على الثمانين لوحة مسندية بقليل توزعت على ثلاثة وثلاثين صالة عرض تستقبل أعمالا فنية ضمن مواصفات وشروط عالمية. وقد أشارت إدارة المتحف إلى أن هذا المعرض يأتي تكريما لنجاة مكي بعد مشوارها الفني الطويل، ولأنها بعد هذا المشوار قد فاضت عن الحدود الجغرافية السياسية المتعارف عليها بين الدول لتصبح واحدة من الفنانات المميزات خليجيا وعربيا بناء على ما أنجزت من رصيد فني خاص ارتقى بها إلى أن تكون كذلك. إذ أنّ نجاة مكّي بحسب أعمال هذا المعرض فنانة نشطة وديناميكية خلقت للذاكرة والحلم مكانا واحدا تنهل من معينه أشكالا وتكوينات تفاجئ في ألوانها وإيقاعاتها مَنْ يتعرف إلى تجربتها في هذا المعرض الذي يمثل فرصة نادرة للاطلاع على تجربة إماراتية ـ عربية تحمل توقيع تاء التأنيث. لكن تاء التأنيث هنا ليست ذريعة فنية تحاول الفنانة نجاة مكّي أن تختصر مراحل من مشوارها الفني ولا عكّازا لا تصل بها إلى ما هو أبعد مما وصل الآخرون، بل إن تاء التأنيث فكرة ـ لمسة خاصة تطبع أعمالها التي ما إنْ يراها المرء دون أن يدرك الهوية الجنسوية لصاحبها بأنها تحمل تصورا عن ذات تلك المرأة وموقفها الجمالي من الفن ومن مفردات التكوين وتفاصيله لتحمل الأعمال ضمن هذا السياق توقيع امرأة. وبدءا، فإن من الصعب على الناظر إلى أعمال نجاة مكي في “إيقاعات ملونة” أن يدرك تماما ما يميّزها عن سواها من الأعمال: أهو التكوين؟ بنشأته وتاريخ تواجده في لوحة مكّي ومن ثم تطوراته؟ أم هو اللون واستخداماته الخاصة وفقا لمراحل متتالية قد ترصد تطوّر اللون وإيقاعاته في اللوحة إجمالا؟ أم هي ثيمة بعينها تعيد الفنانة إنتاجها بأشكال فنية مختلفة عبر تجربتها؟ أم هو كل ذلك معا. واقع الأمر، أنه ما إجابة من الممكن أن يطمئن إليها المرء عن كل هذه الأسئلة من خلال تجربة جمالية واحدة او اكثر في “إيقاعات ملونة”، إنما يحتاج المرء إلى أن يكون متأملا في ذاته أولا كي يدرك ما تثيره اعمال مكي من مشاعر وافكار وأحاسيس حولها وصولا إلى تأويل ممكن وليس إلى حقيقة مطلقة تجاه هذه الأعمال، تأويل يقبل القسمة على التعدد ولا يلجأ إلى الإفراط بديلا عن التحليل الذي قد لا يبدأ من المعرفة بل ربما من الحدس. في أحد الأعمال الفارقة في “إيقاعات ملونة” وحملت العنوان: تكوين وجرى تنفيذها على السطح التصويري بالأكريليك كسائر أعمال المعرض، هناك الكثير من الإغواء الذي تمتلكه اللوحة في إعادة النظر إليها لأكثر من مرة. في الخلفية توجد كتلة لونية مستطيلة تبدأ من أسفل اللوحة إلى أعلاها هي من الأزرق أساسا بتدرجات مختلفة تميل باتجاه الأخضر ثم الأسود كما أن هناك اقتطاعات لونية على السطح بالأبيض والأحمر ثم لطخات من الأبيض والأسود والفيروزي تكسر جميعا من حدة الاستطالة مثلما تكسر الحضور الطاغي للأزرق، وإلى الأعلى إلى اليمين يلحظ المرء وجود اقتطاعة مائلة من ما كأنه سور من اللِبْن أو نافذة صغيرة مغلقة كما توجد أيضا اقتطاعة شبيهة اوسع مساحة إلى أسفل اللوحة ويمينها، وإلى جوارها إلى أسفل اللوحة من اليمين فتوجد خطوط من الأزرق الذي يغلب عليها الأسود على كتلة سوداء توحي بما أنه باب ضيق أو نافذة ضيقة تشبه تلك التي في زنزانة سجن أو بوابة لما هو خلفها ويثير الرعب كما لا يمكن تخيله. إلى هذا الحد من التوصيف يبدو العمل تجريديا حيث الكتل اللونية مركزها الأزرق وتبدو الألوان الأخرى كما لو أنها قد تعيّنت على السطح التصويري لإبراز هذه الكتلة، خاصة الأسود، فضلا عن أسباب جمالية موازية، فيما الأزرق لا يخلق ذلك التناغم أو “الإيقاع الملوّن” بحسب تسمية المعرض فحسب بل أيضا بين الكتل على السطح التصويري. أيضا المعنى هنا هو متعة اللون غالبا، أي تثقيف البصر بدرجة موازية، لكن يشعر الناظر إلى العمل في مرحلته المتخيلة هذه بالضيْق بسبب تلك الاستطالات التي قد توحي في أحد أوجه التأويل بالسور العالي الذي لا يستطيع الفرد تجاوزه أو تخطيه على الرغم من المخيلة. غير أن نجاة مكّي لا تضيف الكثير إلى ذلك، إذ تنبت من خلفية اللوحة إلى الأسفل منها ووسطها تقريبا ثلاث شخصيات نسائية ناحلات وطويلات وبلا ملامح وأيديهن إلى الخلف كما لو أنها أيدي مقيّدة. هذه الشخصيات النسائية الثلاث تبدو جميعا أعلى من بوابة الزنزانة أو ما يوحي بها إلى يسارهن، لكن رغم أن قاماتهن تبدو أنها ما تزال تتطاول إلا أن الكتل اللونية بارتفاعها من الأسفل إلى الأعلى هي أبلغ طولا منهن. في الوقت ذاته يبدو مزاج العمل هادئ جدا، فلا ملمس خشنا على السطح التصويري وما من ضربات فرشاة قاسية أو منفعلة بل يبدو أن كل شيء قد حدث هكذا كما هو عليه. لكن في هذه اللحظة أيضا يختلف العمل عن مرحلته التجريدية الأولى ليصير عملا تجريديا تعبيريا بالأساس بقَدْرٍ من السوريالية التي تأتي ربما بسبب علاقة الشخوص النسائية بوصفها عنصرا تشكيليا ببقية العناصر الأخرى من العمل. هكذا ليصير مركز العمل متمثلا بتلك النسوة الثلاث بحالتهن تلك. هنا يتعمق إحساس المرء بالضيْق وتبدو المرأة، بدلالة النسوة الثلاث، وكأنهن يعشن في هذا الحيّز المكاني الضيِّق الذي تتناصفه العتمة والضوء. مع ذلك فردّ الفعل الوحيد هو الاستطالة التي تبدو فعلا عبثيا أمام الارتفاع الهائل بجدار الخلفية. تُرى هل ينظرن إلى الناظر إلى السطح التصويري في محنتهن الرؤيوية التشكيلية هذه أم هنّ قد استدرن بظهورهن إلى لأنهن على وشك أنْ يتلاشيْن في الجدار؟ كما فعل الألماني هيرمان هيسة في إحدى رواياته إذ رسمت إحدى شخصياته قطارا على جدران السجن فاستقلته ومضت. وهنا فما يخطر على بال المرء هو أنّ أحد امتيازات الصنيع التشكيلي لدى نجاة مكّي يتمثل في مقدرتها على صهر الذاكرة بالحلم في مرجل فني ذي درجة حرارة منخفضة إذ أنّ الانصهار العميق بينهما ينتقل إلى الناظر إلى اللوحة في هيئة إحساس بأن شيئا ما قد بدأ يتحرك في داخله وها هو يلوب. أيضا لا ينطوي العمل من جهة التأويل على فعل ثوري أو عصياني او تمردي بل هو وصف لحال بل بالأحرى وصف لما قد كان وجرى إنْ لم يكن اليوم فذات يوم. ذلك أن فعل التذكر في لوحات أخرى من “علامات فارقة” هو فعل حلمي بامتياز، حتى كأن اللوحة تتذكر ماضيها الشخصي عبر الحلم، مرورا بالفنان فمتلقي العمل بوصفه عملا فنيا صافيا. الأفاريز الضيقة للشبابيك، الزقاق الضيق حيث الخطو ضيّق، الاستطالة في أجساد نسوية تريد أن ترى وتبلغ من المكان ما هو أبعد منه، فتلك الوجوه التي تكاد تبين فيما الخلفية تميل إلى ألوان قاتمة أحيانا ولامعة وزاهية إلى حد أنها ألوان ذات طبيعة فسفورية في أحيان أخرى. العالم مغلق وتفاصيله محدودة جدا. أيضا العمل الفني في هذا المعرض، وبوصفه تكوينا يشتمل على عناصر ذات انسجام وتوافق هو صنيع النفور والتضاد في أحيان كثيرة، ليس صورا بل أخلاط صور يبدو أنها قد احتشدت في ذاكرة معذَّبة وها قد بدأت تخرج ويجري بناؤها على نحو نقيض من اللوحة التي تمّ وصفها فهي تجتمع على مزاج خشونة في الملمس وضربات منفعلة للريشة على السطح التصويري وإيقاعات لونية متناغمة في تضادها واشتقاقاتها. بهذا المعنى، ليست لوحة نجاة مكّي بلوحة تذكُّر اللون، إذ أن الأخير ضوء مثلما أنه رائحة أيضا يتلمسها المرء بالأصابع، انما هي مساحات حلمية من ذاكرة متشققة ومعذّبة إذ تجعل الناظر إلى اللوحة يتقاطع بذاكرته مع ذاكرة اللوحة فيرى فيها اقتطاعات من طفولة تخصه هو.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©