السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إسماعيل الفحيل: التراث روح الشعب الحيّة

إسماعيل الفحيل: التراث روح الشعب الحيّة
19 أكتوبر 2011 20:36
عاشقاً مدنفاً قضى عمره في رحاب التراث يطارده في كل مكان يتوقع أن يسكن فيه، جامعاً مفرداته وطقوسه وتلاوينه من أفواه الرواة والحكائين، باحثاً خلف كل قطعة ما عن قصة خفية تختبئ خلف عادة أو تطل من معتقد أو من حكاية أو أغنية أو فن شعبي، ثم منقباً في التراث ماهية وشكلاً وموضوعاً ومصطلحاً ومادة علمية ضفّر الكثير من ثيماتها في بحوث منهجية جعلته من الأعلام في الحقل التراثي، يعرفه كل مشتغل فيه أو قارئ حصيف ينهل من معينه. شهيـرة أحمـد متمنطقاً سيف الوعي ومتسلحاً بعلمه ومنهجيته ورغبته العارمة في القبض على الحكاية وضبط فوضاها ذهب الباحث الدكتور إسماعيل علي الفحيل خبير التراث في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث في دروب التراث السوداني بداية ثم الخليجي وانتهاء بالإماراتي فعاد بألق كثير يسكن روحه بعد أن منحه التراث حكمته المشتهاة. وفتح له كنوزه لينهل منها... ليتحول هو أيضاً إلى راوية يحكي لنا حكاية الذاكرة المؤثثة بكل صنوف المعرفة التراثية. الحكاية من أولها حين أنهى الثانوية العامة لم يكن التراث في باله... كان مسكوناً بالسينما والمسرح والفن عموماً لكن ظروفاً مرّ بها وطنه السودان في ذلك الوقت عطّلت حلمه السينمائي في أحضان الاتحاد السوفياتي، حيث قطعت العلاقات مع الاتحاد السوفياتي بعد عام من وصول جعفر النميري إلى الحكم عبر انقلاب عسكري. شهدت حياته هو ايضاً انقلاباً وتحول الحلم السينمائي إلى الجامعة لتحتضنه كلية الآداب وتسلمه إلى “علم الاجتماع”. من يومها أدرك أنه في رحاب عالم واسع رحيب أخذ بمجامع قلبه. لم يكتف بما حصل عليه في الجامعة. وفي السودان من اساتذة ومهتمين بالتراث. بحث عن معرفة أكثر ووجدها في مصر التي كانت تشهد اهتماماً كبيراً بالتراث في تلك الفترة. هناك قابل باحثاً وعالماً ترك أثراً كبيراً في عقله وقلبه. إنه العالم الجليل الدكتور محمد محمود الجوهري صاحب الإنتاج الضخم الذي يجمع بين الاجتماع والأنثروبولوجيا والفولكلور. واليوم، يلمع البريق في عينيه وهو يتحدث عن علاقة العشق التي تربطه بهذا العالَم... العالَم الذي فتح له أبواب المعرفة الثاوية في ممارسات الناس، وتعلم من خلاله كيف يوثق الروح الجمعية للبشر والمجتمعات... عالَم جميل، تتجدد فيه المعرفة باستمرار وينفتح على الفلسفة والأديان والثقافات وألغاز الموت والحياة ويغتني المشتغل فيه بكل إبداع... لقد أحب الفحيل حقله التراثي وتفانى في العناية به وعاش على حواف الحكايات، فعاد بحصاد وفير وجاءت سلالهً ملآى بالحكمة والغنائم المعرفية والإنسانية. خير العولمة وشرّها ? في ظل العولمة وما تمثله من تنميط ثقافي للبشر والمجتمعات، وفي عصر الانفتاح والكوكبة والقرية الصغيرة... إلخ، هل ثمة مكان للتراث؟ ? التراث في العمق هو محور حياة الإنسان، يمارسه بشكل تلقائي وعفوي، وقد رافق البشرية منذ نشأتها، ولا يمكن للإنسان أن يتخلى عنه أبداً. ربما يخطر على البال عند الحديث عن التراث بعض مظاهر الفولكور والممارسات الشعبية المتعلقة بالفنون والأمثال الشعبية او الشعر الشعبي، وهي بالطبع جزء منه، لكن هناك جوانب أخرى هي الأكثر صعوبة وأهمية والتصاقاً بحياة الإنسان كالعادات والتقاليد والمعتقدات والطقوس التي يمارسها لخوفه من الغيب والمجهول. فالإنسان الذي يستشعر غوامض الكون يقوم ببعض الممارسات بوعي أو من غير وعي للحفاظ على الجنين أو الأم، وعلى سبيل المثال الطقوس المرتبطة بالوفاة في حوض النيل تعود إلى ما قبل الفراعنة. بل إن الإنسان في خوفه من المجهول والغيبي يقوم بممارسات قد تكون مأخوذة من ديانات أخرى غير تلك التي يدين بها (بعض المسلمين يرسمون علامة الصليب على جبين المولود) وهناك من يضع تحت سرير السيدة النفساء مصحفاً أو سكيناً أو حديدة لكي تطرد الأرواح الشريرة... هذه الممارسات المتعلقة بالموت والحياة تتسم بالاستمرارية ولا تتغير ولا تختفي مهما تبدلت المجتمعات وتغيرت وتقدمت (قد تجدين شخصاً يقود سيارة بورش ويضع فيها خمسة وخميسة او تميمة أخرى). أما في ظل العولمة فقد أخذت المسألة منحىً آخر تمثل في رغبة المجتمعات في الحفاظ على ذاتيتها وخصوصيتها الثقافية نظراً لأن الهجمة كبيرة وشرسة. وربما تصب بعض جهود توثيق التراث وتسجيله والحفاظ عليه في المجتمعات المهددة ثقافياً في هذا الإطار، وتأتي كآلية من آليات الدفاع عن الذات أمام التغيرات الكاسحة التي تشهدها الدول والمجتمعات. بالطبع، التراث في جانب منه حامل لهوية المجتمع وثقافته، وإذا أردنا أن نربي جيلاً فاعلاً علينا أن نربطه بتراثه وأن نحافظ على روح التراث حيّة بين ظهرانيهم. في الحقيقة إن العولمة من حيث لا تقصد ساهمت في تمسك المجتمعات بخصوصيتها الثقافية وتراثها. ومن الدراسات أو المقاربات التي أعجبتني على هذا الصعيد ما كتبه الدكتور عبد الله علي إبراهيم استاذ التاريخ والتراث بجامعة الخرطوم عن الاستضعاف، حيث قال أننا ننظر إلى تراثنا بنوع من الدونية ونعتبره أقل أهمية أو تحضراً من الثقافة الغربية (الراقية)، في حين أننا في العالم العربي نتوفر على ثقافة وتراث غني بالقيم والجماليات التي يمكنها أن تقدمنا الى الغرب في شكل حضاري ومن شأنها أن تغني معرفة الآخر بنا. بيد أن من المهم الإشارة هنا إلى أن العولمة ليست شراً مطلقاً وليست خيراً مطلقاً، وكما تتوفر على بعض المظاهر السلبية تتوفر أيضاً على الكثير من الإيجابيات والقيم التي أغنت الإبداع البشري. ومن وجوهها الخيرة أنها أتاحت فرصة لنشر التراث والترويج له بشكل غير مسبوق في ظل عالم اتصالي اختزلت فيه الحدود وتقاربت المسافات وباتت الكرة الأرضية بفضل ثورة الاتصال مفتوحة على مصراعيها معرفياً. ? ماذا بخصوص الأقليات التي تخشى على تراثها من الاندثار أو يتعرض لمحاولات محوه، هل لها متسع عند اليونسكو بحيث يمكنها تسجيله؟ ? اتفاقية 2003 هي اتفاقية مع الدول، لكن اليونسكو مهتمة بالأقليات وبالحفاظ على تراثها ولغاتها حيث هناك لغات مهددة بالزوال. ولدى اليونسكو ثلاث قوائم هي: قائمة التراث الذي يحتاج الى صون عاجل، والقائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، وسجل أفضل الممارسات في مجال الصون. والأولى مهمة جداً خاصة للجماعات التي تشعر أن ثقافتها مهددة وتتعرض للذوبان، على الرغم من أن بعض علماء الاجتماع يرون ان ثقافة الجيتو ربما تؤدي الى المحافظة أكثر على التراث لأن الثقافة لديها ميكانيزمات للدفاع عن نفسها، وليس بعيد نموذج المهاجرين الذين يأخذون معهم ثقافتهم الى مغترباتهم ويمارسون عاداتهم وتقاليدهم ويشكلون مجتمعات صغيرة داخل المجتمع الكبير. ويمكن لأي أقلية ان تسجل تراثها لكن لا بد من موافقة الدولة التي تعيش فيها. وفي حال النزاع بين دولتين على تراث أقلية ما تتدخل اليونسكو لتقريب وجهات النظر أو يسجل التراث باسم الدولتين وهو الحل الذي تتفق عليه الدول في الغالب. حوار وسلام ? لا يذكر التراث المعنوي للبشر إلا ويحضر معه التنوع الثقافي ودروه في إغناء الحوار بين الثقافات والتقريب بين الشعوب، كيف؟ ? هذا أحد المحاور الأساسية التي تركز عليها اليونسكو، وهو هدف من أهداف اتفاقية 2003 لصون التراث غير المادي. ومن دون أدنى شك يمكن للمعرفة المتحققة من معرفة التراث أن تنجز نوعاً من التقارب بين الشعوب. إن الإنسان عدو ما يجهل ومعرفة الآخر تدفع بالمرء الى احترامه. لننظر الى افريقيا مثلا. إنها أقل حظاً على المستوى الاقتصادي من الدول الأوروبية لكنها أكثر غنى على المستوى الثقافي لجهة التراث والفن التشكيلي. كذلك في دول شرق أسيا ومنها كمبوديا التي تتميز بطرازها المعماري البديع الذي يتميز بجمالية قد لا تتوفر في العمارة الأوروبية... والشواهد كثيرة. أما المسألة الثانية فهي السلام العالمي فمن شأن التراث أن يسهم في تحقيق السلام بين الشعوب عبر توطيد معرفتها ببعضها البعض. وتعمل اليونسكو على إيجاد الشروط الملائمة لإطلاق حوار بين الحضارات والثقافات والشعوب على أسس احترام القيم المشتركة. فمن خلال هذا الحوار، يمكن للعالم أن يتوصل إلى وضع رؤى شاملة للتنمية المستدامة، تضمن التقيد بحقوق الإنسان، والاحترام المتبادل، والتخفيف من حدة الفقر. غربلة ? ما دمنا في إطار الحديث عن دور التراث في السلم العالمي والتقريب والحوار وغيرها من قيم العصر، ثمة في التراث ما لا يناسب هذه القيم، هل نجمع التراث كله بكل قيمه السلبية والإيجابية أن نغربله لكي نقدمه للآخر؟ ? هنا لا بد من الانتباه الى مسألتين أو مرحلتين: الأولى هي عملية الجمع والتوثيق وفيها لابد من جمع التراث كله بصرف النظر عن موقفنا منه او مدى ملاءمته للعصر أو ما يحتويه من سلبيات أو (أشياء فالتة)، لأنها الحقيقة في حياة الناس. أما الثانية فهي الفرز والانتقاء، وتقع مسؤوليتها على عاتق مراكز البحوث التي تقوم بنشر وترويج التراث، إذ ينبغي انتقاء الجوانب الإيجابية. في التراث كما يعرف الجميع بعض الأمور التي تتعارض مع منطق العصر أو ربما مع الهدي الديني الصحيح أو الدعوة الى السلام. ربما تحمل في بعض الأحيان دعوات فئوية أو أقلوية أو طائفية أو تثير نزعات ونعرات انتقامية يفضل عدم إذكائها أو إحيائها بعد أن تجاوزها المجتمع أو اندثرت أو تصليب عودها بعد أن ضعفت. في تراثنا جوانب سلبية تتعارض مع حاجتنا الملحة الى النهوض الحضاري في هذه الفترة كتشجيع التواكل او الخضوع للأقوى أو الانسحاب من الفاعلية في الحياة المجتمعية، في حين ان الإنسان ينبغي أن يكون عزيزاً كريماً. لكن هناك ايضاً الكثير من الجوانب الإيجابية التي يمكن نشرها والترويج لها كالفضائل والقيم الأخلاقية والمثل العليا وكلها موجودة في التراث. تجربة الإمارات ? أين تقف الإمارات على هذا المستوى، في أي مرحلة؟ ? ليس من الصعوبة ملاحظة التقدم الكبير الذي حققته الإمارات على صعيد حفظ التراث وصونه والعناية به. وليس من قبيل المديح القول إن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث قطعت شوطاً كبيراً جداً في الاتجاه العلمي والعملي، واستطاعت في فترة وجيزة أن تجمع تراث معظم مناطق الإمارة. لدينا الآن دراسات تجاوزت الثلاثمئة (300) دراسة، وفي مجال العناصر المنفردة وصلنا الى أربعة آلاف عنصر، فضلاً عن 35 مخطوطة جاهزة للنشر، و14 ألف صورة مختلفة توثق مفردات التراث، وعشرة أفلام تسجيلية، وعدد كبير من الأشرطة ولا بد من الإشارة الى أن إدارة التراث المعنوي ليست وحدها في الميدان فإدارة التخطيط الاستراتيجي وإدارة الاتصال والبيئة التاريخية وإدارة الثقافة والفنون والمكتبة الوطنية وأكاديمية الشعر التابعة للهيئة جميعهم يعملون ايضاً في هذا المجال. لقد أنشأت الهيئة الفرقة القومية للفنون الشعبية لكن أكثر وأبرز جهودها تتمثل في مشروعاتها مع اليونسكو حيث قامت بدور مهم حين ترجمت مطبوعات اليونسكو وصفحتها على الإنترنت الى العربية، وهو إسهام يفيد منه كل العرب. توحيد المصطلح ? تتعدد المصطلحات التي تستخدم في التعبير عن التراث المعنوي من قبيل التراث الشعبي والمأثورات الشعبية والتراث اللامادي والفولكلور وغير ذلك، هل توجد فروق بين هذه المسميات؟ ? شهد هذا العلم تطوراً مستمراً، وفي كل مرحلة من مراحله كان يشيع له اسم. في الجهود المصرية الأولى شاع استخدام مصطلح “الفنون الشعبية” لارتباطه بالقصص الشعبي والسير الشعبية والرقص الشعبي، أما في السودان فشاع اسم فولكلور لأنه ارتبط بالجامعات وهو ما درجت عليه المدارس الأوروبية والمدرسة الأميركية في علم الأنثروبولوجيا الثقافية. وفي فترة لاحقة سمي بـ (المأثورات الشعبية) وقد استحدث هذا المصطلح من قبل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وتبناه أيضاً مركز التراث الشعبي في قطر كترجمة لمصطلح الفولكلور، يؤخذ على هذا المصطلح أنه يوحي بأن التركيز ينصب على الآداب الشفاهية ويغفل جوانب أخرى من التراث.فيما سمته اليونسكو (غير مادي) فترجمه إخوتنا في المغرب العربي باسم التراث اللامادي لأن ال التعريف لا تدخل على لفظة غير. ونحن في الإمارات فكرنا في مصطلح (التراث المعنوي) لقناعتنا بأنه الأكثر دقة فضلاً عن دلالات الاسم التي توحي بالبعد التاريخي والتناقل والتوريث عبر الأجيال وتتسق مع الأهداف المتوخاة منه والرؤى الكبرى التي تربض ورءاه، فهو موجود في التراث العربي ويفيد معناه دلالة التواصل والاستمرارية. أما عن الفروق فثمة فروق دقيقة بين المصطلحات. نحن نفضل (تراث) أكثر من (مأثورات وفولكلور) ذات الأفق الدلالي الضيق، و(موروثات) التي تتفق لغوياً مع مصطلح التراث لكن الفرق يكمن في أن التراث لا يزال يؤدي دوراً وظيفياً في الراهن خلافاً للموروثات الشعبية التي يفترض أنها فقدت دورها الوظيفي، وباتت من الماضي. ولا أذيع سراً حين أقرر حقيقة أن السمعة الجيدة للإمارات ولهيئة أبوظبي للثقافة والتراث في المحافل الدولية، وما حققته في غضون سنوات قليلة جعلها تتبوأ مكانة محترمة جداً لدى الباحثين. لقد اتصلت بنا فرنسا من بعد كوريا ودول عربية وأجنبية أخرى منذ وقت مبكر للاطلاع على تجربتنا خاصة بعد نجاح الإمارات في قيادة الجهود الدولية لتسجيل الصقارة، وتقديمنا ملفاً يعتبر الأكبر والأفضل في تاريخ اليونسكو، وأبلغتنا فرنسا مؤخراً أن هناك مؤتمر سيعقد في فبراير المقبل يناقش المصطلح. من جهتنا ننوي دعوة الدول العربية الى ملتقى في أبوظبي - إذا سارت الرياح وفق ما تشتهي سفينتنا - لمناقشة المصطلح والاتفاق على مسمى او مصطلح بعينه لتقديمه الى اليونسكو. علم بحجم الحياة ? غالباً ما ينظر الى التراث نظرة قاصرة وربما دونية ولا يرى فيه البعض سوى بعض الفنون والمظاهر الفولكلورية... وفي إحدى محاضراتك بدا أن التراث المعنوي هو علم الحياة حيث يشمل كل سلوك تقوم به الجماعة، بل إنه يأخذنا الى الدين والفلسفة والأسطورة والأحلام، هل يعني هذا أن التراث المعنوي يضم ايضاً المنظومة الفكرية للمجتمع؟ ? بالطبع، المفهوم واسع ويغطي جانب المأثورات الشفاهية كلها بما فيها اللغة لأنها وعاء ناقل للتراث. ويعرف قاموس إكسفورد كلمة (heritage) بأنها “تلك الأشياء التي انتقلت لنا من الأجيال السابقة كالأعمال الفنية والمنجزات الثقافية والفولكلور”، وتقابله في اللغة العربية المصطلحات الأربعة التالية: (إرث، تراث، تركة، ميراث) وكلها ذات معنى واحد. ويقودنا تتبع هذه المفردات في القرآن الكريم والحديث الشريف ولدى اللغويين العرب إلى أن كلمة تراث تعني “ما يخلفه الرجل لورثته” بعد موته، ويقصد بها بشكل خاص ما يتركه الآباء والأجداد والأمهات والجدات وبقية أفراد المجتمع من أفكار وقيم وفنون ومنقولات كالملابس والأدوات والمباني وغيرها. ومن المستقر عليه أن التراث الثقافي غير المادي (المعنوي) يشمل “الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات - وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية – التي تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحياناً الأفراد، جزءاً من تراثهم الثقافي”، وهو تعريف اليونسكو. إلى ذلك، ينمي هذا التراث الثقافي غير المادي المتوارث جيلاً عن جيل، لدى الجماعة الإحساس بهويتها والشعور باستمراريتها. وتتسع مجالات التراث المعنوي اتساع الممارسة الحياتية ذاتها، فهي تشمل التقاليد وأشكال التعبير الشفهي (الأدب الشعبي)، ونقصد بها كل الجوانب الإبداعية المنطوقة (الشعر والأمثال والألغاز والأحاجي والحكايات والأساطير والأغاني والنداءات والمعاضلات اللسانية وأسماء الأماكن والمخلوقات والأشياء ومصطلحات المهن واللهجات الإقليمية وغيرها)، وفنون وتقاليد أداء العروض (الفنون الشعبية والموسيقى والأغاني الشعبية والآلات الموسيقية والرقص الشعبي والأعمال الدرامية والألعاب الشعبية)، والممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات (العادات والتقاليد) ومنها عادات دورة الحياة، الميلاد والتنشئة والزواج والوفاة، والأعياد والمناسبات المرتبطة بتواريخ وأزمان معينة في السنة مثل مواسم الغوص والقفال والحصاد وغيره، والعادات المرتبطة بأحداث كبيرة كالأعياد الدينية والقومية والاحتفالات التي تضم مجموعة كبيرة من الناس، والعادات المرتبطة بمعتقدات شعبية). كما أن المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون (المعتقدات والمعارف العامة) تعتبر ضمن المجالات التي يعنى بها التراث المعنوي، وهي تضم المعتقدات والمعارف الشعبية والأولياء والصالحين والطب الشعبي والسحر والأحلام والكائنات فوق الطبيعية والروح في المعتقد الشعبي والمعتقدات والمعارف المتصلة بالإنسان، والحيوان، والنبات، والأحجار والمعادن، والأماكن، والأنطولوجيا الشعبية (فكرة الإنسان عن الأرض والسماء والكواكب)، والمعتقدات والمعارف المتصلة بالألوان والأعداد والنظرة الى العالم، وأوائل الأشياء وأواخرها، والاتجاهات. ومن مجالاته أيضاً المهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية: الثقافة المادية، العمارة الشعبية، الحرف والصناعات، آلات العمل، الأدوات والأواني المنزلية، الأشغال اليدوية على الخامات المختلفة، الأزياء والزينة والتشكيل الشعبي والألعاب والرياضات الشعبية. لكن من الضروري ملاحظة ان هذه التقسيمات تتداخل في معظم الأحيان، وهي تتم لغرض الدراسة فقط فمعظم عناصر التراث تكون جزءاً من الحياة الطبيعية أكثر منها جزءاً من التراث المصنف، كما أننا مهتمون بالتاريخ الشفهي غير المدون إذ هناك فترات صمت التدوين فيها عن بعض الوقائع ولا بد من جمعها. ? ما هي مشروعاتك الجديدة؟ ? هناك مشروع بدأته من قطر وأعكف حالياً على إتمامه وهو موسوعة التراث في كتب التراث العربي القديم. بالإضافة الى مجموعة من أدلة العمل الميداني بالتعاون مع الباحثة شيخة الجابري انتهينا من ثمانية منها وسوف تأخذ طريقها الى النشر، لكن العمل في إعداد البحوث والإشراف على الباحثين وإعداد قوائم الجرد وغيرها من مشروعات الهيئة لا تترك لي الكثير من الوقت لإنجاز مشروعات خاصة جديدة برغم كثرة الأعباء فالعمل في التراث ممتع، وقد فتحت لنا الهيئة أبواباً رحبة نحو العالمية. ? بعد هذه السنوات ما الحكمة التي تعلمتها من التراث؟ ? ثمة حكم كثيرة وعبر أكثر لكن أهم ما خرجت به من عملي في حقل التراث أنني تخلصت من أي أفكار مسبقة حول العرق او الجنس او الدين. في عالم التراث لا مجال للكراهية أو العنصرية بل للحب فقط. التراث علمني أن أحب الناس، كل الناس، وبخاصة زملائي في العمل فالتراث قائم على الحب. لا مجال فيه للمنافسة لأنه كبير وواسع ويمكنه أن يمنح لكل شخص غايته ويحقق له مراميه. كل باحث يمكنه أن يدخل إليه من الباب الذي يريده لأن مداخله كثيرة وأبوابه متعددة. من أي باب دخلت إليه ستجد لديه ما ينتظرك من المعرفة. التراث علمني أن لا أضع الناس في تصورات أو قوالب أخلاقية. كنا نقول إن الكرم صفة عربية فوجدت أن بعض القبائل السودانية غير العربية تتمتع بكرم مذهل. التراث علمني أن أرى كل مجتمع أو ثقافة في ضوء الحقيقة لا في صورة ما رسم عنه مسبقاً من صور نمطية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©