الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لائحة اتهام صينية

لائحة اتهام صينية
16 أكتوبر 2013 22:33
تكاد شهرة ما جيان Ma Jian، كروائي صيني، تعادل شهرته كمعارض سياسي لم يتوقف، وعلى مدار أكثر من ثلاثة عقود، عن انتقاد سياسات الصين، وبخاصة الداخلية، بل لا يتردد الروائي المنفي بعيداً عن الصين، في تكريس إبداعاته، الممنوعة في الصين، لتكون في خدمة مواقفه وأهدافه كمعارض. روايته الأخيرة “الطريق المظلم” The Dark Road، لم تخرج عن هذا السياق، وتبدو كلائحة اتهام مكونة من 368 صفحة، باللغة الإنجليزية في قضية شائكة عنوانها الرئيسي هو “سياسة الطفل الواحد” المطبقة في الصين منذ عام 1978، وهي السياسة التي أدت إلى عشرات الملايين من حالات الإجهاض والتعقيم القسريين، وخاصة في المناطق الريفية وبين الفقراء، وتتناولها رواية “ما جيان” في سياقات ومشاهد تشيع أجواء قاتمة غاضبة كئيبة، وإلى حد يجعلها مغايرة لرواياته السابقة التي يغلب عليها طابع السخرية والتهكمية اللاذعة. شباب مريب ممنوع ولد “ما جيان” في عام 1953، وفي بداية ثمانينيات القرن الماضي كان واحداً من الشباب المثير لريبة السلطات في الصين باعتباره ينتمي، كرسام ومصور، إلى حركة الفنانين المستقلين “المنشقين”. كان وقتها يعمل مصوراً في اتحاد التجارة الصيني، وعندما أصبح موضع شك من رؤسائه باعتباره من “الملوثين روحياً” ترك وظيفته وسافر إلى هضبة التبت، وعندما عاد إلى بكين أصدر أول مجموعة قصصية له بعنوان “أخرج لسانك” Stick Out Your Tongue، في عام 1987، وفي العام نفسه أصدر مجموعته القصصية الثانية “حياة كلب” A Dog Life. في عام 1989 أصدر “ما جيان” أول رواياته بعنوان “برادو”، وجاءت ثاني رواياته بعد عامين بعنوان The Noodle Maker “صانع المكرونة”، ثم الثالثة The Nine Crossroads أو “مفترق الطرق التسعة” في عام 1993، وبعد ثلاثة أعوام أصدر مجموعته القصصية الثالثة بعنوان “الرثاء” The Lament. بعد توقف دام ما يقرب من 7 سنوات عاد “ما جيان” بروايته الرابعة “غبار أحمر” Red Dust عام 2003، وكانت “غيبوبة بكين” أو Beijing Coma، عام 2009، هي روايته قبل الأخيرة. ولم تسلم أيا من أعماله القصصية والروائية من الهجوم الحزبي والمنع والمصادرة، ولم يسلم هو من النفي الإجباري في الداخل، أو الاضطراري إلى خارج البلاد. في مجموعته القصصية “أخرج لسانك”، عن تجربته في هضبة التبيت، عام 1987، بدا الرواي فيها ساذجاً وسط سكان يغلب عليهم التجهم، يتعاملون معه باحتقار ولا مبالاة، ويقاومون السلطات الصينية بالتشبث بطقوس قديمة. لم يكن الرواي منحازاً لأي من الجانبين، ووصفت مجلة “أدب الشعب” صاحب المجموعة بأنه “أحد الكتاب المعاصرين” لكن “إدارة الدعاية المركزية”، في الحزب الحاكم، شجبت الكتاب باعتباره فشل في تجسيد التقدم الذي تحقق في التبت تحت حكم الصين واعتبرته من الأعمال التي لا قيمة لها وأمرت بإتلاف نسخه، ثم أطلقت حملة قومية ضد “الليبرالية البرجوازية”. وفي مواجهة المنع والإتلاف قرر “ما جيان” أن ينشر روايته “صانع المكرونة” عام 1991، باسم مستعار، وكانت في مجملها عبارة عن هجاء وانتقاد لأساليب الحياة الصينية المعاصرة. ولأن الرقابة وقتها كانت قد هذبت من معاييرها واعتمدت أسلوب التدخل في النصوص وليس المنع أو الاعتقال أو الطرد والترحيل، فقد قامت بإجراء تعديلات تحريرية على نصوص الرواية، قبل النشر، لكن السلطات اكتشفت أن “ما جيان” هو المؤلف، فأمرت بإتلاف ما طبع من نسخ. كان “ما” وقتها يعيش في هونج كونج، وكان لا يزال يسعى، فيما يكتب، إلى القارئ الصيني داخل الصين، لكنه، وعقب مغادرته إلى ألمانيا، ثم الإستقرار في لندن، بدا في “غيبوبة بكين” وكأنه يخاطب القارئ الغربي، برواية بها لمسات من الخيال الجامح و”الفانتازيا”، وفيها، كما في روايته “غبار أحمر” يبدو وكأنه يكرس الأدب والإبداع الأدبي لفضح ماكينة الدعاية الحزبية الصينية. وتكاد “غيبوبة بكين” أن تكون عملاً من أعمال الواقعية الوثائقية، المكتوبة بلمسة من الفكاهة السياسية، كي تروي ما جرى في مجزرة ميدان “تيانانمين” الشهيرة في بكين، من وجهة نظر رجل راح في غيبوبة نتيجة إصابته برصاصة في رأسه خلال الصدامات الدامية مع قوات الأمن. ولم تكن هناك فرصة، بطبيعة الحال، لطباعة الرواية في الصين، حتى وإن لم يكن “ما جيان” من الممنوعين المنفيين، لكن وجوده خارج الصين مكنه، وبعد نشر الرواية، من القيام بحملة موازية في العديد من الصحف البريطانية كان الهدف منها إحداث أكبر قدر ممكن من الحرج، والدعاية المضادة للدعاية التجميلية، التي أدارتها بكين، والصين على أبواب أوليمبياد احتضنتها عام 2008. دهس الأجنة وقتلها في السادس من فبراير الماضي، تناقلت الصحف وأجهزة الإعلام نبأ مقتل رضيع في الصين في مشاجرة بين والده ومسؤولي تنظيم الأسرة. وجاء في التفاصيل أن الرضيع البالغ من العمر 13 شهراً، دهسته شاحنة تابعة لمسؤولي تنظيم الأسرة كانوا قد دخلوا إلى منزل أسرة في بلدة “مايو” في إقليم تشيجيانغ الريفي في دلتا نهر يانغتسي، لاعتقال والدة الرضيع لأنها أم لطفلين وولدت الثالث دون تصريح، وفي مخالفة صريحة للقوانين ورفض الأسرة دفع غرامة قدرها 30 ألف “يوان” صيني. وقد دخل الأب في مواجهة مع مسؤولي تنظيم الأسرة، وكان يحمل الرضيع وقتها، وعندما تحولت المواجهة إلى مشاجرة سقط الرضيع فدهسته الشاحنة. في روايته “الطريق المظلم”، يرسم “ما جيان” بالكلمات مشهداً مشابها لكنه بالغ البشاعة وأشد قسوة، وإلى درجة مثيرة للغثيان، حيث تتمثل لنا الأم راقدة مقيدة، في حالة إعياء إلى طاولة، بعد إجهاض قسري، ترقب الطبيب وقد أمسك بمولودها الذكر من رقبته. كان المولود يرفس بساقيه الصغيرتين والطبيب يخاطب ضابطة تنظيم الأسرة قائلاً: “هذا الشىء الضئيل العنيد لا يزال حياً، ماذا نفعل معه؟” فترد عليه قائلة: “أخنقه. سنسجله باعتباره ولد ميتاً. لا تمسح الدماء عن وجهه، الأطفال غير القانونيين ليس لهم أن نغسل وجوههم. اضغط على رقبته، استمر في الضغط. نعم، هكذا”. كانت “الطريق المظلم” قد نشرت باللغة الصينية نهاية العام الماضي (2012)، وصدرت نسختها الإنجليزية في صيف العام الجاري، ومن المستبعد أن يكون “ما جيان” قد استشرف المستقبل في رسمه لمشهد مشابه لتفاصيل النبأ الذي بثته وكالة الأنباء الصينية عن الرضيع الذي دهسته شاحنة ضباط تنظيم الأسرة في فبراير الماضي، والأرجح أنه كان يجسد في الرواية مشهداً لوقائع مأساوية أصبحت معتادة على مدار أكثر من ثلاثة عقود، ومنذ البدء في تطبيق سياسة الطفل الواحد في أرجاء الصين الواسعة. واللافت حقاً، أن “ما جيان” أراد أن يمهد القارئ لمشهد قتل الجنين بالضغط على رقبته، بمشهد تطابق بشكل تام مع نبأ دهس الطفل الرضيع، رواه باعتباره حدث في قرية أم الجنين المصغوط على رقبته، الفارق الوحيد أن المدهوس في النبأ كان رضيعاً عمره 13 شهراً، والمدهوس في المشهد التمهيدي كان جنيناً مجهضاً من رحم أم فلاحة من أهالي القرية نفسها التي جاءت منها أم الجنين الذي قتل ضغطاً على رقبته. لا فكاهة سياسية تهكمية هنا بل أجواء قاتمة تحيط بفصول رواية “الطريق المظلم” التي نسجها “ما جيان” حول قصة الفلاحة “ميلي” وزوجها المدرس “كونجزي” اللذين هربا بعيداً عن سلطات تنظيم الأسرة في قريتهما، للحفاظ على حمل “ميلي” التي أنجبت إبنه وتريد ولداً إرضاء لزوجها. الطفل الإضافي عالي التكلفة وميلي وزوجها من الفقراء ولم يكن أمامهما سوى الالتحاق بمجتمع من المنبوذين الذين يعيشون في قوارب يطلقون عليها اسم “قشر البيض” وكأنهم مجتمع من الرحل عبر نهر يانغتسي. لكن الشرطة تعتقل ميلي قبيل موعد الولادة، ثم نراها مربوطة إلى الطاولة ترقب جنينها المجهض حياً، تحاول أن تصل إليه بعينيها لكنها سرعان ما تدرك، بفعل الإعياء، أن كل ما تستطيع أن تراه هو اللون الأحمر. كتب “ما جيان” روايته من واقع شهادات جمعها عندما سافر داخل الصين متظاهراً بأنه عامل تراحيل، وكان ترحال “ميلي” وزوجها عبر النهر في إقليم “غوانغدونغ” فرصة لكي يطلق لخياله الإبداعي العنان استنكاراً، ليس فقط لسياسة الطفل الواحد وطرق معالجة مشكلة التضخم السكاني في الصين، بل أيضاً لحالة دلتا النهر الشهير المختنقة بالنفايات الإلكترونية والصناعية المسممة للهواء والقاتلة لكل خضار وحياة. ويظل القارىْ يلهث وراء نهاية سعيدة لا تحدث في رواية سردها محكم لكنه يخدم وجهة نظر سياسية، وتبدو شخصياتها وكأنها تدلي بشهادات موثقة معلوماتها وبشكل يبدو في بعض فصولها وكأنه منقول عن إحصاءات عن نصيب منطقة جنوب الصين من سموم العالم ونفاياته الإلكترونية التي تشحن إلى هناك، وعن المصانع التي يعمل بها مهاجرون لا يحصلون إلا على دولار ونصف دولار في اليوم الواحد. ويرد “ما جيان” على مثل هذه الملاحظات قائلاً: “طاغوت الدعاية الصينية لابد وأن يواجه بدعاية شديدة مساوية”. ترجمت الرواية إلى الإنجليزية فلورا دريو Flora Drew، وأصدرتها دار “شاتو آند ويندس”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©