الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عاشق النصرانية

عاشق النصرانية
16 أكتوبر 2013 22:33
إلى الموت رُجعى بعد حينٍ فإن أمت فقد خلدت خلد الزمان مناقبي وذكري في الآفاق طار كأنهُ بكل لسانٍ طيب عذراءَ كاعبِ ففي أي علمٍ لم تبرّز سوابقي وفي أي فنٍ لم تبرِّزْ كتائبي يذكر في هذا الشعر بما كان يفعله أبو الطيب المتنبي، حتى وهو يمدح سيف الدولة أو أي ممدوح آخر، فهو يعتز بنفسه، يفتخر بفضله ولا يرى غير نفسه في ميدان الإبداع والعلم والفروسية. الأبيات التي أثارتني وجعلتني أفتش عن صاحبها في مراجع الشعر والأدب والتاريخ الأندلسي، هي لشاعر يدعى ابن الحداد القيسي.. وعلى ما يبدو فإن ابن الحداد هو لقب لُقب به الشاعر لأن أباه كان حداداً، كما لُقب شاعر آخر بابن اللبانة لأن أمه كانت تبيع اللبن. الاسم الحقيقي لابن الحداد القيسي هو محمد بن أحمد بن عثمان القيسي أبو عبد الله. لا يذكر أي مرجع سنة ميلاده ولكنهم يسجلون أنه توفي حوالى سنة 480 هجرية الموافق لسنة 1087 ميلادية. ومع أنهم لا يعرفون سنة ميلاده إلا أنهم يؤكدون أن مسقط رأسه أو مكان ميلاده كان وادي آش. ولكنه عاش في المرية واختص بالمعتصم محمد بن معن بن صمادح. وفي عام 461 هجرية سار إلى سرقسطة فأكرمه المقتدر بن هود، وبعده ابنه المؤتمن، غير أن ابن الحداد عمل بقول الشاعر: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول فعاد إلى المرية وإلى مدح المعتصم، وفيها قضى آخر أيامه. تمكنت من العثور على ديوانه ولكنني لم أستطع الحصول على كتابه “المستبسط في العروض” على الرغم من أنني حاولت بكل جهد ممكن، لأنني فعلاً أريد أن أطلع على ما أضافه ذلك الشاعر للإيقاعات الشعرية أو الأوزان الخليلية المعروفة، فلقد كان العصر الأندلسي هو عصر التجديد في الشعر والأدب العربي. ولكن وأعترف هنا، أن ما أثارني في هذا الشاعر لم يكن جزالة شعره، ورحابة أفقه، وسلامة لغته، ما أثارني حقيقة كان قصة حب جميلة، لم يعن بها جميع من جمعوا شعره ودونوا سيرة حياته. أحب ابن الحداد القيسي فتاة أندلسية، لم تكن مسلمة، وعلى الأرجح كانت إسبانية تدين بالمسيحية. وعلى الرغم من الانفتاح الفكري والديني الذي كان لدى العرب المسلمين في الأندلس، إلا أن ابن الحداد القيسي عمد إلى إخفاء ذلك الحب وكتم اسم تلك الفتاة التي عشق وأعطاها اسماً رمزياً أقرب إلى الشعر منه إلى الحقيقة.. فقد سماها نويرة. ونعرف من خلال إحدى قصائده قصة لقائه بتلك الفتاة المسيحية، كان ذلك اللقاء في الكنيسة، رآها بين قومها تصلي فأذهله حسنها وذهب بعقله ذلك الوجه الجميل.. يقول: قلبي في ذات الأثيلات(1) رهين لوعاتٍ وروعاتِ (2) فوجِّها نحوهم إنهم وإن بغوا(3) قبلة بغياتي(4) وعرّجا يا فتى عامرٍ بالفتيات العيسويات فإن بي للروم روميةٍ تكنس(5) ما بين الكنيسات وقد تلوا صحف أناجيلهم بحسن ألحانٍ وأصواتِ وناظري مختلسٌ لمحها ولمحها يضرم لوعاتي وفي الحشى نارٌ نويرية علقتها منذ ستياتِ لا تنطفئ وقتاً وكم رمتها بل تلتظي في كل أوقاتي إذن وقع هذا الشاعر الأندلسي في غرام تلك الإسبانية، ولم يستطع أن يتخلى عنه، أو يتجاهله.. أحب ابن الحداد القيسي نويرة بكل قلبه، ولكنه على ما يبدو لم يستطع أن يقنعها أو يقنع أهلها بالزواج منه، بسبب اختلاف الدين.. وهذه المعاناة انعكست في شعره وأثارت بي اهتماماً أكثر بكثير من اهتمامي بشعره المادح، لأنني أدرك أن أصدق الشعر هو الناتج عن معاناة وعن تجربة حقيقية. اسمعه وهو يخاطبها شارحاً معاناته: حديثك ما أحلى فزيدي وحدثي عن الرشأ(6) الفرد الجمال المثلث ولا تسأمي ذكراه فالذكر مؤنسي وإن بعث الأشواق من كل مبعثِ وأَقسَمَ بالإنجيل إني لمائنٌ(7) وناهيك دمعي من محقٍ مُحنّثِ ولابد من قصي على القس قصتي عساه مغيث المدنف(8) المتغوث فلم يأتهم عيسى بدين قساوةٍ فيقسو على مغنى ويلهو بمكرثِ(9) سيصبح سرّي كالصباح مشهراً ويمسي حديثي عرضة المتحدثِ وإذا كان ذلك الحب الكبير قد بدأ بنظرة للشاعر لذلك الوجه الجميل.. أو ذلك الخد الوردي، فإن تلك النظرة قادته إلى العذاب الذي ينتهي بالموت، وأجمل ما قاله في هذا المعنى: وقد جرَّحت عينايَ صفحة خده على خطأ فاختار قتلي على عمدِ ولكن لماذا لم يصرح ابن الحداد بإسم من أحب؟ وجهت إلى شاعرنا هذا السؤال، فجاءني في الخيال ردّه. ـ ولماذا يهمكم الاسم طالما عرفتم من هي ومن قومها؟ ? قيس صرح بإسم حبيبته ليلى، ونسب إليها. ـ أنا لم أشأ أن أنسب إلى حبيبة كما نسب جميل إلى بثينة وكثير إلى عزة وقيس إلى لبنى. ? ولكنني أنسبك إلى نويرة. ـ بل تناديني بنسب آخر.. فأنا معروف بابن الحداد، وهذا يكفي. ? ألم يصل حبك لها ما وصل إليه حب جميل إلى بثينة؟ ـ بل لعله فاق ذلك الحب.. ولكن زماننا لم يكن يعطي للحب ذلك القدر وتلك القيمة الذي كان يعطيها زمن أولئك الشعراء.. على أي حال اسمع هذه الأبيات فقد يكون فيها الجواب الشافي والوافي والكافي. ? تفضل: والنفس فيكَ ثبار الحب(10) طالبة إن كانت العين تجني منك أنوارا أخفي هواك وأكني عنه نورية وهل يلام عميدُ القلب إن وارى يا مشبه الملك الجعدي تسمية ومخجل القمر البدري أنوارا ? ولكن لم نعرف بعد اسمها الحقيقي ـ الاسم الحقيقي هو جميلة ? وماذا تقصد بالملك الجعدي.. الكريم أم البخيل؟ ـ البخيل طبعاً.. لأنها كانت بخيلة لا تعطي للمحب ما يريد.. ? عل المعاناة التي مررت بها وعشتها كانت بسبب الاختلاف في الدين. ـ كان ذلك الخلاف من أهم أسباب ذلك العذاب الذي شعرت به ولكنه لم يكن كل شيء.. كانت هي نفسها صعبة، وغير متاحة.. وهذا ما أجج نار الحب في قلبي وشعري معاً. ? ماذا قلت في ذلك يا صاحب نويرة؟ ـ بل قل يا مجنون نويرة.. هذا أقرب إلى ما كان ? أسمعني أبياتاً أخرى ـ في حب نويرة.. أم مدح المعتصم؟ ? دعنا الآن في حب نويرة - قلت: إن المدامع والزفير قد أعلنا ما في الضميرْ فعلام أخفي ظاهراً سقمي عليَّ به ظهيرْ هب لي الرضى من ساخطٍ قلبي بساحته أسيرْ ? زدني أيها العاشق الجميل استودع الرحمن مستودعي شوقاً كمثل النار في أضلعي أترك من أهوي وأمضي كذا؟ والله ما أمضي وقلبي معي ولا نأى شخصك عن ناظري حيناً ولا نطقك عن قمعي ? على الرغم من مضي مئات السنين على رحيلك يا ابن الحداد، إلا أن لغة الشعر التي وصلت إليها ما زالت قريبة منا لا نحتاج معها إلى المعاجم والقواميس لشرح مفرداتها.. ـ هل تقصد أن تقول أن شعري سهل؟ ? بل هو السهل الممتنع.. ـ بهذه اللغة وصلنا إلى قلوب الناس في ذلك الزمن. ? لا أجمل من أن نختتم لقاء اليوم بقصيدة لنويرة ـ وهذا ما يرضي روح الشاعر الذي عاش ومات عاشقاً.. أقول في نويرة: عساك بحق عيساكِ مريحة قلبي الشاكي فإن الحسن قد ولاكِ رحيائي وإهلاكي وأولعني بصلبانٍ ورهبانٍ ونسّاكِ ولم آت الكنائس عن هوى فيهن لولاكِ وها أنا فيك في بلوى ولا فرجٌ لبلواك ولا أستطيع سلواناً فقد أوثقت أشراكي(11) فكم أبكي عليك دماً ولا ترثين للباكي فهل تدرين ما تقضي على عينيَّ عيناك وما يذكيه(12) من نارٍ بقلبي نورك الذاكي(13) حجبت سناك عن بصري وفوق الشمس سيماكِ وعند الروض فدّاك ومن ريّاه ريّاكِ نويرج إن قليتِ فإنني أهواك، أهواكِ وعيناك المنبِّئتاكِ أني بعضُ قتلاكِ معاني الألفاظ: 1 ـ الأثيلات: جمع أثلة، الشجرة العظيمة 2 ـ روعات: جمع روعة، الخوف 3 ـ بغى: ظلم 4 ـ بغيات: جمع بغية وهي الحاجة 5 ـ تكنس: تقيم 6 ـ الرشأ: ولد الغزال 7 ـ سائن: كاذب 8 ـ المدنف: المشرف على الموت من شدة العشق 9 المكرث: من اشتد عليه الغم 10 ـ ثبار: المواصلة 11 ـ أشراك: جمع شَرَكَ وهو حبل الصيد 12 ـ يذكي: يشعل 13 ـ الذاكي: المتوهج الساطع 14 ـ قليت: كرهت أو أبغضتِ فعلها قلا. المراجع: 1 - ديوان ابن الحداد الأندلسي/ جمع وشرح الدكتور يوسف علي طويل 2 - الإحاطة في أخبار غرناطة/ لسان الدين بن الخطيب 3 - لسان العرب/ ابن منظور
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©