الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من باريس وباد فيزيه إلى رأس الخيمة

من باريس وباد فيزيه إلى رأس الخيمة
16 أكتوبر 2013 22:27
في خلال أربعة عقود مضت، ركَّز بعض الأعمال الروائية الإماراتية على تسريد الحيز المكاني المحلي في مختلف القرى والأحياء والمدن والبراري والبوادي وشواطئ البحر الإماراتية، وقلة من النصوص الروائية التي خرجت عن هذا الحيز إلى غيره؛ العربي والغربي والآسيوي، ومن بين تلك النصوص التي همَّت بالخروج إلى أمكنة أوروبية مسرودة رواية الكاتبة الشابة فاطمة الحمادي "بين طرقات باريس"، التي صدرت عن وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع عام 2008، وكذلك رواية الكاتبة الشابة مهرة بنت أحمد "كراكاتو"، الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت عام 2013. توظف فاطمة الحمادي في روايتها الأولى “بين طرقات باريس” ما يُعرف في اللغة الفرنسية بالعتبة (Seuil)، أي ذلك العنصر الذي يؤطر النَّص من الخارج، ويوثر في القارئ والمتلقِّي. ومن تلك العتبات الافتتاحية ما وضعته الكاتبة كتعريف للحكاية في روايتها: “قصة تدور أحداثها ما بين الشرق والغرب.. ما بين صحراء المشرق وشوارع المغرب.. ما بين إمارة رأس الخيمة وباريس” (ص 13). وواضح من هذه العتبة أن الكاتبة تضعنا مباشرة في الحيز المكاني، وبالتالي في هوية الأمكنة المسرودة في روايتها. عتبة موحية لم تكتف الحمادي بهذه العتبة الموحية، إنما استخدمت عتبة أخرى كشفت من خلالها عن مقترب يعضِّد وجود ثنائية الأمكنة عندما تتحدَّث عن شاب يعيش في فرنسا و”في قلبه شمعة شرقية” (ص 15). وهنا مربط الحيرة في تمثيلها لشخصية روايتها الرئيسة؛ فهل “لويس” فرنسي أم شرقي عربي، أم ماذا؟ بالطبع سنكتشف ذلك لاحقاً. من باريس، وفي غرفة صغير تمتلكها عجوز فرنسية اسمها “كوزيت”، تبدأ الرواية أحداثها؛ فهناك يعيش شاب فقير ويتيم ماتت أمه من دون رؤيته لها؛ يقول لويس: “الحياة من دونك يا أماه صعبة! أنا أعترف بعظمتك رغم أنّني لم أرك قط” (ص 18). يعمل “لويس” بائعاً للفحم والحطب، ويهوى الرّسم بالزيت، ويعزف الموسيقى، وله صديق فقير أيضاً يعمل في المداخن اسمه “كلارك”. وأنت تهمُّ بقراءة الرواية في صفحاتها الأولى، لا يدور في مخيلك سوى أنّك بصدد شابين فرنسيين فقيرين يكدحان من أجل تأمين لقمة العيش في مجتمعهما الباريسي، ويعيشان في حي فقير يسكنه بشر آخرون من جنسيات مختلفة كشخصية “كوزيت” المرأة العجوز، وشخصية “سالي”، الفتاة ذات الثلاثين عاماً التي تنحدر من أصول إسبانية، وغيرها من الشخصيات التي سنتحدَّث عنها لاحقاً ممن تقطن الحي. ومن هنا، تستنتج أن الآخرية Otherness حاضرة بأمكنة وببشر جاءوا إلى فرنسا من أمكنة ومدن ودول مختلفة الثقافات والأعراق. كوزيت العجوز هي أول شخصية فرنسية تمثل الآخر بالنسبة للويس؛ لويس الفرنسي الاسم والإقامة، الشرقي الأخلاق والطباع. كوزيت هي المرأة التي تربى لويس بحضنها منذ القِماط.. حال كوزيت، وبحسب تمثيل فاطمة الحمادي لها، هو حال أيَّة امرأة فرنسية عجوز تتمتع بالرحمة من جهة، والقسوة الشكلية من جهة أخرى مع طفل يتيم. ولعل من أخلاق لويس الشرقية الثاوية في هويته العربية أنَّه لا يملُّ من الاعتراف بالجميل لكوزيت على أمومتها الدافئة التي احتضنته وهو اليتيم، بل تحدَّث لويس عن تربيتها له قائلاً: “العجوز علَّمتني خير تعليم، وهي معلمة ممتازة للغاية، هذه هي مهنتها الأساسية بالإضافة إلى رقص الباليه” (ص 64). لم تأخذ كوزيت حيزاً كبيراً من سردية الرواية؛ فكوزيت التي تتعامل بدواعي المسؤولية الوجودية والشفقة والأمومة مع لويس، تتعرَّض إلى حادث صغير عندما كان لويس يرقد في المشفى لتودِّع العجوز الحياة، وترحل عن عالم لويس، لكنّها، وبحسب وصيتها، تجعل ثروتها وما تملك للويس. تقول كوزيت في لحظة الوداع الأخيرة: “أُحبكَ يا بُني لويس.. أملاكي كلها لكَ.. احتفظ أرجوك بلوحة العشاء الأخير المقلَّدة؛ فهي أغلى ما أملك من بعدكَ أنتَ!” (ص 38). نحن هنا بصدد تمثيل إيجابي لشخصية الآخر المختلف ذاك الذي تكثفه الكاتبة في هذه الرواية من خلال العلاقة بين لويس، الشاب غامض الهوية، والعجوز الراحلة كوزيت ليس بعيداً عن تمثيل حيوية المكان. الآخر المختلف وهكذا، يحضر الآخر المختلف شيئاً فشيئاً كلما توغَّلنا في سردية أحداث الرواية؛ فلويس، مثلاً، وعندما كان ينظر من نافذة غرفته نحو الحديقة، وجد “سالي”، وسالي امرأة فرنسية تنحدر من أصول إسبانية، وجدها جالسة في الحديقة المقابلة للمبنى البائس الذي يعيش فيه، فنزل إلى الحديقة، وتوجَّه إلى سالي، وصارت الفكرة أنْ يرسمها بلوحة، فقال لها: “أتعلمين يا سالي.. لا أعرف شيئاً عن العرب وتاريخهم في إسبانيا، ولكنني أعرف بأن الجمال لفظٌ يقترن بالعرب؟” (8). يمثل هذا الحوار المشهد الأول الذي انبثق فيه أول تصوُّر عن العرب كآخرين في مخيال لويس، بل وفي مخيال سردية الرواية برمتها. إلاّ أن العرب هنا هم عرب إسبانيا!. وهذا ذكاء من فاطمة الحمادي؛ فالعرب في المنظور الفرنسي التقليدي هم الذين صاغ صورتهم المخيال الأوروبي في القرون الماضية، العرب ذوو الشعر الأسود، والعيون السود، والبشرة السمراء. تسعى فاطمة الحمادي إلى تعميق حضور صورة الآخر العربي في بطل روايتها لويس لتحفر في وعيه ومخياله وهويته تلك الصورة؛ فما قاله لويس لسالي عن العرب جاء بلسانه صريحاً، لكن فاطمة أو الناصَّة (Textor) تلجأ إلى ذلك العُمق الدفين الذي يثوي في وعي لويس ومخياله عن حنينه الوجودي إلى العرب أو الشرق أو إلى ما وراء سواحل إسبانيا كما يقول لويس نفسه لاستجلائه بلسانها كناصَّة، وتسمي ذلك “مناجاة”؛ نقرأ: “.. بدأ لويس في مناجاته: ستكون أجمل لوحة لي سأرسمها تحت الثلج.. لا بل ستكون أروع لوحة؛ فسمرة بشرة سالي تذكِّرني برغبتي في زيارة ما وراء سواحل إسبانيا، وشعرها الأسود أروع من سواد الليل وظلمته”..” (ص 25). تكفينا هنا عبارة: “تذكِّرني برغبتي في زيارة ما وراء سواحل إسبانيا”، الواردة في المقتبس السَّردي الفائت، للتأكُّد من أن لدى لويس رغبة دفينة في التعرَّف إلى الآخر المختلف في هويته العرقية والثقافية والمكانية والحنين إليه، هذا يقتضي متابعة هذه الرغبة لاكتشاف جذورها، لكنَّنا إذا ما تواصلنا مع مسارات الأحداث سنجد تأكيدات أخرى تكشف عنها ساردة الرواية عن شعور لويس بـ “الآخرية”، بعد أن عرفنا أن هذا الشعور يمثل رغبة دفينة في شخصيته. فعندما كان لويس يرسم سالي بريشته، فاجأته ـ هذه السالي ـ بأنَّها كانت قد تزوَّجت من “جون”، وحبلت منه بطفل وأنجبته ليسمى “فكتور”، لكن جون توفاه الله. وهنا دخل لويس إلى موضوعة العلاقة بين الغرب والشرق، فقال عن فيكتور: “لا بدَّ أنه قطعة فريدة.. بامتزاج ملامحك الشرقية وملامح جان الغربية” (ص 26). كان هذا الجواب قد أثار لدى سالي الرغبة لتسأل لويس: “ما قصتكَ أنت والشرق؟” (ص 27). قال لها لويس: “أتمنى أن أعلم يا سالي!” (ص 27). وهذا يعني أن الحنين إلى الآخر الشرقي أو العربي، وإصرار لويس في الحديث عنه، ما زالا سراً بالنسبة لشخصية لويس ذاتها حتى إنه لا يعرف الدوافع لذلك! هناك مواقف وسلوكيات وقناعات وعبارات لدى لويس تشير إلى أنه، وفي داخله، شرقي الطباع والجبلة والثقافة والهوية، لكنه يعيش في مجتمع فرنسي، ويتعامل مع بشر فرنسيين وغير فرنسيين ينظر إليهم على أنهم “آخر” في مقابل “أناه”، لكن تمثيل فاطمة الحمادي لهذا الجانب لا تدلقه دفعة واحدة، إنما تتركه يظهر تباعاً في سردية الأحداث على نحو سلس. المهم في تمثيل فاطمة الحمادي لشخصية سالي أن هذه المرأة هي الشخصية المفتاح في تفعيل الحديث عن الآخر أو الآخرية بينها ولويس، خصوصاً الآخر العربي مقابل الأنا الفرنسي، ما يجعل منها فضاء مريحاً للويس الذي يلهجُ بالحديث عن العرب أو الشرقيين كلما سنحت الفرصة لذلك. بين طرقات باريس، تظهر شخصيات أخرى مثل شخصية “نادين”، الشابة البيضاء ببشرة شرقية الملامح. تعمل نادين مصوِّرة فوتوغرافية، وتلاحق النجوم والفنانين وعارضات الأزياء في باريس. في هذه الرواية، يحضر الآخر في هوياته المتعدِّدة، ليس الفرنسي فقط، إنما الباكستاني أيضاً، وهذا ما يمنح تمثيلات فاطمة الحمادي للآخر في روايتها شيئاً من التعدُّد والاختلاف الذي يقوم بدوره في تنويع صور التمثيل في روايتها، ومن ذلك ظهور شخصية “رابيا”، الفتاة الباكستانية ذات البشرة البيضاء والعيون السود القريبة من الملامح الشرقية بل العربية. رابيا جاءت بمحض الصدفة لتسكن في العمارة التي يسكنها لويس، فيعشقها بحبٍّ لا يعرف سرّه وهو الشغوف بكل ما هو قادم من الشرق لغاية ترتبط بهويته شرقية الأصل. مثلما كانت سالي الشخصية المفتاح التي أثارت شهية لويس في الحديث عن الشرق والعرب، كذلك نلاحظ على فاطمة الحمادي أنَّها تجعل من شخصية رابيا الشخصية المفتاح في أزمة لويس الوجودية والمصيرية. فقد شاءت الصدفة وأن أحد نزلاء المسكن ويدعى “باتريك” الذي يعمل قصّاباً وتتسم شخصيته بالبخل، كان قد سرق صندوقاً صغيراً من العجوز كوزيت يوم وفاتها في المشفى، لكن ضميره بقي يؤنبه فقرَّر إعادة الصندوق إلى لويس. كان الصندوق يضمُّ وصية والدة لويس الفرنسية له، والدته التي مرضت بالسرطان، وتوفت بسببه لتترك له صورة مع أخته علياء ووالده الذي ينحدر إلى أصول عربية، وتحديداً من مدينة (رأس الخيمة) في الإمارات. وما هو لافت أن رابيا هي أيضاً كانت تعيش في رأس الخيمة، وتعرف تلك المدينة التاريخية العريقة، وستعود لها لأنها مقيمة فيها، فاتفقت مع لويس على الذهاب إلى هناك للبحث عن “والد” لويس الإماراتي، وكذلك عن أخته “علياء”. في الرحلة نحو الخليج، نحو رأس الخيمة، كانت رابيا برفقة لويس، وكانت نادين أيضاً على متن الطائرة ذاتها. وفي خلال تلك الرحلة، ظل الحديث ينمو بين لويس ورابيا، رابيا مسلمة وتعتقد بأن لويس مسيحي لا يجوز التعامل معه أو استضافته في منازل المسلمين لأنه “كافر”، تقول رابيا: “لا تتظاهر بعدم المعرفة، فأنت لا تؤمن بأن هناك إلهاً. لويس وبنظرة حانية: يا مسلمة. أنا أيضاً أؤمن بأنَّ لهذه الأرض شخصاً ما يُدير كل حركاتها وسكانها” (ص 65). نلاحظ أن ما تفعله فاطمة الحمادي هنا أنها جعلت من شخصية رابيا آخر مسلماً باكستانياً، ولكن نظرتها الدينية سلبية تجاه المسيحيين. يعود لويس إلى رأس الخيمة، يتعرَّف إلى أخته علياء، وإلى عمِّه لأبيه، يكتشف في علياء أنها فتاة بصيرة، وكان ذلك مؤلماً له، فيقرِّر تصفية أموره في باريس، وبيع المبنى الذي ورثه عن مربيته كوزيت ليعود إلى موطنه الأصل، لكنه، وعندما يعود، يجد علياء أخته وقد فارقت الحياة، ويجد رابيا وقد خُطبت لابن عمِّها. في باريس، وعندما أعلن لويس عن عزمه بيع المبنى والعودة إلى رأس الخيمة، قام “ماثيو” الفرنسي وصاحب أحد القصور الفخمة بشرائه من لويس، لكن ماثيو اكتشف أن هذا الفتى هو ابن أخته “والدة لويس الراحلة”، ولدى ماثيو ابنة جميلة اسمها “بريجيت” يكون لويس ابن عمتها. في تلك الواقعة، كشف ماثيو لابنته عن حكاية جدّها الفرنسي الذي رفض زواج أم لويس من شخص عربي (ص 77)، وهنا تقدِّم لنا فاطمة الحمادي صورة عن تعصُّب الآخر الفرنسي تجاه العرب، وقد يكون الأمر عادياً لكنَّها الصورة تبقى مهمة في خطاب الرواية قدر تعلّقها بمسألة تمثيل الآخر روائياً. ارتماء أوسع وإذا كانت رواية “بين طرقات باريس” قد مثلت منعطفاً في تاريخ الرواية الإماراتية من حيث خروج أحداثها عن الحيز المكاني المحلي سوى الخيط الرابط، في نهاية الرواية، بين (باريس) و(رأس الخيمة)، تلك المدينة التي ينتمي إليها “لويس”، والذي عاد إليها بعد اكتشاف أصله وموطنه الإماراتي، فإن الأمر لا يكاد يختلف مع رواية “كراكاتو” للكاتبة الإماراتية مهرة بنت أحمد من حيث الارتماء الأوسع في مكانية الآخر الأوروبي، وذلك عندما جعلت من مدينة “ميونخ” الألمانية وريفها “باد فيزيه” مواقع وقد تمحَّلت (La proxémique) الذوات المسرودة فيها، وتفاعلت معها، وتحرَّكت في حيِّزها المكاني بوصفها فواعل (Acteur) مشاركة في أحداث الرواية كما فعلت فاطمة الحمادي في روايتها. وإذا كانت فاطمة الحمادي قد اختارت أسماء فرنسية للفاعلين أو الأشخاص في روايتها مثل: “لويس”، و”ماثيو”، و”كوزيت”، و”بريجيت”، و”باتريك”، و”سالي”، فإن مهرة بنت أحمد، وفي روايتها “كراكاتو” اختارت أسماء مستوحاة من مكانيات مجتمعية أوروبية ـ ألمانية، مثل: “لوكاس”، و”ماكسمليان مولر”، و”توماس”، و”ديفيد”، و”صوفيا”، و”بول”، وغير ذلك مما يرد في مسارات أحداث الرواية. إن تسريد حيز مكاني غير محلي ولا عربي في عمل إبداعي متخيَّل يتطلَّب مُكنة مضاعفة من حيث تأثيث موجودية الحدث بشروط حيزه المكاني وما يستتبع ذلك من وعي عميق بثقافة المكان في مختلف أشكالها المتداولة داخل العمل السّردي، وبما يتوافق مع طبيعة الشَّخصيات المسرودة التي يلقي الحيز المكاني عليها ظلاله النّفسية والمجتمعية والثقافية والرمزية، وهو ما سعت إليه مهرة بوصفها ناصَّةً لعملها الروائي الأول (كراكاتو). إن تحييز مكانية الآخر أو الخروج عن الحيز المكاني المحلي إلى غيره الكوني أو العالمي طال عنوان الرواية “كراكاتو”، كما هو الحال في رواية فاطمة الحمادي، ويبدو لي أن مهرة بنت أحمد آثرت الإصغاء إلى ما قاله أمبرتو إيكو في عام 1986 بأنه “يجب على العنوان أن يشوِّش أفكار القارئ لا أن يُنظمها”، لكن ذلك لا يبدو سوى وهلة أولى؛ ففضلاً على غرابة إيحائية العنوان (كراكاتو)، إلاّ أننا نجده يتطابق مع استراتيجية تسريد المكان غير المحلي، ويكاد هذا يتجاور مع عنوان رواية الحمادي، لكن هذه الأخيرة آثرت تقويض التشويش على العنوان. ومن المعروف أن (كراكاتوا) هي جزيرة بركانية في (إندونيسيا)، تقع في (مضيق سوندا)، وتحديداً بين (جاوة) و(سومطرة)، ثار فيها عام 1883 بركاناً نسف جزءًا منها، وغيَّر من شكل المضيق، وصحب ذلك موجة مدٍّ عاتية سببت خراباً كبيراً وخسائر جسيمة في الأرواح، وكان حجم الأنقاض والطفح البركاني ضخماً إلى درجة أن تكوَّنت منه بضعة جزر جديدة، وانتشرت الأنقاض فوق (المحيط الهندي) حتى وصلت إلى (مدغشقر). جاءت تسمية (كراكاتو)، والحادثة الواقعية التي جرت فيها، مسرودة كحكاية ابتداءً من الصفحة 34، وبدا (كراكاتو) مشبَّهاً به عندما استعاره لوكاس لوصف حالته في أثناء لقائه بالطبيب النَّفسي الدكتور ماكسمليان مولر: “ما أشبه ذاكرتي بالبراكين الخامدة، تلك التي تنفجر فجأة كبركان كراكاتو” (ص 34). بدا هذا التشبيه همساً أولياً في واقعيته المسرودة، لكنّها الناصَّة سرعان ما رمت فيه نفحاً شعرياً عندما جعلته مداراً نفسياً، وهو ما نجده في وصف لوكاس لما يعتمل في نفسه قائلاً: “بركانٌ حين انفجر قذف حمماً بركانية اخترقت نطاق الجاذبية، وراحت تطوف وتدور حول الأرض، وحولي، وهو يحاصرني، يطوّقني رغماً عني، فكيف من الممكن أن يُنسى، تصوَّر أن هذا البركان بقي نائماً لمدة مئتي سنة، وحين انفجر أطلق دوياً عارماً” (ص 35). ما هو لافت في هذا النَّص هو ملفوظ “قذفَ حمماً بركانية اخترقت نطاق الجاذبية، وراحت تطوف وتدور حول الأرض، وحولي، وهو يحاصرني، يطوّقني رغماً عني”، وهو الملفوظ الذي يربط بين انفجار البركان وأثره في لوكاس رغم الفترة الزمنية البعيدة بينهما، لكن الناصَّة ردمت الفجوة عندما جعلت لوكاس يعرض للدكتور ماكسمليان صورة فوتوغرافية قديمة له مع أسرته التي زارت مكان الانفجار في إندونيسيا، ما يعني أن أثر حادثة انفجار البركان ربما يمتد إلى ذلك الوقت الذي شاهد فيه لوكاس بقايا البركان وما خلفه من آثار، وهو ما تحول إلى كابوس يأتي إلى لوكاس في مناماته ليرعبه ويقض مضجعه. لوكاس رجل ثري، كان يعيش مع زوجته “صوفيا” في ميونخ، عاش حياة نفسية مدمَّرة بسبب الكابوس الذي يحاصره كما قال حتى فرَّت منه زوجته ليترك ميونخ ويرحل صوب ريف مدينة “باد فيزيه” للاستجمام، ويعيش هناك بصحبة رفاق له كبار السن، لكنّه الكابوس يظلّ يحاصره، وتستمر الرواية في خلق مدارات مصغَّرة وفرعية على هامش هذا الكابوس وما يُعانيه لوكاس من حنين إلى والدته، مرَّة، وإلى زوجته صوفيا مرَّات عدَّة، وكذلك حرمانه من النوم، والعيش بمقتضى كثير من الأحلام والأوهام والمخاوف والتردُّدات النَّفسية بسبب “الذاكرة البركانية” (ص 210)، فضلاً على القلق والتوتر حتى تحرَّر منها في نهاية المطاف بمساعدة الطبيب مولر. حدث كوني وبعيداً عن إشكالية الحيز المكاني الأوروبي، فإنَّ هذه الرواية تطرح إشكاليات أخرى؛ فهي تقترب من معالجات علي أبوالريش النَّفسية في أغلب رواياته، وهي تذكِّرنا أيضاً بما كان يكتبه جيمس جويس في رواياته التي ركَّز فيها على الأجواء (الذاتية ـ النَّفسية) وهو يرسم حالات الفاعلين في رواياته، خصوصاً رواية (عوليس)؛ فمهرة تحفر في شخصية لوكاس النَّفسية من خلال راو عليم (Omniscient Narrator) يحيط بأروقة ما يعتمل ذات وذاكرة ونفس وطموحات وأمنيات لوكاس وزوجته صوفيا، بل وبقية الفاعلين في الرواية بكل برامجها السّردية. يبدو لي، أنَّ مهرة بنت أحمد انطلقت في عملها الروائي الأول “كراكاتو” من الإيمان بأن الكتابة الروائية هي كتابة إبداعية لحدث كوني وليس محلياً فقط، لكنّها لم تتخلَّص من ضغوط ذاتها المحلية التي تجلّت في حاصل الفقرات السّردية الفائضة؛ تلك التي سمحت للراوي أو الراوية في سرديتها هذه بإدلاقها، بين مدار سردي وآخر، في المتن الحكائي من بدايته حتى منتهاه كشكل من أشكال اندساس الذات السّارد المحلية في سردية يُراد لها من ناحية الخطاب السَّردي أن تكون كونيَّة أو عالمية، وتلك إحدى جماليات سرد الآخر غير المحلي في تجربة مهرة بنت أحمد في روايتها الأولى بغض النَّظر عن اختلافنا معها. أما في رواية “بين طرقات باريس”، فإن فاطمة الحمادي، وعندما أدخلت “رأس الخيمة” كمدار مكاني مرجعي، تكون قد أدلقت ذاتها كفاعل غير منظور في سردية الرواية، ما يعد جمالية سردية ولكن من نوع آخر. وكلا التجربتين تعدّان، حتى الآن، من التجارب اللافتة في السرد الروائي الإماراتي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©