الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حاسة الصراط

حاسة الصراط
9 مارس 2016 20:18
لينا أبوبكر أن ينتهي العالم... أن تحفى المسافة وتشلح أحذية العابرين بعد أن تجتاز التيه، وتحط رحالها في زمن الخواء بلا قدمين ولا طرقات، أن تصل إلى ماضيك خالي الوفاض من ذاكرتك التي تلعب معك لعبة الغميضة.. يا لغونتر غراس اللعين، أن ترحل دون أن تسافر بلا حقائب ولا مناديل ولا دموع بلا أحبة ولا حنين، رباه ما أبشع الفراغ..... وما ألذ العزلة! خبيث هو غراس، يعلمك كيف تصبر على ذاكرتك بطموحك، فتقشر البصلة التي تشبه بائع الألغاز الذي قرر أن يشفر نفسه، فيضطرك لتنقيح مادتها الخام، بحيث لا تستقر عليها كنص إلا وهي بين غلافين، كأنها عبارات مأخوذة من لوح ضريح مطروح إلى جوار أكوام من الأضرحة القبيحة التي مضى زمنها.. ! مرن جسدك على ذاكرتك اللاإرادية، حتى مع اللغة كن لا إرادياً؛ لأن جسدك هو حقيقتك الحسية والإدراكية والانفعالية التي تصل في قمة حيويتها إلى التخلي التلقائي عن إرادتها، وهذا ما يضعك دائماً على المحك مع نفسك، فأنت في حلبة صراع دائم مع كيانك حتى آخر قطرة من عمرك، يصبح جسدك تمثالاً أو كتلة صامتة لا تخسر من وزنها مجرد لفظها لكهربائها الروحية سوى 21 غراماً هي مقدار الحياة بأسرها، فهل أنت بحاجة إلى جسدك؟ علاقتك بلغتك علاقة حركية إذن وليست فقط انفعالية، إنها جسدك بأصغريه ونجديه وقدميه، فكيف يحتفظ جسدك بلغتك بعد أن تتحلل كتلته تحت التراب؟ عملية الكتابة بعد الموت ليست بهذه الصعوبة؛ لأن الراحة تتلف القلق، وكل ما تحتاج إليه بعد الاستلقاء الأخير هو الصحو مجدداً والسفر عبر اللازمن «الغيبوبة» إلى البرزخ، بين نصف يقظة ونصف إغفاءة، يصير جسدك جهازاً ميدانياً أو بالمعنى الإبداعي: مكانك، فهو برج في باريس وكنيسة في روما وبندقية في جبل النار، وشجرة برتقال في حيفا ونافذة طلقة في زنزانة أسير، وسرير لعشق مهجور، واعتراف في محكمة القبور، ولص في بنك الدم! قَدَما المُخيلة ولكن هل كان كازانتزاكي بحاجة إلى عمر إضافي مقداره عشر سنوات ليكتب أكثر؟ أم أنه كان يرهن الزمن للكتابة؛ لأن الكتابة هي الزمن الحاساتي الذي يحتاج من الكاتب استجماع أدواته كاملة من نظر وسمع وتذوق وشم ولمس وعقل، مع تحفظي على وضع العقل في سلة أدواته، فالجنون قد يكون أكثر منطقية إن اعتبرنا أنه الحاسة الميكانيكية للعقل ! بينما فتى لوركا كان يملك سبعة قلوب لسبع فتيات يحملنه ويطرن به في مراياهن، في حين أن قلبه ليس واحداً منها، وكلما حانت اللحظة الحاسمة كان يستعين بحنجرته ليكتب كلماته عليها، هكذا إذن بدأ الكلام عند لوركا، فقد جاءت الكتابة أولا، ثم النطق، ولذلك تحديداً هي الزمن بل هي أمه! أما الطريق، فهي كامرأة ماريو فارغاس يوسا، آلهة وأنثى معاً، إنها كل النساء في امرأة واحدة، مع انحراف ماكر في مخيلة القدمين يحولها إلى قلب ميت قابل للاستلقاء تحت حذاء الذاكرة التي تدوس عليها كلما قفزت كبجعة سوداء من بحيرة تشايكوفسكي! تَمَوْثُل الخُطى العالم يسير على طريقة ريلكه، فأنت ترى العاصفة تولد من شجرة تشد شعر الريح وتعوي كمكنسة مسحورة، وترى المأساة محتشدة في الأقدام الحافية والشاحبة في هذه الصورة التي التقطتها من فاترينة أحد أكبر الأسواق التجارية الكبرى في العاصمة البريطانية، فما الذي تتذكره حين تمعن التأمل بالحاسة الديناميكية لكل هذه الأقدام المبتورة؟ إنها ذاكرة الأقدام الزرقاء في لوحات بيكاسو في مرحلة الزرقة، فلمن تهب البطولة في بورتريه عازف الجيتار العجوز؟ لانحناءة الظهر؟ لضمة الجيتار؟ للأزرق؟ للشيخوخة؟ أم للقدمين البائستين اللتين تدلانك على التشرد من نتوءات العظم وارتخاء هيكلهما المتيبس بلا حذاء؟.... يا لأحزان بيكاسو ! ولكن هل تتخيل تمثالا يمشي؟ ولم لا يمشي التمثال؟ هكذا أراد السويسري البيرتو جياكوميتي 1961، أن يجسد الحالة الفيزيائة للحركة بمجسم ستاتيكي، وهي لعبته التي برعت باستنطاق الضوء من خلال الظلال في منحوتاته ليؤرخ لشغف وجودي باقتناص الآني، موظفا رمزيته الإنسانية وإيحاءاته النفسية ودلالاته الزمنية، ومخزونه الذاكراتي؛ لأن منحوتة «رجل يمشي» رغم كل محاولات تأويلها، تستقي وحيها الانفعالي من حادثة تعرض لها النحات في مرحلة عمرية مبكرة، اضطرته لاستبدال طريقه بعصا وساق اصطناعية، بالتالي فإن المضمون الفلسفي للمشي في سبيل مقاومة الإعاقة أو النجاة من التموثل العضوي والتجمد الزمني في حقيقته يحتشد بقوى دفع أمامية جعلت من هذه المنحوتة أغلى عمل فني وصلت قيمته في مزاد علني في لندن إلى أكثر من 65 مليون جنيه استرلينيا، فما هو سر اللوحة؟ إنهما الركبتان اللتان تمشيان بلا انثناء، إنهما ركبتا النحات الذي نجا من كارثته الخاصة فاندمج تمثاله بكارثة أكثر شمولية لضحايا ناجين من حرب لم يزل أوارها طازجاً.. يتعثر كمن يتدرب على النهوض من التيه، مشيته هي كينونته وحالته وذاكرة إزميله، فالنحات نفسه تمثال يمثل كل المشاة من أبناء القاع، وكوائن اللاوجود.. وجع البرونز جياكوميتي استنطق التمثال بالحركة ليس الفيزيائية فقط بل الإدراكية غير أنها مقتصرة على الرجل الذي يراه دائما مشاء، على عكس المرأة التي لا يمكن للتمثال أن يحرك حجرها؛ لأنها صنمية ستاتيكية في وعيه، وهذا مهين للنحت والنحات معا، يا لحمقه، كيف يشل الخواص الرياضاتية للنحت حينما يتعلق الأمر بالأنثى! إن النحت كالمبدأ لا يتجزأ، فكيف تجرأ على التخلي عن مبدئه، ليرتكب كارثة عنصرية بالتعامل مع حجر البرونز؟ إنه يستدعي الشلل كحركة معطلة مرن عليها حجر الأنثى، وحفظها في خلايا وعيه فبرمج حاسة المشي عندها كوظيفة عضلية عاطلة، وهو فكر داعشي متقدم، لا تراه فقط عنده، بل عند جل النخب المثقفة والفنانين الذين يتعاملون مع الرجل كعنصر حيوي، بينما ينزلون إلى الدرك الأسفل من جهنم وهم يتعرضون لاختبار الصراط الإدراكي، فيهرولون فوقه بإزميل عصبي منظم يسير على هدى إشعارات يتلقاها من منافذ الحس عبر كابلات تتصل بالدماغ وبمراكز المعلومات والتحليل، فيصل بقدمي تمثاله إلى الجنة، بينما يضبط وتر الصراط على إيقاع عصبه التحكمي ليحول جهنم إلى مرمى لحجارة حواءاته الصماء، يا للهول ! من يحس بوجع البرونز إذن؟ ألا تعبر صورة هذه الأقدام المبتورة في الصورة عن رؤية جياكوميتي؟ يا لمحاباة الحواس ! سيزيف لاجئ منذ بدء الخليقة وسيزيف لم يزل لاجئاً، يحمل صخرة خيمته على ظهره، كأنها وطنه، فأي تماه مع النزوح كعقوبة، رغم ما يحمله المشي من دلالة على السعي للبحث عن ملاذ، وتكفير عن خطيئة المكوث، فهل الرحيل مشاء أم أن الوطن نعل يذب الوعر عن كعب الحفاة؟ قَدَمُ هذا المهاجر هي إزميله التي يحفر بها الطريق إلى قمة الجبل، حتى نحت جسده بقدميه فموثل الجبل بخطواته، وهي نفسها تقنية النازحين الذين يُعبّدون المسافة بين الرحيل والعودة فيتركون آثار أقدامهم كلافتات تدل عليهم نفق البحر ! أن ينتهي العالم، أن تركن ساقيك على شاهد قبرك، أن تعلق طريقك في خزانة ثيابك كعباءة مهترئة يتحتم عليك رتقها كي تستر بها ظلك، يا إلهي...... هناك موتى لم يتوقفوا عن السير بعد، هناك سيقان بلا أجساد وخطوات تبحث عن أقدامها السرية تحوم في الطرقات.... هناك طرقات لم تطأها قدم بشر ولا حجر، طرقات جرداء خاوية شبحية.... ويلاه يبدو العبث أقرب إلى حاسة المصير من حبل الوريد، فأين المفر يا أيها الصراط؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©