السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

«في أحضان أمي».. بكائية حزن وإنسانية بلا حياة

«في أحضان أمي».. بكائية حزن وإنسانية بلا حياة
16 أكتوبر 2011 23:38
(أبوظبي) - في محاولة رابعة وجديدة قدم الشابان العراقيان محمد الدراجي وعطية الدراجي فيلمهما “في أحضان أمي” الذي دعم من مشروع “سند” في مهرجان أبوظبي السينمائي لتطوير الحركة السينمائية الجادة، وهو مشروع رائدة لم يسبق له مثيل في المهرجانات العالمية في فن السينما. “في أحضان أمي” اسم الفيلم وهو اسم المسرحية التي يقدمها ـ داخل الفيلم ـ مجموعة من أطفال دار للأيتام يضم 30 طفلاً و6 باحثين جميعهم يسكنون في بيت صغير مستأجر يتكون من غرفتين فقط، ويشرف على الدار معلم متطوع وإنساني هو الأستاذ هشام والذي يعاني من مشاكل عائلية خاصة بدليل تخلف ابنه دراسياً ورسوبه المستمر والذي يجعل زوجته في حيرة من أمرها حيث تلوم الأب “الأستاذ هشام” على ذلك متهمة إياه بالإهمال بالرغم من أنه يرعى داراً للأيتام. ويبدو لي أن هذه أول إشكاليات الفيلم التي تسقط اضطلاع الأستاذ هشام بهدفه النبيل. ويبحث الأستاذ هشام عن تمويل للدار بعد أن فَقَدَ كل دعم، ويتجه إلى جهات الدولة ولم يجد جواباً ويظل باحثاً عن المال كي يستمر مشروعه الإنساني. الشخصية المركبة إزاء هذه الإنسانية المفرطة في ديمومة المشروع نجد هذه الشخصية المركبة حقاً تعاني من عدم قدرته على التعامل مع شخصيات الأطفال اليتامى في داره بشكل إنساني خلاق، حيث يعمد إلى التهديد والوعيد والعقوبات التي تصل أحياناً إلى منع الطعام عنهم في حال ارتكابهم أعمالاً خاطئة ليست بمستوى العقوبات نفسها. أنا لا أريد أن أظل في إطار بنية الحكاية التي بدت مفككة، بل لا بد لي من أن أقرأ واقع ما قدم بصرياً، إذ أن السينما لا تقاس بنوايا المخرج والكاتب على الورق، بل هي انشداه وصدمة وتوجس وترقب للمشهد الذي حول المقروء إلى مرئي. اشتغل الفيلم على الخبر الملفوظ عبر الراديو، كما اشتغل على الصورة المرئية عبر التلفزيون ولم يقدم الخبر عبر المشهد السينمائي. أما قضية أطفال الشوارع الذين يعانون من اليتم والتشرد وكيفية تحويلهم إلى أطفال أسوياء فهي هدف سامٍ ضمن نوايا رائعة وجميلة، ولكن من الضروري ـ مادمنا نشتغل سينما ـ أن تقدم حبكة عالية ومن زاوية نظر صادمة غير عادية كي تجعل النص يرقى إلى إدهاش المتلقي، كل ذلك فشل به هذا الفيلم الذي لم يكن سوى أنه التقط من عين كاميرا محمولة على الكتف، تتنقل داخل دار مفترض للأيتام، يعاني صاحبه من إشكالية مالية يريد حلها بأي شكل ويعلن بطريقة لا ضرورة لها أن الحل قد جاء من روح التناقض مع الآخر، وأعتقد أن هذا الحل مهم ولكن ليس بهذه الطريقة التي تكرس ما لا يراد تكريسه تناحرياً، فعندما تكون ثقافة الصانع ضعيفة يصبح المصنوع مفككاً. منذ الدقائق العشر الأولى تشعر بتفكك الحكاية، بالملل في النص وفي معالجته. سيف الطفل اليتيم الذي فَقَدَ عائلته بانفجار أودى بهم جميعاً لا يتذكر أهله، لا يتذكر اسم أبيه ولا أمه ولا أسماء أخوته سوى أنه يتذكر وجوه بعض أخوانه وربما سوف تزول ملامحهم بعد حين. طفل يعيش ساهماً، معقداً، يعاني من التوحد ويدخل في صراع دائم مع أقرانه، وتراه دائماً في عوالم غائبة إذ لا تشكل له المدرسة قيمة ولا ينسجم مع واقعها مثل أي طفل وجد في دار الأستاذ هشام ملجئاً. غير أن هذا الفتى الساهم يمتلك صوتاً ويغني ألحاناً مأساوية وحزينة منها أغنيته: زغير آنه على الآلام زغير آنه على الحسرات اسكن في دار الأيتام وياي الأحلام تبات كنا من نمشي آنه وأهلي كل عصرية على الكورنيش وأصبح آنه طالب في الكلية بين إخواني وأمي أعيش هذه الأغنية تلخص قصة هذا الطفل ذي الصوت العذب، هنا نقع في إشكالية جديدة، طفل مستوحد، حزين، يتيم يشعر بآلام اليتم ويغني ليتمه بينما يقدم على انه لا يتذكر شيئاً، لا اسم أبيه ولا ملامح وجهه، لا أسماء إخوته سوى أن الأطفال يطلقون عليه “ابن مجودة” أي “ابن ماجدة”، أتساءل: هل تشير الأغنية إلى أن الطفل لا يتذكر أهله؟ في الآن نفسه هناك طفل آخر في الدار هو محمد ذو الأعوام الـ15 والذي انتهى به الأمر على قارعة الطريق بعد أن فَقَدَ أهله قتلاً في ذروة التطهير العرقي عام 2006، يعزف الموسيقى وبخاصة أغنية: موطني موطني الجلال والجمال والسناء والبراء في رباك في رباك والحياة والنجاة والهناء والرجاء في هواك في هواك ولا أعرف حقاً كيف ألصقت موسيقى هذا النشيد وأصبح الطفل يعزفها بالرغم من أنه يعاني آلام اليتم والخيبة الإنسانية والحزن والهم الشخصي، في الوقت الذي يفكر به بحال الوطن الذي لم يقدم له شيئاً. الروندو الموسيقي ظل نشيد “موطني” كالروندو الموسيقي الذي يعاد مرة وأخرى، وكأن القضية التي تراد أن تقدم فيها من الوطنية شيء كبير بينما هي في تركيبتها الأساسية قضية بحث عن مواصلة عيش هؤلاء الأيتام في ظل الأم تيريزا “الأستاذ هشام” الذي لم يبتسم أبداً، والساهم دوماً، والمسكين الذي يمد يده في كل حال إلى أهل الخير لينقذوا أطفاله الثلاثين بينما لم يستطع هو أن ينقذ ابنه من رسوبه المتكرر، لم يستطع أن ينقذ زوجته من آلامها النفسية وهي ترى ابنها يفشل أمامها. أتساءل: أين يمكن أن نصنف هذا الفيلم؟ هل يصنف على أنه وثائقي أو تسجيلي أم أنه درامي؟ وكلاهما هو غائب عنهما تماماً، إذ لا وثيقة فيه ولا تسجيل ينطوي عليه ولا دراما مأساوية تشتعل فيه. هو فيلم حكاية دار للأيتام على وشك أن يقفل، وحيرة صاحبه “الأستاذ هشام” في عطفه اللامحدود إزاء هؤلاء الأطفال الذين أنقذهم من التشرد وتساؤله: هل سيعودون إلى التشرد ثانية وتستلّهم “القاعدة” لتفجر بهم مدن العراق؟ تلك هي المهمة الوطنية التي يحملها هذا الرجل الإنساني والتي دعت المخرج أن يدخل موسيقى النشيد: موطني موطني/ الجلال والجمال حيث لا جلال فيه ولا جمال يمتلكه، ان حاله حال الأوطان المدمرة. هنا يقع المخرج في تناقض جديد بين توصيف الأغنية “الجمال والجلال” وبين مشاهد الجنود الأميركان وهم يتحركون مستفزين في بلد الجلال وبين أزقة بغداد الوسخة المتربة، وتشرد الأطفال في شوارعها وبيوتها الآيلة للسقوط في بلد الجمال هذا التناقض لم يلتفت إليه المخرج الذي أخرج هذا الفيلم طوال سنتين وقد دعمه مشروع “سند” قبل سنة أو ما يقارب ذلك. الدراما والرواية المسألة هنا، هي إن الثقافة العراقية تمتلك آلاف القصص والروايات الدرامية العالية القيمة والتي تحمل من الصراع الشيء الكثير، وبذلك تصلح تماماً أن تكون مادة لفيلم درامي أو حتى وثائقي رائع، فلماذا إذاً هذا القطاع الإنساني المأساوي “أبناء الشوارع” الذي لم يعالج بشكل مقبول حتى في هذا الفيلم. اقترح أحد أهم المبدعين في مجال الدراما العراقية انه كان بالإمكان تحويل حكاية الفيلم باتجاه آخر والذي كان سيصبح فيه كاشفاً عن طبيعة مأساة أطفال الشوارع والذي سيكشف زيف السلطة وادعائها الإنساني المزيف، حيث ستكون فيه درجة الصدمة عالية حدّ الإثارة والمتعة أيضاً لكن “الخيط ضاع والعصفور معاً” على مخرج الفيلم الذي خرج بخفي حنين إلا ما رزق الله وما منح البشر برضاهم دعماً لقضية لم تعالج بشكل فني راق وبحبكة سينمائية مدروسة. أخطاء حد الغثيان فيلم لم ينتبه مخرجه إلى أن الكهرباء قد انطفأت فجأة ولاتزال المروحة السقفية تدور وتدور ـ هذا التعليق انتبهت إليه إحدى الإعلاميات العراقيات اللواتي حضرن العرض ـ العراقيون ينتبهون إلى جزئيات المأساة التي حلّت ببلدهم، ولا أعرف كيف لم ينتبه المخرج إلى هذه الجزئية التي لا بد أن يعرفها المخرج كونه مخرجاً فطناً يأتي بعمله الأول ليقول للناس والمتلقين: افتحوا لي باب عالم السينما كي أدخله بقبولكم فيلمي هذا والتصفيق له بحرارة، ولكن المؤسف أن الأكف لم تقترب من بعضها وأن اقتربت فهي خجلة أو من باب الاعتياد الذي لا مبرر له. ويفقد الأستاذ هشام داره والأطفال، ويفرح الجميع غير أن المخرج نسي عائلة السيد هشام وآلامها. فكيف استطاع الأستاذ هشام أن يوظف الأستاذ كاظم ليخرج للدار مسرحية “في أحضان أمي” التي تحاول تكريس قضية مهمة وهي أن الدار هي البديل الموضوعي للأم حيث يتساوى دار الأيتام/ وأحضان الأم. وكل ذلك يجري في ظل حالة من العجز المالي التي تدفع السيد هشام إلى أن يبعث برسالة إلى رئيس الدولة ورئيس وزرائها مستعطفاً أن يرفدوا داره بأموال تعيد له الحياة، فلم يجد جواباً ويحاول الأستاذ هشام جاهداً أن يتخطى الحواجز والكتل الكونكريتية والجدران ليصل إلى من يعينه على ألا تلغى الدار ويلتحق الأطفال بدور الدولة سيئة الصيت ولكن لا حياة لمن تنادي فيها. وتأتي الأموال.. فجأة، ويستأجر السيد هشام داراً ينقل الأطفال إليها، غير أنهم ينامون على أرضيته الإسمنتية ويقف هو فوقهم طارداً الذباب بمهفته وكأنه أمهم التي لا تصل حتى إلى حنانه هذا وسط انطفاء الكهرباء وهوام الحشرات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©