الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحُبّ أسطورة الشاعرة

الحُبّ أسطورة الشاعرة
26 يناير 2011 19:49
بقي الشّعر الذي تكتبه المرأة العربية ردحاً طويلاً من الزمن على هامش الشّعر الذي يكتبه الرّجل. كان هذا الشّعر مشغولاً بالتّفاصيل إيّاها التي يمتلئ بها شعر الرّجل، وبالصّور إيّاها، ووجهة النّظر إيّاها، حتى ليمكننا القول إنّ تلك القصائد التي كانت تكتبها النساء العربيّات كانت في الغالب مدبّجةً بلسان الرّجل، فالرّجل العربي (السّيّد) لم يكتفِ بالسّيطرة على مقدّرات المرأة العربية، وربط مصيرها بيديه، وإنّما تسلّلت أصابعه لتسطو على وجدانها وتكتب لها القصائد. القليل من الشّاعرات العربيّات من تنبّه إلى هذه المعضلة، وأثرِها المدمّر في الكتابة، وأخذ على عاتقه إشاعة أنواع جديدة ومغايرة من النّصوص، لم تكن معروفة من قبل إلا بشكل مجتَزَأ وبسيط، ولعلّ اسم الشّاعرة الكبيرة زليخة أبوريشة يجيء في طليعة الأسماء الشّعريّة العربية النِّسويّة التي فتحت الآفاق الرّحبة لهذه الكتابة الجديدة. إنّنا حين نقرأ قصائد زليخة، فإنّنا نسقط على تلك المناخات والظّلال المغايرة لما هو سائد في الواقع الشّعري، وبإمكاننا أن نقول إنّ مشروع زليخة الشعري ينبثق من هذه اللحظة المفارقة في الأفكار والرّؤى والحساسيّة، إنّه مشروع القطيعة الحقيقي مع الواقع الشّعري الذّكوري بشقّيه: كتابة الرّجل وكتابة المرأة معاً. تتّخذ موضوعة الحبّ عند زليخة محوراً رئيساً تدور حوله مشاغلها الشعرية، وهي على الرغم من كونها موضوعة أثيرة ومتداوَلَة في الشّعر العربي، إلا أنّها عند زليخة ستكتسب نكهة ومذاقاً جديدين: “إنّها ليست سوى قطرة ضوء وكانت على جفنِكَ فكيف لا أغمس بالشّهوات الكلام؟ كيف لا أبخّركَ من العين ولا أرقيكَ بالأزرق ثمّ لا أرقد إلى جوارك سحابةً، أو مناماً، أو لنقل جملةً ناقصة”؟ ص7 من ديوان (جوى). بمثل هذه الرّقّة والعذوبة، بمثل هذه الإشراقة تفتتح زليخة طقس حبّها الجديد، وتنسج أسطورتها الخاصّة. إنّها تحتفي بمعشوقها، تتأمّله، تلاطفه، تتولّه به، تنادي عليه، وتدفع به إلى أبعد المناطق احتداماً. إنّه يقف في الباب، ويسدّه مثل ملك، وهي تدعوه إلى الدّخول. لحظات ويشتعل العناق، لحظات، وتتطاير أسقف البيوت، تتطاير الاتّجاهات، ويضحك الياسمين حول عنقه. أحياناً تصعِّد زليخة طقس الحبّ إلى أبعد ما يستطيع العاشق أن يصل إليه، هنا نلمح ثمّة شهوات تتلاطم، صواعق مدمّرة تهبّ وتدكّ بأظلافها الأجساد: “وثنيّةً أكون إذا أمر الحبّ لأنّي بيديّ هاتين سأتحقّق من جسد المعبود حتى أبلغ نشيجه العالي”. ص 100 من قصيدة (وثنيّة) من ديوان (في ثناء الجميل). لعلّ حالة الاحتدام هذه تتّضح أكثر، حين نقرأ بعض الفصول الواردة في كتاب زليخة (غجر الماء)، حيث يمكن أن تضيء نصوص هذا الكتاب شيئاً من صورة ذلك الحب الطّاغي المعربد، الذي يجتاح كلّ شيء ويدكّه: “اقترب منّي أنا امرأة فيضان. اقترب اغتسل من شوائبك. سأمنحكَ لباني وطيوري وحماقاتي وغربتي. سأمنحكَ مزيداً من القلق والانهيار”. وكذلك حين تقول: “لأنّ الغجرية التي اختارت إكستر كانت قد هربت من مدينتنا المائيّة، لترتمي في نهر إكستر، تغسل له أعضاءه بعتمتها وشبقها وشعرها المتوحّش. كأنني هذه الغجريّة، كأنني هذا النّهر، وكأنّك ستلدني قريباً لأجترح لك فضيحتكَ القادمة”، ثمّ قولها في موقع آخر: “أريد أن أزيحكَ عنّي وعن أوراقي، أريد أن أرميكَ في الطّرقات، أن أحمّمكَ بالضّجيج، أن أقضمكَ على مهلٍ”. هذا الاندفاع المجنون في الحبّ، هذا التّهوّر والشّراسة يشبه ما كانت تقوم به الأمازونيّات القديمات، اللواتي جسّدنَ فكرة المرأة المحاربة في العصور القديمة من التاريخ. في رحلة الحب هذه التي تنقلنا الشاعرة بين محطّاتها، نعثر على عطب ما يشوّشها في بعض الأحيان، وأحياناً يعصف بها ويدمّرها: “حفرة تشبه وداعاً ليس له من قاع حفرةٌ مثل موت فجأةً في قلبي”. ص 65 من ديوان (جوى). هذه الحفرة التي تفاجئنا بها الشاعرة، ليست سوى كرة الثّلج التي ستكبر تالياً، وتغتال الحب. وإذا ما فحصنا الأمر جيّداً، فإنّنا سوف نعثر على ركام هائل من الأخطاء التاريخية التي تختبئ في جوف تلك الحفرة، والتي ستكشف لنا عن لغز تلك العلاقة الملتبسة بين الرجل والمرأة. في قصيدة بعنوان (السّيّد)، من ديوان (للمزاج العالي) نقرأ ملخَّصاً للقصّة المشظّاة بين الطّرفين: كانت ملفوفةً كعرنوس الذّرة، عندما شاهدها بين زميلاتها. قال لها إنّه سيريها نور الشمس، وقطفها. تصيح فيه ألا يخلع عنها الورق، لكنّه لا يأبه لها، وفي البيت يقصّ شعرها الذّهبي، ثمّ يلقي بها في قِدر ماء يغلي، ليجلس في آخر المطاف أمام التلفزيون، ويقضمها حبّةً حبّة. هذه الحالة وغيرها سوف تؤدّي إلى خلق نموذج ما أسمته الشّاعرة بالمرأة الفظيعة، وهي ذلك الطّراز الشّرس من النّساء الذي يكيل الصّاع صاعين: “أنا امرأة فظيعة فلا تطمئنّ لكسلي واحسب حساب أن أقفز يوماً مثل جندب وأنقركَ مثل جندبٍ يظلّ ينقر ولا يملّ”. ص 49 من قصيدة (امرأة فظيعة)، من ديوان (للمزاج العالي). عبر مجموعاتها الشعرية التي صدرت تباعاً: تراشق الخفاء، تراتيل الكاهنة ووصايا الرّيش، كلام منحّى، للمزاج العالي، وجوى، ظلّت الشاعرة الكبيرة زليخة أبو ريشة مخلصةً لمشروعها الشّعري، سواء على مستوى فنّ القصيدة التي تكتبها، أو على مستوى ما تقترحه من رؤى، وتحديداً ما يتّصل بموقف المرأة في الحياة، ككائن حرّ وطليق، له قلقه وجنونه، أحلامه وشهواته، هزائمه وانتصاراته، وتصالحه مع نفسه في نهاية المطاف، حتى ولو ادّى مثل هذا التّصالح إلى تصدّع فكرة الحبّ، خاصّةً حين تكون مبنيّة على الخداع والمجاملات. زليخة من خلال مشروعها تحاول أن تعيد الاعتبار للمرأة والجمال، ولذلك الجسد الباذخ الذي يضجّ بالحياة والفتنة ويحلّق بجناحيه في فضاء الحريّة. إنّها (المرأة المستحيلة)، وهذه العبارة هي عنوان لإحدى القصائد التي كتبتها زليخة، والتي تشتبك من خلالها بإحدى شخصيّات الفنّان غويا، وهي دوقة ألبا (دونا كاياتانا دي توليدو)، وقد عشقها الفنّان بجنون ورسمها في عدد من اللوحات، زليخة تتدخّل هنا وتؤكّد أنّها امرأة اللوحة الأصلية، وأنّ غويا الذي عاش في القرن الثامن عشر أخطأ حين رسم اللوحة فرسم امرأةً أخرى: “في اضطجاعي عاريةً على سريري هرّ من السّقف البلوريّ ضوء سليط فعرفتُ أنّ غويا قد أخطأ لعبة الضّوء والظّلّ ورسم امرأةً أخرى لم تكن عاريةً البتّة لأنّها... لا تشبهني...”. ص64 من قصيدة (امرأة جويا العارية) من ديوان (للمزاج العالي). وهي إلهة الجمال فينوس التي يستبدّ بها الغضب، فتقرّر أن تسقِط معشوقها من حسابها: “ولذا لن آخذ بالاعتبار أنّكَ امّحيتَ من دفتري سأذكّركَ أنّ لي نزق الماموث وجسد فينوس”. من قصيدة (فينوس) ص 71 من ديوان (للمزاج العالي). وهي محاربة جسور في شعاب الحبّ. حين تحين ساعةُ الاحتدام يستبدّ بها الفتك: “ولَهٌ له مخالب هذا الذي يخرمش حرير سَكينتي ولَهٌ فائضٌ مثل نمرة يلوب يائساً في براريّ قلبي يلذعُني”. ص 94 من ديوان (جوى). لكنّها مع كلّ تلك النيران المتأجّجة والآلام تظلّ ممتلئة بالعشق، إذ لا بديل هناك عن الحبّ. الحبّ الذي هو أسطورة زليخة الجديدة، زليخة الشّاعرة هذه المرّة، التي تبتكر تلك التحوّلات العميقة في جسد الحكاية، وتقدّم لنا جموحها العارم، وتلك الإطلالة الفرسيّة العالية التي تشمت بالحماقات، الحماقات التي يمكن أن يقترفها طرف الحبّ الآخر. ثمّة وعي متوهّج هنا، ولكنّه وعي ذائبٌ في صوت زليخة، صوتها الذي يتنزّل علينا مثل صلاة: “من أين لي مذاقك؟ خَفِيَت عنّي الموسيقى رائحتُك؟ كيف لي برائحتك؟ هل أبتكرُ حواسّ أخرى؟ لألقّطها من الغابات”؟ ص 35 من ديوان (جوى).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©