الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

علبة الطبشور

4 أكتوبر 2012
في إحدى الجمعيات، كنت أقضي متطلبات المدرسة لأطفالي الصغار.. قائمة الحوائج وقلم رصاص يسهلان عليّ المهمة.. وصل سن قلمي إلى الألوان الخشبية.. أين ركن الألوان؟ المكان، وضجة الصغار مع آبائهم تذكرني بعصر سالف.. يوم كان يأخذنا والدي العزيز إلى جمعية المشرف القديمة في أبوظبي والتي أصبحت في خبر كان.. كانت الرائحة المميزة للدفاتر والأقلام تأسرنا بشدة.. بل لم يكن يغفو لنا جفن إلا بعد أن نعيد ترتيب الأقلام في المقلمة والدفاتر في الشنطة مراراً وتكراراً.. هناك، قلبت الألوان.. أبحث عن أقلام يسهل على طفلاي ذوي الثالثة والرابعة الإبداع بها.. وبجانب تلك الألوان، رأيت تلك العلبة المعتقة بالذكريات.. يا الله.. إنها علبة الطبشور الأبيض، أيام السبورة السوداء والمساحة التي تثير زوابع الغبار علينا.. لم أستطع مقاومة الإمساك بكرتونة الطباشير وابتسامة شوق شقت طريقها من وسط ملفات قديمة في صندوق الذكريات الذي كان غافياً في جزء من أعماق عقلي.. شعرت بموج من الإحساس الجميل يسري بيني وبينها.. حتى سألتني نفسي: أمازال أحد يعيش في تلك الحقبة حتى هذا الوقت من الزخم والتطور التكنولوجي؟ ظننت زمن الطبشور قد ولى بلا عودة.. حتى السبورات الشخصية المصغرة التي يستعملها أطفال الروضة والابتدائية بأقلام اللوح التي يعرفها الجميع الآن.. الطبشور .. ياه كم سبب لنا مشاكل في تلك الفترة.. التنفس.. العيون.. الحساسية.. الجسد كله يشتكي.. أما بعض الطالبات المزعجات فقد كن يمتلكن موهبة غريبة بإصدار صوت حاد جداً يسبب طنيناً في المخ بسحب الطبشورعلى السبورة ببطء قاتل.. يمارسنها في الخمس دقائق التي يفترض أن تكون استراحة بين الحصص.. كن يضحكن ويستمتعن وهن يشاهدن ردات أفعال الأخريات.. بعد ذلك الطبشور تطور.. ونزلت نوعية جديدة بمسمى طباشير طبية لأنها لا تصدر تلك الزوبعة من الغبار أثناء مسحه. كان مكاني المعتاد وفي كل عام هو الطاولة الأولى من الفصل.. حباً وشغفاً بالتفوق الذي حاولت مصادقته فكان يستجيب مرة ويرفض مرة.. والألذ من ذلك، حباً وولعاً بخدمة المعلمات حيث توكل إليّ عادة مهمة الذهاب للإدارة لتوصيل رسالة عاجلة من المعلمة.. أو أحمل إلى إحدى زميلاتها من المعلمات في فصل آخر رسالة هامة لا تحتمل التأجيل.. فأقوم بترديد الجملة أكثر من مرة لأتأكد أن ذاكرتي لن تخونني في اللحظة الحاسمة.. لحظة دق باب الفصل وخروج المعلمة الهدف.. القيام بكل تلك المهام للمعلمات كشف وصقل لي إحدى مهاراتي الشخصية اليوم وهي حب التطوع لخدمة الآخرين والشخصية القيادية. أما الجزء السيء من الجلوس على المقعد الأول فهو الأمر الصادر من المعلمة لمسح تلك السبورة.. رغم تظاهري أحيانا بالبحث عن شيء في الحقيبة أو تقليب صفحات الكتاب في محاولة لقطع التواصل البصري لعلي أفلت.. في الثاني الثانوي، وهي أجمل أعوامي الدراسية، كنت وزميلتي “مريم” نقوم بجل الأنشطة المدرسية التي كانت تستهويني كثيراً جداً.. تأثرت بـ”مريم”.. التزامها الديني وتفوقها الدراسي وشغفها بالإنجاز الشخصي والعلمي.. والأجمل، يوم كانت تشاطرني هم مسح السبورة بحكم جلوسنا بجانب بعضنا البعض في الصف الأول.. فكان عليّ مرة وعليها التالية.. وبعد تخرجنا من المدرسة فرقنا اختلاف أماكن الدراسة الجامعية.. ثم فرقتنا الدنيا يوم علمت أنها رحلت هي ووالديها وأصيب إخوتها في حادث مروري مروع.. رحمهم الله وجميع موتانا.. أعدت كرتونة الطبشور.. وفي قلبي دعاء لكل من علمتني حرفاً.. أو درساً من دروس الحياة.. أنهيت جولتي التسوقية على عجل.. فما زال أمامي مشواراً آخر عند زحمة المحاسبين.. إنها أيام الدراسة الأولى.. الحماس على أشده.. آباء يطمحون لأبنائهم النجاح الذي لم يستطيعوا تحقيقه لأنفسهم.. وأبناء يرتبون الأقلام والدفاتر استعداداً للعام الدراسي الجديد بشغف يطمح لمصاحبة التفوق!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©