الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الرانجو.. موسيقى الروح السودانية

الرانجو.. موسيقى الروح السودانية
26 يناير 2011 19:48
تأثرت الموسيقى في مختلف المراحل التاريخية بالشعر وفن العمارة والنحت والتصوير والرقص والتمثيل والفنون الآلية الى جانب تأثيرها في هذه الفنون بدورها. ودائما ما يرتبط تاريخ الفن بتاريخ الانسان نفسه، وهذه حقيقة تاريخية تحولت الى فكرة يطبقها العديد من أصحاب الفرق المستقلة التي تقدم أنواعا من الفنون غير المستهلكة أو المتداولة الى حد كبير، من ذلك يمكننا الحديث عن قاعة الطنبورة في مدينة القاهرة، وفي هذا السياق أيضا يمكننا التحدث عن موسيقى الرانجو الشعبية التراثية التي تزدهر في مصر، وقد أدخلها السودانيون الى هذا البلد عندما جاءوا اليه كمجندين في الجيش المصري في عهد محمد علي باشا حوالي سنة 1920، ثم عندما جلبوا للعمل في مزارع القطن عام 1860. مع ازدهار زراعة وتجارة القطن المصري في منتصف القرن التاسع عشر أتت أفواج سودانية أخرى للعمل في مزارع القطن. في أواخر القرن التاسع عشر كانت قد تجمعت في مصر أعداد كبيرة من ذوي البشرة السوداء الذين سعوا للتجمع في احياء سكنية مشتركة مثل (عرايشة العبيد) في الاسماعيلية، و(كرموز) في الاسكندرية، وأيضا (الامام الشافعي) في القاهرة، حيث مارسوا في هذه الأحياء فنونهم المختلطة. واستفاد المصريون من هذا المناخ الموسيقي الذي اشاعه فنانو الرانجو السودانيين وأسسوا بالتعاون مع عدد منهم فرقة خاصة لهذه الموسيقى الشعبية ذات الخصوصية التي تعتمد على أوتار آلتي السمسمية والطنبورة وعلى ايقاع علب البخاخات المعاد تدويرها. وقد توج نجاح الفرقة حين تم اختيار آخر البوم لها بعنوان “رانغو عروس الزار” ضمن أفضل عشر البومات غنائية شعبية لعام 2010 في القائمة التي تنشرها سنويا المجلة اللندنية الواسعة الانتشار “سونج لاينز”. وتستطيع أن تكتشف مدى رهافة وجمال هذه الموسيقى اذا زرت إحدى قاعات الطنبورة المعروفة في مصر وتحديدا في حي صغير قرب قصر عابدين، فهناك ومن خلال تلك الحفلات والامسيات الموسيقية تنساب هذه الذخيرة الحية الثرية من الأغاني ذات الإيقاعات الإفريقية التي تمثل الحنين وانتظار العودة للوطن الام، وتسمع أيضا أغان فكاهية وأخرى مستمدة من تراث الأفراح السودانية، وهي أغان تتمتع بالانسيابية والحركة والقوة والإيقاع النابض الذي يحرك المشاعر وأحاسيس المشاركة وروح الجماعة. ولعل أبلغ وأعظم لحظات العرض أمام الجمهور هي عندما يرفع الغطاء عن آلة الرانجو التي يعود تاريخها الى أكثر من 190 عاما، وهي في الواقع آلة تستحق كل هذه الاحتفالية والتكريم، فهي كما تشير بعض الدراسات الموسيقية واحدة من اثنتين فقط موجودتين على أرض مصر. آلة الرانجو الشهيرة تشبه آلة (الاكسيلوفون)، وهي مكونة من مفاتيح ومضخمات صوت خشبية مصنوعة من نبات القرع السوداني، وكان يعزف عليها تقليديا الى جانب آلة الطنبورة خلال طقوس الزار ولأغراض التطهير الروحاني والاستشفاء من بعض الأمراض. لكن دور هذه الآلة القديمة تحول تدريجيا مع التطور الموسيقي الذي طرأ على معظم آلات الموسيقى في العالم، حتى أصبحت تعزف في حفلات الأعراس الشعبية وغيرها من المناسبات الاجتماعية، الا أن الجانب السلبي إنها لم تستطع أن تتخلص من وصمة العار التي تطاردها بكونها كانت آلة تستخدم لتحضير الأرواح. ويعتبر الموسيقي زكريا ابراهيم مؤسس (مركز المصطبة) للموسيقى الشعبية التقليدية المصرية من أهم من نجحوا في اعادة آلة الرانجو الى الساحة العامة، بهدف إنقاذها من شبح الانقراض. في بداية عام 1996 توصل الباحث زكريا ابراهيم الى آخر عازف على قيد الحياة لآلة الرانجو وهو (حسن برجمون) الذي كان قد ترك الرانجو الذي مارسه في الصغر وبداية عمر الشباب، ثم تفرغ لعزف الطنبورة في الزار ولم يكن يحتفظ لديه بداية آلة رانجو، فقاما معا بالبحث عن آلات لدى أرامل وورثة المعلمين الكبار، وبالفعل نجحا في تجميع ثلاث آلات رانجو مما سمح بإحياء هذا اللون من الفن مرة أخرى والذي يعتمد على الرقص أساسا، للمشاركة في أفراح (اللون) في القاهرة والاسماعيلية والاسكندرية، كما تم تكوين فرقة من الرانجو تقدم هذه الموسيقى والرقصات والأغاني المصاحبة لها. قدمت الفرقة عروضها الناجحة في بعض المراكز الثقافية مثل بيت الهراوي ومعرض الكتاب ومركز الهناجر ومهرجان الموسيقى الشعبية ببورسعيد ومسرح روابط ومكتبة الاسكندرية والمركز الثقافي الفرنسي في القاهرة والاسكندرية. كما قدمت عروضا خاصة في فرنسا والمغرب، كما قامت بجولة في بريطانيا عام 2009، وقدمت عروضا ناجحة في السويد. الغريب في أمر هذه الآلة أنها تصنع من نبات القرع، فالقرع لا يوجد الا في مناطق جنوب السودان، ومع موت ورحيل العازفين الكبار، مات أيضا سر تصنيع وتجميع هذه الآلة. وقد اكتشف مؤخرا فنان بريطاني متخصص في صناعة آلة الرانجو، وتم تكليف هذا الفنان بصنع آلة جديدة لتضاف الى الآلتين الموجودتين حاليا. ومن حسن الطالع أن “مهرجان ووماد أبوظبي” الذي أقيم بتنظيم من هيئة ابوظبي للثقافة والتراث، وختم اعماله في نهاية شهر ابريل من عام 2010، قد احتضن فرقة الرانجو في عروض خاصة أذهلت الجمهور، وقد استمدت هذه العروض ايقاعها من فنون آلة (المريمبا) التاريخية التي تعود الى الاحتفالات الموسيقية السودانية التقليدية. وقد تميزت عروض الفرقة في المهرجان بمشاركة آلتي السمسمية والطنبورة في عملية الاداء بالاضافة الى تقديم فنون الرقص الإيقاعي. وكما هو معروف فان آلة الطنبورة يرتبط تاريخها بحفر قناة السويس. ويصاحب العزف على هذه الرانجو رقصة خاصة بحزام المنجور مع قرع الطبول الافريقية. والمنجور هو حزام عريض من القماش مثبت عليه عشرات من حوافر أو أظلاف الغنم الجافة وبعض الحيوانات الاخرى وأصداف البحر، يتم ربطه حول الوسط كنطاق، ويقوم الراقص بالهز وعمل حركات بوسطه وقدميه فيصدر من المنجور صوت إيقاعي عبارة عن (خشخشة). ومعظم أغاني الرانجو عبارة عن كسرات قصيرة يتم ترديدها من قبل المطرب، ويكررها البقية من خلفه أو يرد عليه بجملة أخرى ومن أشهر أغاني الرانجو أغنية بعنوان: يلالا بلدنا، وأغنية المامبو وحربية يا لواء. ويقدم مركز المصطبة نوع آخر من الموسيقى قائم على آلة الطنبورة، وهي عبارة عن علبة من الخشب أو قصعة أو طيق صاج مشدود عليه جلد رقيق ولها ذراعان متباعدان يسميان (المداد) يربطهما ذراع ثالث على هيئة قاعدة المثلث تسمى (حمالة) ويتم ربط الاجزاء بخيوط قوية من أعصاب الثور، وتشد خمسة أوتار على صندوقها المستدير ويسمى كل وتر (خيط) يتم شدها بما يسمى (الحواية) وتزين بالخرز والنقوش والدلايات، ويكثر استخدامها بوضوح في جلسات الزار. آلة الطنبورة من الناحية التاريخية عرفتها مصر في عهد الاسرة الوسيطة عام 2000 ق. م. وكانت أداة من أدوات بعث الروح في قلب وعقل المصري القديم، فعلى أنغامها داخل المعابد الدينية توحد المصري القديم مع نفسه وأرضه وصارت بينهما علاقة أبدية ندركها الآن ونعرف معناها خاصة في أوقات الانكسار والألم. عرفت مصر الطنبورة في تاريخها الحديث إبان حملة محمد علي باشا في السودان، الذي استعان في بناء جيشه على السودانيين، ومن خلالهم عادت الطنبورة الى الحياة في مصر، ليصبح غناؤها ذو مسحة دينية تختلط فيها ألفاظ ولهجات من السواحلية والعربية، ويتناول الكثير منها ذكريات الساحل الافريقي، ولكن جرت العادة ان يكون العازف لديه من المحفوظ ما يساعده على ذلك مثل قولهم: أشكي زماني يا جميلة الله رماني يا جميلة مشكاي لله يا جميلة وآلة الطنبورة معروفة منذ القدم عند أهل الخليج وبخاصة في مملكة البحرين وسلطنة عمان والكويت، حيث يقومون بنصب سارية طويلة تعلوها الاعلام الملونة ذات الأهلة المزخرفة، ويكون هناك راقص أو أكثر يحمل عصا ويتمنطق بحزام من أظلاف الأغنام يسمونه (المنجور) وله صوت يتلاءم مع الايقاع، كما يصاحبها أنواع من الطبول يطلقون عليها اسم (المناجيب) هذا بالاضافة الى آلة من آلات النفخ يسمونها (الصرناي). ويصاحب الطبل والغناء حركة ايقاعية منفردة من شاب يشد حول وسطه حزاما من قماش مثبتا عليه عشرات من حوافر الغنم الجافة والجلاجل، ويسمى هذا النطاق (الحزام) بالمنجور حيث يصدر عنه صوت ايقاعي يشبه صوت الخشخاش، وعندما يستهوي الطرب أحد المشاركين رجلا كان أو امرأة فانه يشارك في الرقص كما يهوى. والسمسمية والطنبورة هما آلتان من جنس واحد تقريبا وان كانت الطنبورة بالطبع هي الأساس. وتشير بعض الدراسات الفنية الى أن آلة الطنبورة هي من اقدم الآلآت الموسيقية الوترية المصرية القديمة التي عرفت في عصور ما قبل التاريخ وكانت تسمى (كنر) و(كنارة) ولا زالت تصنع بالشكل نفسه حتى الآن في مناطق النوبة وأسوان. وقد ظلت آلة السمسمية على حالها في وادي النيل محتفظة بطابع سلمها الخماسي، وما تزال حتى الآن في شكلها وعدد أوتارها الخمسة على النحو الذي كانت عليه في العصور القديمة، وهي شائعة الاستعمال في أعالي الصعيد وبخاصة في بلاد النوبة، وهي كذلك آلة محبوبة في مدينة بورسعيد. وتشير دراسة إلى أن منطقة قناة السويس تعرف (الطنبورة) باسم (السمسمية) وتوجد في أحجام متفاوتة، وقد بدلت حلقات شد الاوتار بمفاتيح (ملاوي) من الخشب. وتورد دراسة أخرى أن الطنبورة عرفتها القبائل الافريقية واستخدمتها قبائل (البجة) في النوبة، ثم انتقلت الى سواحل البحر الاحمر وسواحل قناة السويس. وفي دراسة أخرى هناك إشارة الى أن آلة الطنبورة ظهرت لأول مرة في عهد الحضارة السومرية في عام 2700 ق. م.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©