الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

النطاسي

النطاسي
11 أكتوبر 2013 20:14
قابلت هذا الرجل في قطار عائد ليلاً.. كنت منهكاً بعد يوم طويل شاق، ولا أشعر بقدمي بينما رأسي يرقص رقصته الخاصة فوق كتفي. عندما رأيته ينظر لي بتلك المودة شعرت بأنني حمل وديع يوشك أسد على الفتك به، وهو يضحك ضحكة شيطانية.. هذا رجل ودود!!! اللعنة!... رجل ودود!... رجل من الطراز الذي لن يتركني أنام في سلام.. هو راغب في الكلام.. راغب في إخراج تجاربه الخاصة، ولسوف يفتح أذني بالقوة، ويفرغ فيها كل ما لديه طيلة الطريق. ومعنى هذا أنني لن أنام لحظة واحدة في الساعة الباقية على وصول القطار. بالفعل أخرج شطيرة، وعرض علي أن آكل، فقلت لا بقلة تهذيب لعله يخرس.. أخرج بعض البسكويت.. رفضت. التهم طعامه ثم أخرج مظروفاً كبيراً به بعض الفحوص الطبية وقال وهو يجفف عرقه: ـ»دكتور عدنان عبد الحميد. أفضل طبيب في القاهرة.. لا شك في هذا..» معلومة مهمة جدًا لكنها لا تعنيني بتاتًا. لكن الرجل لم يكن ينوي أن يخرس.. وعرفت أننا سندخل قصة طبية طويلة عن مشكلات الرجل مع الإمساك أو الحموضة التي يعانيها بعد التهام السمك المقلي ليلاً.. إلخ.. لن يخرس أبداً.. وأنا مرهق.. قال لي: -«أفضل طبيب في القاهرة.. هل تعرفه؟» -«لا» -«إنه أستاذ في كلية الطب.. له عيادة كبيرة في وسط البلد» ثم حكى لي الرجل قصته المروعة.. لقد صحا من النوم ذات ليلة على ألم مخيف في بطنه.. حمله أهله إلى عيادة دكتور اسمه «مصطفى».. هناك فحصه الطبيب ثم كتب له علاجاً.. قضم الرجل قطعة بسكويت، وقال: -«هكذا.. عندما تناولت العلاج ساءت حالتي جداً.. وصرت أفرغ معدتي كل ثلاث دقائق.. هكذا حملني أهلي إلى طبيب يدعى «محمود»... فحصني وأعلن التشخيص الصحيح، وكتب لي علاجاً.. تعاطيت هذا العلاج فصرت أتلوى ألماً وأعض السجاد، وعندما حاولت زوجتي السيطرة علي قضمت أذنها». ثم أخرج لي ورقتين من التحاليل.. أنا طبيب فعلاً لكن من أخبره بذلك ؟ ومن أدراه أنني سأفهم شيئًا من هذه الشخبطة اللاتينية؟.. على كل حال قررت أن السياسة المثلى هي الصمت. لو قلت إنني طبيب لفتحت على نفسي أبواب جهنم.. سوف يحكي لي عن مرض الحصبة الذي أصيب به في سن الخامسة ومرض أبي كعب الذي أصيب به في العاشرة، ولسوف يسألني عن سبب تضخم إصبع قدمه اليمنى... هكذا تأملت الورقتين بلا اهتمام وقلت له: «إممممم». وهكذا واصل الكلام: -«حملوني وأنا أتلوى كالثعابين إلى دكتور «إيهاب».. طلب بعض التحاليل ثم أعلن أنه توصل للعلاج وكتب لي بعض الأدوية..» كنت أعرف بقية القصة طبعًا.. لن يشفى.. -«بالفعل .. صرت إلى الموت أقرب ورحت أرى في فضاء الغرفة وجوه أحبابي وأقاربي وكل تجاربي السابقة.. هذه من علامات الموت كما تعرف» -«لا أعرف .. فأنا لم أمت قط للأسف».. مد يده في المظروف وأخرج وصفة طبية ووضعها تحت أنفي.. كانت لها رائحة القرفة بالخل. لم أستطيع قراءة شيء.. الأطباء لا يقدرون على قراءة خط الأطباء.. لابد من صيدلي. لا أعرف الكثير عن الكتابة المسمارية لكن أعتقد أن صيدلياً هو الذي فك رموزها. واصل الرجل الكلام: -«في هذه المرة قال لي أولاد الحلال إن علي أن أقصد الدكتور عدنان عبد الحميد.. قالوا إنني أموت ويجب أن أذهب إليه.. هكذا حملني أهلي في سيارة استأجروها وأنا ألفظ أنفاسي الأخيرة، وقصدوا عيادة هذا النطاسي البارع.. أفضل طبيب في مصر كلها..» تثاءبت في سأم وقلت: -«هذا رجل بارع إذن.. لقد جعل الله الشفاء على يديه. أعتقد أنك لم تمت» -«بالفعل..» وقضم قطعة أخرى من البسكويت وتجشأ.. ثم قال: -«لقد شفيت بفضل الله تعالى ثم فضله» -«وماذا فعله؟» رأينا المحطة تدنو وبدأ الناس يتحركون قرب الباب، فجمع الرجل بقايا الطعام والبسكويت كلها في كيس بلاستيكي، ونهض ليلحق بالمتجهين للباب، ثم سمع سؤالي فقال: -«ماذا؟.. لم يكن موجوداً.. كان في مؤتمر طبي خارج البلاد. هكذا لم يفحصني ولم يكتب لي علاجاً، وهكذا نجوت من الموت بفضله!» وتوارى وسط الزحام على عكس ما توقعت. قلت لنفسي إن دكتور عدنان عبد الحميد هذا بارع فعلاً.. أعتقد أن عليَّ أن أجرب الكشف عنده مرة. د. أحمد خالد توفيق
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©