الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الغزل المُوَرَّى

الغزل المُوَرَّى
17 فبراير 2010 20:34
لم يكن قرار الخليفة المهدي بمنع بشار من أن يقول الغزل أول سابقة في هذا المجال، فقد عمد إلى ذلك أيضا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الذي “تقدم إلى الشعراء ألا يشبب أحدهم بامرأة إلا جلده، فجعل حميد بن ثور يتغزل بالأشجار” أي انصرف من النسيب إلى شعر الطبيعة، ولم يلبث قرار الخليفة أن سقط في النسيان، أمام تقاليد الشعر وضرورات الحياة والفن والأدب، ولكن بشار في مواجهة هذا القرار الجديد للمهدي حاول كما يقول الرواة أن يتبع طريق حميد بن ثور، فابتدع نوعا من الغزل يسميه بعض الباحثين “الغزل المُورَّى” أي الذى يستخدم التورية، ومن قوله: يا منظرا حسنا رأيته من وجه جارية فديته بعثت إلى تسومني ثوب الشباب وقد طويته والله رب محمد ما إن غدرت وما نويته أمسكت عنه وربما عرض البلاء وما ابتغيته والمفارقة اللافتة في هذه الأبيات أن بشار الأعمى يضطر إلى التغني بالمنظر الحسن الذي رآه في وجه الجارية، فهو يعتبرها من قبيل الأشجار والأنهار وآيات الطبيعة، وأكثر من ذلك فهو حريص على أن يعلن براءته من التحرش بها، بل على العكس؛ هي التي تسومه ثوب الشباب وتغريه بالنسيب وقد انقضى بالنسبة له عهد الفتون، ثم يقسم بأنه لم يعتزم الخروج عن الأوامر أو العذر بالعهد، بل أمسك عن كل ما يغضب الخليفة بالرغم من اعتراض البلاء/ الجمال له؛ ثم يعمد الشاعر إلى حكاية هذه الفتنة بطريقة فنية ماكرة تذكرنا ببعض حيل الظرفاء ممن يقسمون أنهم لن يقولوا كذا، فيبيحون بالسر وهم يزعمون نفيه: إن الخليفة قد أبى وإذا أبى شيئا أبيته ومخضّبٍ رخص البنان بكى عليّ وما بكيته قام الخليفة دونه فصبرت عنه، وما قيلته ونهاني الملك الهمام عن النساء فما عصيته بل قد وفيت ولم أضع عهدا ولا نأيا نأيته وأميل في أنس النديم غلى الحياء وما اشتهيته ويشوقنى بيت الحبيب إذا غدوت، وأن بيته؟ وهذه مقطوعة من أعذب وأرق ما قيل من شعر الغزل، وأبرز سماتها أن لسانك يسبق إلى النطق بقافيتها قبل أن تعرفها لتدفقها وتلقائيتها، وهو في الظاهر ينصاع لأمر الخليفة، لكنه لا يستطيع أن يتجاهل هذا المحبوب الذي يبكي عليه، وهو “مضب رخص البنان” على الرغم من غلبته على شوقه وعدم تحنانه إليه. الطريف أن الذى يحول بينهما هو شبح الخليفة الذي يضع نفسه في هذا الموقف، ولا يملك الشاعر سوى أن يمتثل له، وإن كان لا يستطيع أن يجفو محبّه أو يكرهه، فمن شيمته الوفاء، وهو يختم بهذا الطريف الذي ينتهي باستفهام دال: “ويشوقنى بيت الحبيب إذا غدوت، وأن بيته؟”. ففي ظل هذا التدخل السافر في الحياة الحميمة للناس يفقد السكن معناه ويضيع مكان البيت!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©