الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

«بين السماء والأرض» يستعيد الواقعية وسحر الأبيض والأسود

«بين السماء والأرض» يستعيد الواقعية وسحر الأبيض والأسود
15 أكتوبر 2011 01:15
(أبوظبي) ـ الحديث عن فيلم صلاح أبو سيف “بين السماء والأرض”، الذي عرض ضمن قسم البرامج الخاصة في مهرجان أبوظبي السينمائي، (بالأسود والأبيض ومدته 100 دقيقة)، يقودنا بالضرورة للحديث عن هذا الاحتفاء الجميل والرائع بمخرج كبير ورائد من رواد سينما الواقعية في مصر، وضع بصماته الحقيقية في دهاليز تلك السينما التي قدمت لنا روائع الأسود والأبيض، وسينما الزمن الجميل في عصرها الذهبي الذي ما زلنا نتحسر عليه، ومن ثم رحل بعد أن حمل لقب أبو الواقعية في السينما المصرية، ليعود ثانية من خلال برامج مهرجان أبوظبي السينمائي الدولي الخامس بجملة من الأفلام يتصدرها رائعته “بداية ونهاية” إنتاج 1959 في 140 دقيقة، والتي تعيد إلينا بدايات رحلة الممثل العالمي عمر الشريف في السينما، كما يعيد إلى الأذهان أن الفيلم تم تصنيفه في القائمة التي تضم أفضل 100 فيلم عربي في تاريخ السينما، وشملت القائمة جملة من روائع السينما العربية ومنها أفلام صلاح أبو سيف: شباب امرأة 1965، والفتوة 1957، والقاهرة 30 ـ إنتاج عام 1966، وفيلم “السقا مات” 1977، ولك يوم يا ظالم 1957، والوحش 1954، وأخيرا فيلم أنا حرة من إنتاج عام 1959. وهذا أيضا يقودنا للحديث عن ظاهرة لافتة في المهرجان، هي ما يتمثل في تخصيص برنامجه مساحة طيبة على خريطة العروض للأفلام القادمة من مصر بدءاً من فيلم “أسماء” لمخرجه عمرو سلامة، الذي يشارك أيضا في المهرجان بفيلم “التحرير ـ 2011 الطيب والشرس والسياسي”، مع المخرجين تامر عزت وآيتن أمين، وهو عبارة عن فيلم في ثلاثة أفلام، وهناك عنوان لكل واحد من الأجزاء الثلاثة وموضوع منفصل. ومرورا برائعة نجيب محفوظ “بين القصرين” لمخرج الروائع حسن الإمام، وكذلك فيلم “الجوع” لمخرجه علي بدرخان، وفيلم المخرج توفيق صالح “درب المهابيل” الذي يعيد لذاكرة الجمهور أحد أهم أبطال ونجوم سينما الأبيض والأسود الممثل شكري سرحان شريك سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة في العديد من الأفلام، ومن أهمها في الجانب السياسي “ليلة القبض على فاطمة”، الذي يفضح فساد مراكز القوى في فترة من الفترات الحالكة التي عاشتها مصر، كما يتألق شكري سرحان في المهرجان بفيلم للمخرج كمال الشيخ بعنوان “اللص والكلاب” مع شادية، وانتهاء بأحد أفلام ربيع الثورات العربية “18 يوم”، الذي يجمع 10 مخرجين دفعة واحدة وهم: شريف عرفه، كاملة أبو ذكري، مروان حامد، شريف البداري، خالد مرعي، عبد ميناء، أحمد عبد الله، يسري نصر الله، مريم أبو عوف، محمد علي، أحمد علاء، وسبق أن عرض هذا الفيلم في منافسات مهرجان كان السينمائي كذلك فيلم “المدينة” للمخرج يسري نصر الله، الذي يؤكد من خلاله على موهبة الممثل باسم ابوسمرة، الصاعد نجمه بسرعة الصاروخ في سلم النجومية والبطولات السينمائية المنفردة. هذا إلى جانب احتفاء آخر مميز للمهرجان بالمئوية الأولى لميلاد الروائي صاحب جائزة نوبل في الأدب نجيب محفوظ، الذي اقتنصت السينما العديد من رواياته المميزة وحولتها إلى أفلام، وبخاصة ثلاثيته الشهيرة، وفيلم “ثرثرة فوق النيل”، وهو من نوع الأفلام السياسية التي ناقشت هزيمة 67. هذه هي الصورة الأولى للسينما المصرية في المهرجان، صورة يطغى عليها ألوان الأسود والأبيض، مع تنويعات من ألوان سينما اليوم، ومع هذا المزج البديع، يظل فيلم “بين السماء والأرض” عن رواية نجيب محفوظ محتفظاً ببهائه القديم المتجدد، فهو في أقل تقدير يعيد لذاكرة الجمهور لمسات عدد من نجوم التمثيل والمسرح في عهد تلك السينما الجميلة وفي مقدمتهم محمود المليجي وهند رستم وعبد السلام النابلسي، وعبد المنعم إبراهيم، وعبد المنعم مدبولي، كما يعيد لنا تلك الموضوعات الممتعة، التي تجمع خفة الكوميديا، والدراما الاجتماعية ذات الصبغة الإنسانية، حينما يقدم لنا حكاية بسيطة وعميقة في ذات الوقت حول تعطل “مصعد كهربائي”، في إحدى البنايات بمدينة القاهرة، فيما يقوم بناء الفيلم وأحداثه على مشاعر مجموعة الأشخاص الذين يتعطل بهم المصعد بين السماء والأرض، فيما يكتشف المشاهد من خلال اختلاط مشاعرهم وقلقهم تنويعات من النقد الاجتماعي للعديد من المظاهر الاجتماعية والسياسية في قالب ساخر، تمتزج فيه مرارة الضحك، بعنصر “التشويق” البارع، وهو أحد خصائص صلاح أبو سيف، حينما يقدم في مصعده المتعطل، أنماطاً غريبة من الشخصيات في هذا الفيلم الذي يجمع أيضا أناساً عاديين، فهنا النجمة السينمائية التي جاءت لتصوير احد مشاهد فيلمها، وهناك اللص، والمرأة الحامل، والزوجة الخائنة، والمجنون الهارب، والزوج المسن المتصابي، والعديد من الشخصيات التي تحمل كل منها في داخلها مأساة وحلم، فيما يسهم وقوعهم جميعا في ورطة المصعد المعطل، إلى عودتهم عن أخطائهم إلى حياة سوية مثالية بعد إنقاذهم. ولعل أحداث هذا الفيلم تتطابق إلى حد كبير مع مضمون مسرحية “سكة السلامة” التي كتبها الراحل سعد الدين وهبة (1925 ـ 1997) وأخرجها الراحل سعد أردش، وإذا كان مطلوباً الحديث عن تقنيات فيلم “بين السماء والأرض” الذي حظي في عرضه في المهرجان بحضور جماهيري طيب، فالأفضل في تقديري الحديث أولا عن مخرجه المولود في 10 مايو عام 1915، والذي بدأ حياته في السينما بالعمل في أخطر عناصر بناء الفيلم ألا وهو (فن المونتاج)، ثم حط أول أقدامه على أسرار مهنة الإخراج السينمائي بعمله مساعدا للمخرج كمال سليم في فيلمه “العزيمة” والذي عدّه النقاد الفيلم الواقعي الأول في السينما المصرية. أما أول فيلم قام بإخراجه بعد عودته من بعثة دراسية في فرنسا كان بعنوان “دائما في قلبي”، المقتبس عن فيلم “جسر واترلو”، ليلتحق بعدها بركب السينما الواقعية بعد تأثره بمنهجها السائد في ايطاليا، مقدماً من منهجها فيلمه الذي لفت انتباه النقاد إليه وحمل عنوان “الصقر” وقدم فيه للجمهور ممثلين أصبحوا فيما بعد نجوم تلك السينما ومنهم عماد حمدي وفريد شوقي. لقد كانت الواقعية بالنسبة إلى صلاح أبو سيف، تعني أن ترى الواقع وأن تنفذ ببصرك وببصيرتك في أعماقه، وأن تدرك وتعي جذور هذه الظاهرة، لا أن تكتفي برصد ملامحها فقط، وهذا ما جسده تماما في واحد من أهم أفلامه بعنوان “الزوجه الثانية” 1967، الذي قدم من خلاله أهم نجوم السينما في ذلك الوقت أمثال صلاح منصور وسعاد حسني وشكري سرحان وسناء جميل، في عمل اجتماعي واقعي يكشف زيف مراكز القوى والفساد السياسي بجرأة فنية عالية في مرحلة كانت فيها السينما تسكت كثيرا عن المحظورات، وتغمض عين كاميرتها عن الفساد والمفسدين، وعن القهر الإنساني وخاصة في ريف مصر. لقد أمدت أفلام أبو سيف النقاد والمحللين بمادة ثرية خصبة للدراسة والبحث، نظرا لما تمتعت به تلك الأفلام من ثراء فني، ومفردات ولغة سينمائية، بحيث أصبحت مع الوقت مدرسة بحالها، بل بمثابة المعايير التي تقاس بها جودة الأفلام، ومن ذلك فقد تحدث الناقد والمؤرخ السينمائي الفرنسي جورج سادول عن أفلامه بقوله: “لقد خلقت أفلام صلاح أبو سيف في مصر تيارا لا تقل فاعليته عن تيار الواقعية الجديدة الذي نشأ في ايطاليا، وأدى إلى خلق موجات جديدة في سينما فرنسا وانجلترا وأميركا”. عودة سريعة إلى فيلم “بين السماء والأرض” يحسن بنا تذكير المتفرج المعاصر بنجومه ومنهم نعيمة وصفي، أحمد لوكس، سعيد أبو بكر، محمود مختار، كامل أنور، حسين إسماعيل، محمود عزمي، نظيم شعراوي، سامية رشدي، ومعظمهم من رواد المسرح، وهي ظاهرة مميزة لسينما زمان التي كانت لصيقة جدا بفن المسرح، وبالطبع نجمة الفيلم هند رستم التي رحلت مؤخراً عن 82 عاما، والتي اشتهرت بلقب “مارلين مونرو الشرق” والتي قدمت بالإضافة إلى هذا الفيلم، العديد من كلاسيكيات السينما العربية مثل: ابن حميدو، الجسد، نساء في حياتي، رد قلبي، باب الحديد، صراع في النيل، والأخير للمخرج عاطف سالم. وقد جاء أداؤها في الفيلم بسيطاً واقعياً، كما خطط له مخرجه، وكانت كعادتها لافتة للانتباه بقدرتها على سرقة الكاميرا والمشاهد التي تؤديها ببراعة، معتمدة في بعض المواقف على جمالها وأدائها الذي لا يشبه أداء أي من ممثلات جيلها. من المهم الإشارة هنا قبل أن نختم الحديث عن الفيلم، التنبيه إلى ظاهرة لافتة ذات صلة بموضوعنا وتتمثل في حضور اسم الروائي نجيب محفوظ بجانب اسم صلاح أبو سيف، ولعل ذلك يذكر بظاهرة الثنائيات التي برزت في السينما المصرية في عصرها الذهبي، فإن ارتباط محفوظ، بمعظم أفلام أبوسيف، يشكل تجانساً أدبياً فنياً فريداً من نوعه، ونجم عنه ظهور أفلام قوية، على مستوى الفكر والمضمون والتكنيك السينمائي والمعالجة والتناول، فقد اجتمعا في سلسلة أفلام على مستوى كتابة السيناريو، ما زالت تشكل علامة فارقة في السينما ومنها: المنتقم، مغامرات عنتر وعبلة، لك يوم يا ظالم، ريا وسكينة، الطريق المسدود، الوحش، شيء من العذاب، وغيرها من الأفلام التي سجلت نجاحاً كبيراً لثنائي الأدب والفن، ثنائي رحل، لكنه ما زال مختزنا في الذاكرة. رحل صلاح أبو سيف في 22 يونيو عام 1996، بعد أن قدم لسينما الواقعية نحو 40 فيلما كانت خلاصة الكلاسيكيات الممتازة، ومنها “بين السماء والأرض”، الذي حمل الكثير من المعاني والرموز، كبقية أفلامه التي كانت أيضا مصدر إزعاج مستمر للرقابة لأنها كانت تحكي بصراحة وواقعية عن الاضطهاد الاجتماعي من خلال الصورة في الرمز.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©