السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكابوس

الكابوس
15 أكتوبر 2011 09:51
كانت مدام عزة مولعة بالنظافة إلى حد الجنون.. في بيتها تجد كل شيء في مكانه، ويمكنك أن تمر بقطعة قطن على أي سطح أو جدار، فإذا وجدت أنها اتسخت قليلاً فهي كارثة.. هذا البيت يعتبر جحيماً لأي طفل يحترم نفسه، لذا كان أطفالها مصابين بنوع من العقد النفسية أو الخبال. ولو استطاعت لما أنجبت أصلاً، لكنها لم تكن تعرف أن الأطفال قذرون لهذه الدرجة. أما عن الخادمات، فهن يصبن بالجنون أو يهربن. وبالطبع يمكنك أن تتصور أن يدخل قطار الشقة.. هذا أسهل من دخول قط أو كلب. ذات مرة دخل الشقة فأر بائس أحمق.. ولم يجد الفأر وقتاً ليصاب بالرعب؛ لأن المكنسة هوت فوق رأسه، وسرعان ما كانت جثته في المرحاض.. بالطبع تمقت مدام عزة الزوار بشدة؛ لأنهم مهما كانوا نظيفين لن يبلغوا الدرجة التي تريدها.. ترغمهم على نزع أحذيتهم والدخول حفاة، لكنهم بالتأكيد سوف يلمسون الجدران وسوف تتساقط قشور الشعر من رؤوسهم.. الأوغاد!! ثم قرأت عن نوع صغير من الحلم يعيش على الجلد ويلتهم طبقات الجلد الميتة.. تصور تعبير وجهها عندما عرفت هذا!.. حشرات دقيقة على جلد الجميع بمن فيهم هي نفسها!! وبعد هذا، هناك أناس يتمسكون بالحياة ويرفضون الانتحار! لا أعتقد أن هناك غرفة عمليات جراحية يمكن أن تدعي أنها أكثر نظافة من منزل مدام عزة. ولو استطاعت مدام عزة لقامت بتطهير كل ما يدخل ويخرج من بيتها بالأشعة فوق البنفسجية، أو استعملت الأوزون... زوجها يصر على أن هذا وسواس قهري وليس نظافة، لكنه لا يقول هذا أمامها أبداً.. يقوله وهو في المقهى، حيث يلتهم الشطائر ويلقي بالورق على الأرض، ثم يشعل سيجارة أو اثنتين ويطفئهما بحذائه.. ثم يأتي بكيس من اللب يلتهمه ويبعثر القشور حيثما شاء.. إنه يعربد عربدة سريعة عابرة قبل أن يعود للمعتقل... جلست مدام عزة ذات يوم تشاهد نشرة الأخبار، فرأت مشهداً جعل عينيها تجحظان رعباً.. رأت جنود الاحتلال يقتحمون بيتاً، والأسرة كلها تتكوم خائفة في الصالة، بينما هؤلاء الجنود الغلاظ يدخلون غرفة تلو أخرى، ويقلبون محتويات الأدراج وخزانات الثياب ويقلبون المراتب والبطاطين.. إلخ.. كان المشهد مريعاً لدرجة أنها أطفأت الجهاز وراحت تردد: ـ «هذا شنيع!.. شنيع.. مستحيل أن يحدث!». وراحت تتابع الصحف في رعب.. لو دخل الغزاة البلاد فلسوف يفتشون بيتها. بالطبع أحذيتهم غليظة قذرة متسخة يكسوها الغبار، وبالطبع سوف يقتحمون الشقة. سوف يلوثون البساط ويقلبون الشراشف. الأسوأ أن يستعمل هؤلاء الخنازير الحمام.. بالطبع لن يستعملوا طارد الماء وسوف يلوثون المناشف.. كانت ترى نفسها واقفة على الباب تحمل بازوكا عملاقة تصوبها نحوهم، وتصرخ: ـ «لن يدخل أي خنزير منكم البيت!».. يتبادل الجنود النظرات.. فتشير إلى أحذيتهم: ـ «على الأقل انزعوا الأحذية!». يقرر الجنود ألا يكونوا شديدي العنف.. إن قوة شخصية السيدة ترغمهم على الطاعة. هكذا ينزعون الأحذية ويدخلون.. هنا يفاجأون بصراخها الهستيري لأن أحدهم يضع لفافة تبغ بين شفتيه.. سوف يسقط الرماد على السجادة الجديدة.. في النهاية يقررون أن هذه المرأة لا يمكن أن تخفي أسلحة لسبب بسيط هو أن الأسلحة تحدث فوضى.. وينصرفون وهم يتنفسون الصعداء.. هكذا يمكنك فهم لماذا تتابع مدام عزة الأخبار بهذا النهم، ولماذا تحب السلام وتمقت الحرب.. ليس السبب أنها وطنية، ولكن لأنها مصابة بوسواس النظافة.. وهي ليست شجاعة، لكنها ستمزق بأسنانها كل من يجرؤ على تجاوز عتبة بابها، وهو يلبس حذاءه، حتى لو كان حلف شمال الأطلنطي نفسه... د. أحمد خالد توفيق
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©