الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ابن اللبانة: لا يتكرر من التاريخ إلا خطاياه

ابن اللبانة: لا يتكرر من التاريخ إلا خطاياه
9 أكتوبر 2013 21:35
الدكتور عارف الكنعاني أجد نفسي مرّة أخرى مندفعاً إلى إكمال الحوار الذي بدأته في الحلقة الماضية مع ذلك الشاعر الأندلسي الوفي المبدع (ابن اللبانة)، وهو أبو بكر محمد بن عيسى بن محمد اللخمي الداني، والداني نسبة إلى دانية إحدى مدن الأندلس. شب ذلك الشاعر ليدرك أول ما يدرك أنه يتيم بلا أب، وأن أمه هي التي تعيله ببيعها اللبن ومشتقاته، وأن الجميع يطلق عليه اسم ابن اللبانة، فلا يغضب ولا يشعر بالنقص بل ينطلق من واقعه الصعب ليبني نفسه ويتسلَّح بالعلم والأدب وموهبة الشعر، ليسجل اسمه في السجل الذهبي لشعراء الأندلس العظام، ولينسج قصّة من أجمل قصص الوفاء والثبات على الولاء لمن كان صديقاً وولياً للنعمة الملك الشاعر المعتمد بن عباد ملك إشبيلية.. قلت له: ? حضورك مرّة أخرى أسعدني يا أبا بكر. ـ ولماذا لا تقول يا ابن اللبانة.. أنت تعرف أن هذا اللقب يريحني كثيراً. ? حسناً يا ابن اللبانة.. أجمل ما في مسيرتك هو وفاؤك للمعتمد بن عبّاد.. لم تتغير عندما قلب له الزمن ظهر المجن. ـ وهو أيضاً لم يتغير.. ظل وهو أسير ملكاً مهاباً. ? هل اقتصر وفاؤك له بزيارته في سجنه في أغمات؟ ـ زياراتي المتعددة والطويلة له في سجنه كنت أرضي نفسي بها ولم تكن واجباً أؤديه. ? وهل قدمت غير تلك الزيارات في فعل الوفاء والولاء. ـ صدقني يا ولدي أنني كرست ما بقي من عمري لخدمة ذلك الرجل. ? أي خدمة وهو أسير لا حول له ولا قوّة ولا فعل؟ ـ كان منشغلاً بالحكم وخدمة الناس ولم يجمع شعره في ديوان. ? أجمعته له؟ ـ نعم جمعت ذلك الشعر العظيم في كتاب أسميته “سقيط الدرر ولقيط الزهر”.. ? هذا فعله غيرك أيضاً. ـ ولكنني فعلت ما لم يفعله غيري في كتاب ألفته في تاريخ دولة بني عباد وأخبار ذلك الرجل العظيم. ? أنت تقصد كتابك “نظم السلوك في وعظ الملوك”. ـ هذا صحيح. ? ولكن ذلك الكتاب كان أشبه بالمرثية وأقرب إلى الشعر منه إلى التأريخ الرصين. ـ هذه هي عادة الشعراء عندما يضطرون إلى النثر. ? حدثنا المدونون أنك قمت بعمل ثلاثة كتب.. فما هو الثالث؟ ـ إنه “مناقل الفتنة”.. بالإضافة إلى كتاب اسميته “الاعتماد في أخبار بني عباد”. ? ولماذا لم يصلنا حتى كتاب واحد منها؟ ـ لست الوحيد الذي ضاعت كتبه ومحا الزمن حروفه.. ? لا أخفيك يا ابن اللبانة.. ما وصل إليّ من شعرك جعلني أراك معاصراً، وكأنك تعيش الأحداث التي تمر بالأمة العربية الآن.. فهل التاريخ يعد نفسه؟ ـ التاريخ لا يتكرر فيه إلا الخطايا التي تقود إلى المآسي. ? اسمعني شيئاً من شعرك يا ابن اللبانة. ـ أسمعك تلك الأبيات التي نظمتها رداً على أبيات أرسلها لي المعتمد بن عبّاد بعد نكبته وسقوط مملكته، ونفيه إلى المغرب. بروق الأماني دون لقياك خلّب ومشرق أفق لم تلح فيه مغربُ عدمت مرادي فيك لا الماء نافعٌ ولا الظل ممدودٌ ولا الروض مخصبُ سقى الله عهداً كنت صيّب عهده بمثل الذي قد كنت تسقي وتشرَبُ زمانٌ بماء المكرمات مفضض لديك ومن نار الكؤوس مُذْهَبُ ? أود أن أهمس في أذنك أمراً ولكنني أخاف أن تغضب. ـ علمني المعتمد أن أكون حليماً ولا أغضب.. فقل ما تشاء مطمئناً. ? بعد المعتمد وجدناك ترحل إلى ميورقة وتمدح ملكها ناصر الدولة مبشراً العامري.. مع أنني كنت أتصوّر أنه لن تمنح ودّك ومدحك لملك آخر غير المعتمد.. ـ لا تنس يا ولدي أنني أحتاج أن أعيش.. ونحن الشعراء في ذلك الزمن، لا مورد لنا إلا ما يجود به الممدوحون.. بمعنى آخر كان عملي كشاعر يحتم عليّ البحث عمن يستحق المدح. ? وهل استحق ناصر الدولة منك كل ذلك المدح الذي تناقله المدونون. ـ كان حقيقة شهماً وكريماً ولكن.. ? ولكن ماذا.. ألم يكن في مستوى ابن عباد؟ ـ المسألة ليست مسألة مستوى.. إنها المشاعر.. لم استطع على الرغم من الجهود التي بذلتها أن أكرس له مشاعري.. كان صديقي المعتمد هو الذي حاز مشاعري كلها، سواء في أيام مجده أو أيام شقائه أو حتى بعد رحيله عن هذا العالم.. والشعر يا بني يكون خالداً ورائعاً حينما يغرف من ماء المشاعر الصافي، أما في غياب المشاعر، فإن الشعر يكون صنعة. ? شعرك في ناصر الدولة ملك ميورقة كان صنعة أو بكلمة أخرى كان متصنعاً. ـ لا يا ولدي.. صنعة الشعر لا تحتمل التصنع.. ولكن قصائدي في الرجل كانت أقل عاطفة وأكثر إظهاراً لقوّة الشعر وجزالته.. حتى إن ابن بسام قال عني في ذخيرته: كان ابن اللبانة شاعراً يتصرف وقادراً لا يتكلف مرصوص المباني، منمق الألفاظ والمعاني. ? لعلّه يجاملك. ـ وهل ابن خاقان مجامل أيضاً؟ ? ماذا يقول؟ ـ يقول: إنَّ ابن اللبانة مد يد الباع، فريد الطباع، مَلَكَ للمحاسن مقاداً وغدا له البديع منتقاداً. ? قرأت أيضاً لمؤلف “سمط الجمان” عندما ذكرك وسجل بعض شعرك قوله، إن ابن اللبانة سموأل الشعراء وريحانة الأمراء. فهل تسمعني شيئاً مما قلته في ناصر الدولة؟ ـ أقول: وعمرت بالإحسان أفق ميورقة وبنيت فيها ما بنى الإسكندر فكأنها بغداد أنت رشيدها ووزيرها ـ وله السلامة ـ جعفر ? هذا جميل حيث اتكأت على مجد هارون الرشيد فوهبته للممدوح صاحب ميورقة ومنحت وزيره جعفر صفات وزير الرشيد العظيم جعفر البرمكي ولكن تلك الجملة الاعتراضية وله السلامة اعتبرت من أجمل الحشو.. ـ أقول في ناصر الدولة صاحب ميورقة أيضاً: شكى لشكواك حتى الشمس والقمرُ وبات درُّ الدراري الزهر ينتشر وراحت الريح لا يذكر لها عبقٌ وأصبح الروض لا يندى له زهرُ وقلّص الظلُّ في نصل الربيع لنا فكادت الأرض بالرمضاء تستعر يومان غبت فغاب الأنس أجمعه وأي أنسٍ إذا ما غبت ينتظر؟ يا ناصر الملك إن الملك وجه علا وليس غيرك فيه السمع والبصر .. ? شعر قوي.. ولكن.. ـ لا تقل ولكن يخلو من العاطفة. ? أنت قلت. ـ صدقني أن العاطفة هي التي صنعت هذا الشعر الجميل. ? لو قلت هذا الشعر لحبيبتي، لصدقتني، وأدركت كم أحبها، وكم يشق عليّ فراقها ولو يوماً واحداً.. ولكن أن أقوله في مدح ملك. ـ بغير الحب لا يكون الشعر، وإن لم أحب الممدوح فلن يكون مدحي إلا كلاماً فارغاً من أي مضمون. ? لم أسمع غزلك حتى الآن يا ابن اللبانة.. ألم تقل في الغزل؟ ـ قلت في الغزل الكثير.. ولكن معظم غزلي كان في مداخل القصائد التي نظمتها في مدح المعتمد أو ناصر الدولة. ? دعني من هذا الغزل الذي تتكئ عليه لتصل إلى ممدوحيك وأسمعني غزلاً حقيقياً. فؤادي معنيّ بالحسان معنّتُ ولك موقَّى في التصابي موقَّتُ ولي نَفَسٌ يخفى ويخف رقةً ولكن جسمي منه أخفى وأخفت وبي ميِّت الأعضاء حيٌ دلالة غرامي به حيٌّ وصبري ميِّتُ أذل له في هجره وهو ينتمي وأسكن بالشكوى له وهو يسكتُ وما أنبتَّ حبل منه إذ كان في يدي لريحان ريعان الشبيبة منبتُ ? هل أصارحك القول يا ابن اللبانة؟ ـ أعرف ما تريد أن تقوله.. ? وكيف عرفت؟ ـ من خلال نظرات الحيرة التي كنت تتابع فيها شعري.. إنك لا تراني صادقاً إلا من خلال قصائدي بالمعتمد بن عبّاد. ? لأنك عشت ذلك الشعر.. ولأنك غرفته من شرايين قلبك. ـ كيف لا.. وكان ذلك الصديق الملك الشاعر، فارساً ندر وجوده، وجاوز حدود الكون جوده، وعندما أسره المرابطون بعد قتال عنيف حملوه وعائلته على تلك السفن التي غادرت شواطئ الأندلس واتجهت إلى الغرب.. كنت أتابع المشهد وأرى دموع الناس وهي تمتزج بمياه البحر.. فكيف لا يكون الشعر في هذا الموقف مغمساً بالعاطفة، مملوءاً بالمشاعر الصادقة؟ ? وماذا قلت يا ابن اللبانة؟ ـ اختار لك بعض أبيات من هذه القصيدة التي كانت أول رثاء لملك حي.. وصديق لا يموت.. تبكي السماء بمزنٍ(1) رائحٍ غادي على البهاليل(2) من أبناءِ عبّادِ على الجبال التي هُدَّت قواعدُها وكانت الأرض منهم ذات أوتادِ وكعبة كانت الآمال تعمرها فاليوم لا عاكفٌ فيها ولا بادِ لما دنا الوقتُ لم تُخلَفْ له عدةٌ ولك شيءٍ لميقاتٍ وميعادِ يا ضيفُ أقفر بيت المكرمات فخذ في ضم رحلك واجمع فضلة الزادِ ويا مؤمِّلَ واديهم ليسكنه خف القطين(3) وجف الزرع بالوادي ضلت سبيل الندى بابن السبيل فسر لغير قصدٍ فما يهديك من هادي خانت أكفَّمُ الأعضاد فانقطعوا وكيف تقوى أكفٌ دون أعضاءِ غابت عن الفك الأرضيّ أنجمهم فليس للسعد فيهم نور إسعادِ وبُدِّلوا غيرنا قوماً فنحن نرى تركيب أرواحنا في غير أجسادِ هي المقادير لا تبقى على أحدٍ وكل ذي نفسق فيها لآماد وأسوةٌ لهمُ في غيرهم حسنت فما شماتةُ أعداءٍ وحسّادِ إن يخلعوا فبنو العباس قد خلعوا وقد خلت قبل حمصٍ(4) أرض بغدادِ إنا إلى الله في أيامهم فلقد كانت لنا مثل أعراسٍ وأعيادِ تباً لدينا أذاقتهم حوادثها برح العذاب وما دانوا بإلحادِ ذلوا وكانت لهم في العز مرتبةٌ تحطُّ مرتبتيْ عادٍ وشدّادِ كانوا الملوك ملوك الأرض فانصرفوا وما لهم حومة فيها ولا ناد حان الوداع فضجّت كلُّ صارخةٍ وصارخ من مفداةٍ ومن فادِ سارت سفائنهم والنوح يصحبها كأنها إبل يحدو بها الحادي كم سال في الماء من دمع وكم حملت تلك القطائع في قطعات أكبادِ وأين معتمدٌ نعمى يقسمها مرعيٍ وماءً لزوّارٍ وروّادِ لقاكم الله خيراً إنكم نفرٌ لم تعرفوا غير فعل الخير من عادِ إن كان بعدكم في العيش من أربٍ فإن في غصصِ عيشي وأنكادِ معاني الكلمات: 1 - المزن: السحاب المحمل بالمطر. 2 - البهلول: الحي الكريم 3 - القطين: القاطن أو الساكن المقيم. 4 - حمص: هي أيضاً مدينة في الأندلس كانت تابعة للمعتمد بن عبّاد. المراجع: 1 - ديوان ابن اللبانة الداني/ جمع وتحقيق الدكتور محمد مجيد السعيد. 2 - أعلام النبلاء/ الذهبي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©