الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ترانسترومر.. كثير جدا من الهواء

ترانسترومر.. كثير جدا من الهواء
12 أكتوبر 2011 20:39
حتى هذه اللحظة من صدور “الاتحاد الثقافي”، يكون حبر كثير قد أجرته أقلام عربية، في الصحافة اليومية تحديدا، عن الشاعر السويدي توماس ترانسترومر، الحائز على جائزة نوبل للآداب لهذا العام. أثناء ما كانت هذه الدراسة قيد الترجمة، خاصة وأن الرجل قد حقق، بعض الشيء، حضورا مسبقا في الثقافة العربية إذ أن هناك ترجمتين عربيتين لأشعاره إحداهما، “الأعمال الكاملة ـ توماس ترانسترومر” عن دار بدايات 2005 وكتب مقدمته الشاعر أدونيس وصدرت في دمشق التي زارها ترانسترومر لتلك المناسبة، والأخير ترجمة كاملة لديوانه “ليلا على سفر” الذي صدر العام 2003 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان. في أي حال، ما يلي ترجمة لاقتطاعات واسعة من مقالة: “توماس ترانسترومر: كثير جدا من الهواء” حول ما هو جوهري في شعر ترانسترومر، كتبها أحد النقاد والشعراء الأميركيين، توم سليف، الذي حاز العديد من الجوائز عن كتبه الشعرية مثلما قام باختيار وتحرير العديد من الأنطولوجيات الخاصة بالشعر الأميركي المعاصر، وهو يعمل أستاذا في برنامج الماجسير في الكتابة الإبداعية في كلية هنتر. بات تلقّي قصائد توماس ترانسترومر خلال السنوات الثلاثين الماضية جزءا من تاريخ الأدب الأميركي: إذ على نحو مقبول وواسع تُرجم من السويدية، وتحدث عنه معجبون به من الناطقين بالانجليزية مَنظورا إليه من زاوية “الصورة العميقة”. من الصعب، هنا، تذكُّر الكيفية التي تحدث بها شعراء العاطفة عن “الصورة العميقة”، هي التي على نحو ضبابي، قد اقترحت شعرا أمكن له أن يحدد حقائق مطلقة إنْ وصلتْ، فقط، صورُ الشعراء النابضة بالحياة من مصادر عميقة بما يكفي وغير ملوّثة عن طريق تاريخ الصواب وحماقاته، وذلك مثل فكرة الإخلاص للشعر بوصفه نوعا مستقلا غير مَدين بالفضل للاستخدامات الاجتماعية للكلام، وما يزال محتفظا بإغواء عميق وبجنّة عدْن لغويةٍ تنطوي عليها الطاقة الشعرية البدئية. لكنها، أي فكرة الإخلاص للشعر، قد تجاهلت ما يريده الشعر ليفعل ـ أو على الأقل الشعر الذي أريده كي أقرأ ـ حتى يواجه الشعرُ القارئَ بعالم من الأفكار والمشاعر الشخصية كما لو أنها تَوْقٌ شديدٌ يستطيع المسافر أن يشعر به أثناء رحلة طيرانه فوق “الجحيم” بينما يدوّن كلَّ انخفاض فارتفاع أو كلَّ رجَّةٍ بوصفها موضوعيةً بكل ما في الكلمة من معنى وصدمةً محتومةً تاريخيا. تدفق ذهني وعلى نحوٍ شبيه، ولأن “الصورة العميقة” مبدأ في التأليف، فقد شجعت الشعراءَ على إطلاق العنان لأشكال مختلفة من التدفق الذهني، وكان واحدا من هذه الأشكال مشروطٌ بميثولوجيا العودة العَدْنية إلى اللغة بوصفها وسيلةً مقدسة. هذه الميثولوجيا تجاهلت أحد الانشغالات البدئية في شعر ترانسترومر: بحسب إشاراته إلى الصدمات التي تُحدِثُها الحياة الحديثة، فالشاعر ينبغي عليه أن يكون مستعدا للدخول إلى تاريخ ما، كي يبتكره، إنما ليس كتعاقب كرونولوجي فقط بل كنسيج نصّي وإحساس فذَّيْن، وهو ما دعاه والتر بنيامين: aura – أي ذلك الإحساس بالتيار الهوائي البارد الذي يسبق نوبة من الهيستيريا. و”الصورة العميقة”، من جهة أخرى، قد أُلْزِمَتْ بالتموضع في عالم ما قبل التاريخ، وكأنما الذاكرة كانت قناةً مباشرةً إلى اللاوعي الجمعي الداخلي، وكأنما البنيات الشعرية المحددة زمنيا تمثِّل عائقا أمام تلقي النماذج البدئية. ليست رغبةُ “الصورة العميقة” بالتقدم دون وسيط هي العلامة الحقيقية لشعر ترانسترومر ولا الافتتان الراهن بخلط أسلوبيات تعود إلى أزمنة مختلفة، فلقد “تحرر” ذلك التقدم من أصله التاريخي. وليست مقاصدُ ترانسترومر قمعَ الخبرة أو إحباطها في سبيل نقاء بدئي، أو في سبيل العجائبي؛ أو السيمفوني المعرفي، إنما كانت مقاصده أنْ يصنع للقصيدة مكانا أينما أمكن لتلك الصدمات أنْ توجد. واللامبالاة الخفيَّة والانفصال في قصائده هما كي تتوجّس تلك الصدمات باستمرار من حدثٍ أخيرٍ وشيك. والحدث الأخير، وقد أُشير إليه خفيةً، هو اقتحام القوى اللامنطقية ـ طبيعيةً كانت، أم تاريخيةً، أو حتى نفسية ـ للحظات الصدمة التي تتبدى على حافة بركان يحدث في السموّ الرؤيوي الذي بوسعه أن يكافئ الشاعر لكونه الرحيم بتلك القوى اللامنطقية ذاتها. اللحمة والتماثل على النقيض من ذلك، تتخيل قصائد ترانسترومر تلك الفضاءات التي يسكنها العُمق بالتالي، كأنه مياه جوفية تتدفق إلى الأعلى نحو الآبار. وهذه الفضاءات هي أي شيء كان، لكنها ليست تاريخية. في حقيقة الأمر، فالتاريخ نفسه هو القوة الرئيسية هي سبب معاركه مع العميق. في قصيدته “فيرمير” كما في “القبطان المنسي”، يواجه الشاعر فيضا من العمق الذي يعلن عن وصوله، بنفسه، في حقائق محددة تاريخيا، حانةُ القرن السابع عشر في حالة سابقة، تنقل حربٌ عالمية ثانية دوريات حرس شمال الأطلسي في السنة الأخيرة. تصنع مشاعر ترانسترومر لٌحمةً بين تاريخ مصائرنا وبين خصوصية هذه المصائر، وقد تأسست اللُحمة على ما دعاه بودلير “التماثل” في “الارتجافات الغنائية للروح، وتموّجات موجة الحلم، وصدمات الوعي” التي تهتز مع أو ضد أوضاع اجتماعية معيّنة ولدنا فيها. وسمعيا، فإن قصائد ترانسترومر هي حجرات قد أُعِدَّت إعدادا تاما لعزف كل تلك الذبذبات التي من الممكن الإصغاء إليها دون توتر. في قصيدته “شوارع في شانغهاي” ترجِّع الثمالة العاطفية لـ “الكرود” (آلة موسيقية وترية سلتية قديمة) صدى النغمات الموسيقية الأكثر عتمة: “غالبا، نطل من النافذة سعداء بالشمس، بينما ننزف دما إلى موتٍ بسبب جراح لا نعلم شيئا عنها”. ضمنيا، يُسهم طَبْعٌ ينطوي على المفارقة في الرؤية في ما أجد أنه الإغواء في صنيع ترانسترومر (وربما في إتلاف النموذج الشعري السائد في عصرنا). إن الفهم واسع الإدراك للكيفية التي تبني بها غاباتُ الرمز توافقا شخصيا مع حيواتنا المتخيّلة يجادل ضد الافتراضات الأساسية لنظرية اللغة وفقا لما هي عليه في “ما بعد البنيوية”. شخصيا، وبالنظر من زاوية العاطفة التي جرى اختبارها، فما من شيء استبدادي أو قسري بالمعنى السياسي فيما يتصل بالبنيات الشعرية الموروثة، تلك التي تتحدانا بتماسكها الأعظم عندما تواجه خوفَنا والتباسَنا قبل أن تهددنا مفارقات أخرى يقترحها ترانسترومر في نهاية “شوارع في شاننغهاي” و”جزيرة حياة، 1860”: “هذه اللحظةُ تضرِّج بالدم فيوضا تخرج من الأبدية، هذه اللحظة تنزف دما في الخلود”. يبرهن إدراك الشاعر نوعين من الزمن، وعلاقاتهما المتداخلة عبر التضرُّج بالدم والجرح، على الكيفية التي تصطدم بها المصائر الشخصية بمقولات مثل “الخلود”. إن تدوين الشاعر للتأريخ يشير إلى احترامه لما هو من صنيع الإنسان تاريخيا، فالغابات الكائنة في الرمز تخفف من صدمة الفراغ، بل إنها أيضا ترجِّع صدى تأثيراتها المقلقة. يبني عمل ترانسترومر فضاءات تمنحنا ذلك الفراغ، لكن دونما إنكار للطبيعة التي تمثِّل اللحظة التاريخية للقصيدة. بهذه الطريقة الهادئة في مواجهة الفراغ في “أعماق البحار الباردة” الذي يتنامى في كينونتنا، يبدع ترانسترومر قصائد يستضيف فيها “جهنَّم”، إنما يظلُّ يعترف بالإحساس المتقلِّب بهذا الفراغ الكثير جدا الذي يسكن إلى الأسفل منّا. عند اختتامه قصيدة “فيرمير” يأخذ هذه الدينامية بين الفراغ والذاتية الشخصية خطوة إضافية إلى الأمام: “السماء الرقيقة تتخذ مكانها مائلة قُبالة الجدار. إنها كمَن يبتهل لما هو فارغ. وما هو فارغٌ يقْلِبُ وجهها إلينا ويهمس: أنا لستُ فارغا، أنا حرٌّ”. ترجمة: جهاد هديب
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©