الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شدو متعدد الأبعاد

شدو متعدد الأبعاد
13 أكتوبر 2011 17:47
من الطبيعي أن يحفل الجنس الأدبي الواحد اختلافاً، في اللغة، والتركيب والنمط التوصيفي والأبنية المشكلة لأنواع الجنس الواحد، ناهيك عن الموضوعات التي لا حدود لها، حتى وإن تكررت، ولكن بأوضاع مختلفة. وقبل أن ندخل إلى تطبيق هذا المفهوم على نصوص شعرية مثلاً، لنقل إن فن الشعر الكلاسيكي قد حفل بصدمة الاستهلالات، إذ الاستهلال في قصيدة العمود بناء غير تراكمي، فهو مفتتح يأتي من فراغ، هو فاتحة النص، وبوابة اللذة. الشعر صورة صادمة بلذة غير متوقعة. الشعر بناء في حدود الموسيقى. الشعر كيان جسدي له وظائفه. الاستهلال عنصر مهم في قصيدة الكلاسيك، هو دهشة المتلقي، وغيبوبة الحلم واللاتوقع، حيث يعمد الشاعر إلى صورة لا متوقعة في شكل وبناء متوقع مع ملاءمة وانسجام مع القافية، فهو تمهيد وعتبة إلى مجاهل الأبيات الأخرى المكملة. صدمة القصيدة في استهلالها، إذ لا نجد قصيدة كبرى في أدبياتنا الشعرية عبر عصور الشعر العربي إلا وقد عرفت باستهلالها، إذ لا تقال كل القصيدة عندما نريد التذكير بها حيث يكفي أن تقول “قفا نبك” أو “بانت سعاد” أو “على قدر أهل العزم” لعرفنا قائليها امرؤ القيس، أو “كعب بن زهير بن أبي سلمى، أو المتنبي. تلك هي خصيصة تنفرد بها قصيدة العمود ولا أرى شيئاً منها في قصيدة التفعيلة أو النثر، غير أن هاتين القصيدتين المتأخرتين زمنياً تحملان خصيصة أخرى لا تقل أهمية عن خصيصة الاستهلال ومن الغريب أنها تتجلى في خواتيمهما وهي الصدمة أو الضربة الموحية في قصيدة التفعيلة، والصورة المركبة في قصيدة النثر، التي عادة ما تبني دهشتها على تشييد صورة خارجة عن المألوف والعادي حال إمكانية تفعيل ذهن المتلقي على تركيبها. وربما يختلف معي الكثيرون حين أقول إن قصيدة الكلاسيك تمتاز باستهلالها وقصيدة التفعيلة بصدمة نهاياتها وقصيدة النثر بأفق توقع تركيبة صورها، وهذا ما دفع يمنى العيد الى أن تؤكد على أن نظام القافية في قصيدة الكلاسيك قد عوض عنه في قصيدة النثر بنظام تراكم الصور، إذ حالما ينتهي المتلقي من تركيب صورة تأتيه من “الباث/ المرسل” تراه يستقبل صورة جديدة عليه تركيبها أيضاً، هذا التفكيك والتركيب، والاستقبال والتأويل هو ما يخلق التواصل بين المرسل والمرسل إليه، وبذلك تنجح القصيدة/ الرسالة في تأثيرها، فكلما كان التواصل بينهما قليل الفجوات والفراغات كلما نجحت القصيدة في هدفها. كل هذا لا يعني أن عنصر الاستهلال أو عنصر الصدمة أو عنصر تراكم الصور هو العنصر الوحيد في هذه الأنماط المختلفة من جنس الشعر بل تتعاضد معها عناصر أخرى تكميلية بالضرورة، والتي تمتلك أهميتها ولا يمكن الاستغناء عنها وبخاصة شفافية اللفظة وحسن مجاورتها وانسيابية القافية وهدوئها والتركيب اللغوي المعبر عن المعنى. القصيدة لم تعد عنصراً محايداً، حتى قصيدة الوصف، هي في مكونها العام التقاطات حسية ولا شعورية في الآن نفسه لما يريد الشاعر أن ينتقيه وما لا يريد، أي أن القصيدة الواصفة تتصل بمصدرها الذي هو الشاعر قبل أن تتصل بعالمها الذي هو خارج حدود كلمات الواصف. لقد سقت هذه المقدمة كي أناقش وأقرأ ديواناً مهماً صدر حديثاً للشاعر حبيب الصايغ تحت عنوان “كسر في الوزن”. وهو الديوان العاشر في مسيرته الإبداعية. المتكلم والغائب العنوان “كسر في الوزن” توصيفي صعد إلى أن يكون عنواناً للمجموعة الشعرية من قصيدة طويلة للشاعر بالعنوان نفسه وهي في مجملها حوار بين “قالت” و”قلت” و”ليلتي” و”ليلتها”.. وكأن ضمير المتكلم والغائب هنا مدعاة للاختلاف الذي يؤدي إلى اختلاف وزني على مستوى القول أولاً وعلى مستوى المضمون “المعنى” ثانياً. قصيدة “كسر في الوزن” بنيت على أساس الاختلاف، الذي يقود إلى أن نفهم معنى السر لا على أساس اللفظ بل يتماهى في المكون الدلالي، ومن الغريب أن الشاعر يطرح هذا الاختلاف بوصفه اختلافاً منطقياً، فما بالنا لو أن ليلتها أسلمته وحيداً إلى ليلتي؟ وكيف يمكن أن نتصور عالم هذين المتحاورين “قلت” و”قالت”. “لو تلاقت خطانا على ليلتين من الاحتضار العميق؟”. أو أنها يمكن أن تلتقي بالشاعر: “لو أتتني بلا ليلة مرة”. هنا يمكن أن نقرأ جدلية القصيدة في أن هاتين الليلتين لم تلتقيا ابداً حتى افتراضاً، وهذا الافتراض قد أسسه الشاعر نفسه ولم يجب عنه، وبذلك يتأسس عنوان القصيدة “كسر في الوزن” بشكل واضح وغير ملتبس. يضعنا حبيب الصايغ مباشرة في معادلته الحوارية بعيداً عن التوصيف: “وقالت: أجرّك حالاً إلى ليلتي قلت: بل ليلتي واختلفنا”. جدلية الاختلاف في هذه الأسطر الثلاثة نجد جدلية الاختلاف التي يقررها الشاعر والتي تنبني كل القصيدة على أساسها حيث يمجد الشاعر ليلته وتمجد الأنثى ليلتها ولا يقتربان من بعضهما أبداً. هذه الأسطر الثلاثة إجمالي كلي، بينما القصيدة تفعيل/ جزء حتى ننتهي إلى خاتمة هي ما تحدثنا عنها في قصيدة التفعيلة والتي أسميناها بضربة أو صدمة القصيدة. “ليس من سمة تتقاسمها ليلتانا فحتى الظلام يقلُّ هنا أو هناك”. إذ لا ظلمة كامنة في ليلتي ولا ظلمة قابعة في ليلتها، فهما متعادلتان حتى في الظلام سواء أكان هنا أو هناك فهو موزع بالتساوي عليهما وإلا ما أسميناهما “ليلتي وليلتها”. الصورة الخاتمة لدى حبيب الصايغ عقلانية إلى حد بعيد، ليست صورة للدهشة أي ليست لغوية فقط تثير الانبهار وتختفي بل هي صورة ذهنية أي معنوية تعتمد التحليل والربط بينهما وبين مجمل موضوعة القصيد، بل هي نتاج القصيدة، خلاصتها العقلية، ثيمتها الشعورية، التلخيصية، هي المحتوى للنص كله. “كسر في الوزن” عنوان يلعب على الشكل وعلى الموضوع، يلعب على الشكل بما لا يريد الشاعر أن يقوله بالمعنى الظاهر للكسر في الوزن الشعري “الخليلي” ويلعب على الموضوع بما يريد الشاعر أن يقرأه المتلقي من انكسار ليل الشاعر بليل الأنثى. احتوى ديوان “كسر في الوزن” على 40 قصيدة توزعت على 6 أقسام هي “أين يكمن سر البذور”؟ 12 قصيدة، و”اجراس الملل” 7 قصائد، و”سماوات خمس” 5 قصائد، و”أمرُّّ على اسمك” 7 قصائد، و”قصائد تتقدمها الوشاية” 3 قصائد، و”هذا ولا يتحقق المعنى” قصيدتان. البنى التركيبية عند قراءة ديوان “كسر في الوزن” ـ وهذه صفة غالبة على شعر حبيب الصايغ ـ نجد ترادفاً لفظياً في التركيب اللفظي للكلمة ففي قصيدة “نجمة”: “تتناسل في ضوء عتمتها أو تحاول نجمة العنكبوت تتناسل مثل السلالة حيناً وتنسل مثل الشعاع”. هنا تعتمد القصيدة على لفظة تنسجم إلى حد كبير مع موضوعة القصيدة وهي “تتناسل/ 2” و”تنسل” وأعتقد أنهما اللفظتان المحتويتان للمعنى بما يريد الشاعر أن يقوله في هذه القصيدة القصيرة، إذ التناسل هو الانسلال نفسه وكأننا لا نستطيع أن نركب في أذهاننا الصورة الأولى إلا بما يجاورها من صورة ثانية: “تتناسل في ضوء عتمتها تنسل مثل الشعاع”. حيث الشعاع هو ضوء ينسل في العتمة، ولا أدل على ذلك من مجموعة الألفاظ التي تحفل بها القصيدة في مزدوجات تضادية “تبهت/ تومض”. الصورة المنطقية عندما تحدثت عن الصورة المنطقية التي يبنيها حبيب الصايغ في نهايات قصيدة يمكن لنا أن نستشهد للتدليل عليها بنص قصير من ديوانه هذا وهو “كسر في الوزن” وهي قصيدة “شراع”: “على ضفاف بحر الوقت مر، بغتة شراعْ واحتار فيه الناس: قال الغريب: إنه خيوط عين الشمس قال المغني: إنه البياض واستدرجه نحو السماء قوس وقالت المرأة: بل تشكيل موج هائج في الرأسْ”. ترى النص الشعري يعتمد كما هو واضح على بنية حكائية سردية “مرّ”، احتار وقال/ 3، وهي تزاوج السرد بالحوار مع وصف ابتدائي “على ضفاف بحر الوقت”، وبذلك تتعاضد عناصر الحكاية بمجملها لتشكل نظامها وهيكلها الرئيس، إلا أننا عندما نتابع الحكاية لا نصل إلى خاتمة حكائية، أي أن الحكاية قد أدت غرضها في الاستهلال والمتن بل تصل إلى معنى افتراضي تأويلي: “وقالت المرأة: بل تشكيل موج هائج في الرأس”. وهي صورة عقلية متخيلة، إذ من هذه الصورة نفهم تركيبها على معنى “بل هو الشراع” واقعية تقود الى “تشكيل موج هائل في الرأس” افتراضية بوصفها ذهنية غير واقعية بعكس الاستهلال والمتن اللذين امتلكا واقعية تناسب مضمون الحكاية. وربما نجد سبباً منطقياً لهذه النهاية الافتراضية إذ القصيدة ابتدأت بافتراض يمكن إيجاده في: “على ضفاف بحر الوقت”، الذي لا يمكن تصوره إلا افتراضاً، وهنا نقول إن قصيدة حبيب الصايغ هذه مركبة على الشكل التالي “افتراض، حكاية، حكاية، افتراض”. هيكلية القصائد ومن الطرافة أيضاً أن قصيدتي “نجمة ثانية” و”نجمة ثالثة”، تقتربان هيكلياً من قصيدة “نجمة” التي تحدثنا عنها، ففي قصيدة نجمة ثانية: “في الربع الأخير من الليل ساءَلت نجمة كلبَ جارتها ليحرسها من كوابيسها كان منهمكاً في قراءة رمل المرايا في الهزيع الأخير من الليلْ في الهزيع الأخير من الويلْ” وفي قصيدة نجمة ثالثة: “بيتها القش يفتح باباً على قمرينْ وفي يدها كأسها كلما ثملت خربشت جانب الأفق وانقسمت نجمتين”. نجد في القصيدة الأولى توصيفاً وسرداً “ساءَلت” يقترب من “قالت” و”كان” الفعل الحكائي التقليدي الموروثي. في الحكاية العربية يمكن تأطيرها بالشكل التالي: توصيف: في الهزيع الأخير من الليل حوار: ساءَلت نجمة كلب جارتها سرد: كان منهمكاً في قراءة رمل المرايا توصيف: في الهزيع الأخير من الليل في الهزيع الأخير من الويلْ البنى الافتراضية قصيدة “نجمة” انتهت بصورة افتراضية وفي قصيدة “نجمة ثانية” انتهت بصورة توصيفية وفي قصيدة “نجمة ثالثة” بالرغم من استهلالها بوصف واقعي تراها تنتهي بسرد واقعي. توصيف: بيتها القش يفتح باباً توصيف: وفي يدها كأسها سرد: كلما ثملت خربشت سرد: انقسمت نجمتين وهنا نجد الخواتيم لدى حبيب الصايغ ليست على إيقاع واحد ونمط مماثل بل تتعدد مما يدلل على حيوية النص لديه والتفكير به بعمق. من سمات قصيدة حبيب الصايغ التركيبي أن اللفظة لديه تقود إلى لفظة أخرى توازنها في المبنى وتخالفها في المعنى، وهما تأتيان بالترادف عادة، أو أنه يكرر اللفظة الأولى ثانية بدون أن تشعر بملل التكرار، بل هو من ضمن نسيج القصيدة ومكون عضوي فيها. في قصيدة الراعي: “ولا للأزرق اندثاره في خواتم الغيم كذب علينا، وانتهى إلى ولادات وولادات صدق علينا، وصدقناه ولا للأزرق النهي والنفي والغرقى وكائنات البحر”. نلاحظ تكراراً بنوعين أولاً تماثلي “ولادات/ ولادات” و”لا للأزرق/ لا للأزرق” و“علينا/ علينا” وثانياً تضادي “كذب/ صدق” و”النهي/ النفي” في المعنى وفي اللفظ. وتتوالد لدى الصايغ الكلمة من الكلمة، المعنى من المعنى خدمة لنصه الذي لا يستقر على أرضية واحدة بل تراه يخرج من المألوف إلى اللامألوف، ومن العادي إلى الاستثنائي ومن الثابت إلى المتحول. في قصيدة طلوع نقرأ تكراراً آخر في الصورة لا يقود إلى نفسه بل يخرج إلى صورة أخرى، بالرغم من تداولها اليومي إلا أنها غير مألوفة في القصيدة: “غنيت لك إلى طلوع الروح غنيت إلى طلوع الروح غنيت لك إلى طلوع الروح وسوف أغني لك إلى طلوع الجسد”. في طلوع الروح يواصل الصايغ غناءه الذي استمر يؤكده في استهلال القصيدة حتى اقترابها من النهاية “الخاتمة” التي يفاجئنا بأنه يستمر في الغناء حتى طلوع الجسد أي المستحيل. سماوات خمس يحاول حبيب الصايغ أن يقدم في “كسر في الوزن” خمس سماوات محجوبة بمظلة وسماء أخرى كأنها سماء وأخرى من النافذة ورابعة في السماء وخامسة سماؤه. يبدو لي أن حبيب الصايغ قد التقط موضوعاً لافتاً غير أنه موضوع لا يملك عناصر كثيرة، سماء فقط، نجوم، ظلمة، شمس، هذه العناصر هي التي تحد من تراكمية الصور لديه لأنها قليلة، غير أن الشاعر استطاع أن يختار زوايا نظر مغايرة من موقعه “الرائي” وليس من السماء “المرئي” لهذا ترى أن العناصر المصحوبة بالسماء هي العناصر الفاعلة “المظلة، النافذة، الشاعر في (سمائي)” ولهذا نجد في قصيدة “السماء التي حجبتها المظلة “لم تتكرر كلمة سماء/ 3 إلا ثلاث مرات وكأنها أصبحت ثانوية في التشكيل العام للقصيدة بينما تكررت كلمة شتاء/ 12 مرة بما يعني أن الشاعر لم يرد السماء بعينها وإنما أراد ما تفرز السماء من شتاءات مؤلمة يطمح في تصوير تأثيرها عليه بدليل أنه اختار سماء محجوبة بمظلة الشتاء، إذاً هنا نكتشف أنه لا سماء يريدها الشاعر بل أراد شتاء تلك السماء المعبر عنها بالمظلة التي هي بديل موضوعي للشتاء نفسه. الغريب أن حبيب الصايغ بقدر ما يجد أحزانه في الشتاء، يجد كذلك أفراحه في الشتاء: “والمظلة واحدة ونريد عبور البكاء المداهم بين الدكاكين ناحية البار والشارع المتراكم كالإرث كنا نهادنه ثم نقنع أنفسنا أنه شارع ونقول له: سوف نعبر لحظة أن تتخلى الاشارة عن مكرها”. الاشارة الماكرة أعتقد أن هذا المقطع الذي حمل لحظة اللذة والحزن، في لحظة العبور ومخاتلة الاشارة الماكرة من أجمل ما كتب الصايغ، كونه تصويراً دقيقاً مفعماً بالحياة الآسرة الحزينة والذي يجد فيها الشاعر العديد من المخاتلات وهو في طريقه للفرح. هذه القصيدة هي جوهرة ديوان “كسر في الوزن” كونها قصيدة الوهم، قصيدة الواقع المؤلم، قصيدة الذات المنكسرة، الطموحة، التي تجد أمامها المكر المتربص بها. في هذه القصيدة اختصار لكل الحياة في لحظة عبور إلى الحياة نفسها. ومن الجميل أن يجمع الشاعر قصائد السماء الخمس في فصل أسماه “سماوات خمس” غير أن هذا العنوان لا يمتلك شعرية إذ هو توصيف لخمس قصائد عن السماء، وكان لابد لحبيب الصايغ “الشاعر” أن يصف أو أن يجد رابطاً بين تلك السماوات الخمس فيكون بذلك عنواناً جامعاً يمتلك شعرية عالية لا توصيفاً حيادياً، وهذا الاختيار للعنوان يعتبر فخاً حقيقياً للشاعر، لأي شاعر، اذ لابد له أن ينأى عن التوصيف بالصورة الشعرية حتى ولو كان ذلك بالعنوان وهذا أيضاً ما تكرر ثانية في عنوانه الآخر “ثلاثة عناوين شبه دائمة”. جو القصيدة لا أدري لماذا ينقاد قارئ هذا الديوان إلى قصيدة “البنت تحت الدوش” بملء إرادته، وقبل ذلك انقاد الشاعر حبيب الصايغ إلى هذه القصيدة في اختيار قراءته لها، هنا قد نخرج عن النص في التحليل البنائي للنص ونحن لا نريد ذلك إذ أن اختيار الشاعر لقراءة هذه القصيدة فعل خارج حكاية القصيدة. ما يهمنا هنا أن نقرأ ما يكتنز النص من عناصر فاعلة في البنية التركيبية له. يبدأ النص بوصف مكاني دقيق يضعنا في جو القصيدة مباشرة: “والبنت تحت “الدوش” ينسكب المكان على المكان” فكيف توصف؟ لنلاحظ أن العنوان “البنت تحت الدوش” هو نفسه مفتتح القصيدة وهذا التكرار نادر في الشعر، إذ أنك تنتقل من العنوان إلى المفتتح “الاستهلال” بنفس الكلمات، غير أنها هنا ليست هي هناك، هناك “العنوان” لافتة، هنا في “الاستهلال” شعرية، هناك “واصفة” هنا “مكانية”، هناك “تقريرية” هنا “حكائية” بدلالة حرف “الواو” الذي نقل العنوان نقلة كبيرة مفارقة تماماً لما هو متشابه بين العبارتين. يصنع حبيب الصايغ حكائيته ثم يبدأ في الوصف: “وفي الحمام تختلط المسافة بالمسامات السرائر بالعذوبة حين ينسكب المكان على المكان”. التبرير والتوصيف حبيب الصايغ ينقل الصورة من شكلها التوصيفي إلى التبريري وذلك عبر “حرف” من مثل حرف الواو بين العنوان والاستهلال وأداة الزمان “حين” في عبارة خالية منها “توصيف” وفي عبارة مرتبطة بها “تبرير”. “ينسكب المكان على المكان حين ينسكب المكان على المكان”. حبيب الصايغ كأي شاعر يعجز عن التوصيف، ويقر هو بذلك مثلما فعل الكثيرون قبله. فكيف توصف؟ لا مكان لواصفٍ إذ المكان ينسكب على المكان، وعليه تبدو النتائج لدى الشاعر هي خلاصة المقدمات وهذا هو البناء التركيبي المنطقي في قصيدة الصايغ هذه، صحيح أن الشاعر يذهب بعيداً كي يصف ما يراه، لكنه يعجز أمام دهشة المنطق العذري والحسي الذي يصدمه ويبرر ذلك: “لكن التمعن في جمال البنت بعض مكارم الأخلاق”. وكأن الشاعر يفتي لتبرير الخطيئة، ما دام شاعراً يخرج عن الحدود الصارمة للقوافي، فيخترقها في التوصيف إذ يصبح التمعن لديه جزءاً من مكارم الأخلاق لا جزءاً من مساوئ الخطيئة وهذا الإقلاب “التحويل” في الصورة أعطى التمعن شكلاً مغايراً مثلما قرأنا نصاً على نص للشاعر محمود البريكان حيث قلب المفهوم السائد وهو: “الإنسان بريء حتى تثبت إدانته”، إلى قول الشاعر: “الفرد متهم حتى يقام على براءته الدليل”. حبيب الصايغ هنا لعب ذات اللعبة من القول السائد: “ان التمعن في جمال البنت بعض مساوئ الأخلاق” إلى قوله الشعري: “لكن التمعن في جمال البنت بعض مكارم الأخلاق”. وأعتقد أن هذه اللعبة تمت بصورة لا شعورية يقررها الشاعر نفسه حين يقول: “لا اللفظ يأتيني ولا المعنى ولا أنا مدرك ماذا أقول الآن البنت تحت الدوش إمكان ولا إمكان” وهذا الأخير هو أيضاً قلب لانسكاب المكان على المكان حيث ختم الشاعر قصيدته بها، إنها قصيدة لذة صوفية عالية القيمة بحق.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©