الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
اقتصاد

رأس المال الاجتماعي والمفاهيم الغائبة

رأس المال الاجتماعي والمفاهيم الغائبة
3 أكتوبر 2015 23:26
رأس المال الاجتماعي والمفاهيم الغائبة تعتبر تجربة الاقتصاد الإسلامي، في بدايات نشوء الدولة الإسلامية، من التجارب التاريخية الرائدة في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية بالاعتماد على الفئات الاجتماعية الفاعلة في صناعة هذه التنمية وحمايتها، وهو ما صار يعرف في الاقتصاد الحديث برأس المال الاجتماعي. فمنذ أن أرست الدولة الإسلامية قواعدها كدولة مؤسسات منظمة ومتناغمة في العمل، شرعت بتوظيف مال الوقف وتوزيعه على كافة القطاعات المستهدفة لتمتين ركائز المجتمع وتنمية طاقاته الإنتاجية عبر تأهيل الحرفيين والصناعيين وتوفير المناخات للعمل. ومن أجل رفد هذا العمل برأس المال الاجتماعي، باشرت في بناء دور العلم والمكتبات وتشجيع الاختراعات في مجال الصناعة والزراعة. فكان أن تناغمت النهضة الاقتصادية بأخرى اجتماعية، لترسم هذه التجربة خطوط النظرية الاقتصادية الإسلامية في تحقيق التنمية الاجتماعية. ورغم مرور 1430 عاماً على التجربة الإسلامية، لا يزال الاختلاف قائماً بين الباحثين وذوي الاختصاص في وضع توصيف متكامل لمفهوم رأس المال الاجتماعي وعلاقته بالتنمية الشاملة. هذا الاختلاف يعد انعكاساً لتباين الرؤى ووجهات النظر والغايات التي تأسست عليها المدارس الاقتصادية والاجتماعية خلال سنوات الألفية الثانية، وهي الألفية التي شهدت حربين عالميتين تخللهما أزمة مالية قاتلة، تفاقمت وتفجرت في أوخر عشرينيات القرن الماضي، وهي الأزمة التي اتفق على تسميتها بالركود الكبير والتي تركت أثراً عميقاً على الواقع الاجتماعي في كافة بقاع الأرض. لكن تبقى السنوات الخمسون من القرن الماضي هي السنوات التي شهدت ولادة مفهوم التنمية الاجتماعية، وإن كان مفهوماً لم يتم الاتفاق عليه، إذ دفعت النتائج الكارثية للأحداث في تلك المرحلة على البنى الاقتصادية والاجتماعية، إلى التسابق لتقديم حلول تعالج تلك النتائج التي خلفتها الحروب والأزمات، وتهمل الأسباب التي خلفت كل هذا الدمار. وبقي مشروع التنمية الاجتماعية الشاملة محتجزاً بفعل غياب الدور المباشر للقوى الاجتماعية في ترجمته وإخراجه حيز التنفيذ. لكن الحاجة تفرض نفسها في نهاية الأمر، ومنطق التاريخ لا يمكن معاندته، فهو في سيرورته وتقدمه يطرح بقوة، يستحيل نفيها، خلاصة ما يسمى بالتجربة التاريخية، ومن هذا المبدأ خرجت للنور أول مرة إشارات مضيئة، وإن كانت متقطعة، لكنها كافية للإضاءة على الحاجة الملحة لوضع مسألة التنمية الاجتماعية الشاملة على سلم أولويات الدول والشعوب على حد سواء. لقد اقتصر مفهوم التنمية في بدايات تشكله، على ترميم ما أحدثته الحرب من دمار، وإعادة بناء النظم الاقتصادية والمؤسساتية للدولة، واقتصر مقياس التنمية على المقدار الذي يتلقاه الفرد من الخدمات العامة، مثل الصحة والتعليم والتوظيف. لكن هذا المفهوم لم يحدث أية نقلة نوعية في واقع البنى الاجتماعية، فهو يتحدث كما نلاحظ عن الترميم وإعادة البناء، بما يعنيه من إعادة إنتاج للشكل القديم الذي سبق الحرب مع بعض التحسينات التي ليس لأحد فضل فيها سوى التطور الطبيعي لحاجات البشر التي تبحث من تلقاء ذاتها عن سبل إشباعها. لقد تناولنا الظرف التاريخي، الذي بتفاعلاته وتطوراته تأثرت مفاهيم التنمية الاجتماعية، وذلك لإيجاد أرضية مشتركة بيننا كاقتصاديين إسلاميين وبين النظريات الحديثة التي تتناول هذه المفاهيم. فنظرتنا للتنمية الاجتماعية وشروطها مختلفة، ولا نغالي إذا قلنا إنها أكثر عمقاً وموضوعية، لأنها تستند على التجربة الإسلامية العريقة في تحقيق التنمية وممارسة مقتضياتها، وكما قيل فإن العقل في التاريخ حامي التجربة ومطورها وصانع نهضة المستقبل. واستناداً إلى التجربة الإسلامية في تناول التنمية وتحقيقها وضمان استدامتها، سنساهم بدورنا في تحديد ملامحها كما نأمل أن تكون. خاصةً ونحن على أبواب انعقاد القمة العالمية للاقتصاد الإسلامي بدبي والتي خصصت للمؤسسة الوقفية مساحة واسعة تليق بدورها ومكانتها التاريخية في دفع عجلة الاقتصاد من ناحية، والرقي بالمجتمع من حيث جوهر مفاهيمه وعلاقاته من ناحية ثانية. إن قرار التنمية من منظور اقتصادي فقهي إسلامي، هو قرار واع مستقل عن الأحداث التي قد تضغط باتجاهات غير صحيحة لرسم صورة مشوهة وغير ناضجة عن التنمية، كالأحداث الجسام التي سبقت الجدل حول مفهوم التنمية في القرن الماضي. وهو قرار مرتبط بمكانة الإنسان كجزء لا يمكن فصله عن بنيته الاجتماعية، وتقدمه على كافة المكتسبات الأخرى. ونابع من الفهم الشرعي لوظيفة المال والعلوم في خدمة البشرية ورفاهيتها بعدالة ومساواة. وهذا يقودنا إلى تصور دور القوى الاجتماعية في عملية تحقيق التنمية، فهي الغاية وهي الأداة في الوقت ذاته. ولا يمكن تحقيق التنمية بقرار خارج عن إرادة المنظومة الاجتماعية، بل يجب أن يكون قراراً اجتماعياً، يعبر عن الجهوزية والاستعداد الجماعي للانخراط في عمليات البناء والتطوير. تخيلوا معنا مجتمعاً ينعم بكافة الخدمات وأسباب الرفاهية، ولكنه غير فاعل لا يعمل ولا ينتج، ولا يسعى لتطوير مكانته كمنظومة حضارية تقوم عليها الدولة وتنفذ بواسطتها سياساتها وتحمي اقتصادها وتصون تجربتها الخاصة. هنا لا يمكن الحديث عن تنمية شاملة لأنها تفتقر لأهم المقومات التي تؤهلها لتكون كذلك، ألا وهي دمج رأس المال الاجتماعي برأس المال المادي في عملية صناعة حضارتها، فإذا كانت التنمية هي أصل الحضارات، فالحضارة تقاس بمقدار تقدم المجتمعات كقوى منتجة، وبمقدار المتغيرات الإيجابية التي تطرأ على أنماطها وتفكيرها وعلاقاتها الاجتماعية. كما لا يمكن الحديث عن التنمية الاجتماعية، إلا من خلال الحديث عن تمويلها الذي يجب أن يكون اجتماعياً بالأساس، صحيح ان العبء الأكبر من هذا التمويل يقع على عاتق الدولة التي بدورها تهيء مناخات ملائمة لتحقيق التنمية، وتسخر كافة أطرها ومؤسساتها لتمكين القوى الاجتماعية وتأهيلها للعب دورها. لكن يبقى رأس المال الاجتماعي هو العنصر الأهم في تمويل مشروع التنمية. ينقسم رأس المال الاجتماعي إلى قسمين، القسم المادي، رأس المال الوطني، وهو مدخرات الأفراد وثرواتهم الخاصة التي تسهم في تمويل التنمية على أساس الشراكة الجماعية في مشاريع التطوير العمراني والبنى التحتية وتعزيز القطاعات الصحية والعلمية والترفيهية، ويتم ذلك عبر أدوات عدة كالصكوك الإسلامية، أو المساهمة في الشركات الاستثمارية والإنتاجية التي تمارس عملاً يصب بلا أي شبهة في خدمة مسيرة التنمية. أما القسم الثاني والذي قد يكون أشد أهمية من الأول فهو رأس المال المعنوي، الذي يعبر عن تجلياته في مفاهيم الانتماء والمواطنة، وفي العقل الجماعي الذي يكتنز التراث والتقاليد الأصيلة التي تشكل روابط البنية الاجتماعية. ويتفوق رأس المال المعنوي في قدرته على تحقيق التنمية الاجتماعية ودفع عجلة التطور والحضارة، فالوجه المشرق لأي حضارة هو الوجه الذي يعبر عن القيم الأخلاقية والإنسانية للمجتمع، وعن الإنتاج الفكري والعقلاني العلمي والوجداني الفني الذي لا يمكن أن يصل حد الإبداع ويحفظ مكانته في سجلات الأمم إلا من خلال تطوره في إطار منظومة اجتماعية منسجمة. هذه رؤيتنا كاقتصاديين إسلاميين، بشكل عام، وكقائمين على عمل الأوقاف ودوره من ناحية ثانية، للتنمية وشروطها، وهذا ما نسعى لتحقيقه من خلال طرحنا للاقتصاد الإسلامي كمنظومة تحقق التكامل بين الجوانب المادية والروحية في استكمال مسيرة تنمية مستدامة تشكل القوى الاجتماعية رصيدها وثروتها ومكامن قوتها، ومصدر إنتاج حاجاتها المادية والفكرية والروحية بوحي من ثقافتها وتجربتها التاريخية الإسلامية الخاصة. *الأمين العام لمؤسسة الأوقاف وشؤون القصر
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©