الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

هل كان أبو حيّان التوحيدي فيلسوفاً؟

20 يناير 2007 01:13
محمد رجب السامرائي: إذا نظرنا إلى أكثر أفكار الأديب أبي حيّان التوحيدي (ت 414 هـ)، التي ساقها في مؤلفاته، نراه قد انتقى العبارات والألفاظ ذات الوَقْع الجميل للتعبير عنها، وأعطى لتلكم الألفاظ أقصى ما تخمَّر به ذهنه، وأرّق ما تفاعل مع فكره، فكان الحائك الماهر لسُدى المواقف الإبداعية في زمانه ولُحْمَة الأفكار الفلسفية التي تداولها المفكرون واقتنعوا بها· كان لأبي حيان التوحيدي باعٌ طويلة، وقَدَم راسخة، وقدرة بارعة تضاهي الآخرين، ولديه تمكُّن ظاهر، ومهارة فائقة، تشهد عليها مؤلفاته الوافرة المُحققة، ورسائله المبثوثة في بطونها· ولكن على الرغم من التأويلات في كتاباته، فإنه التأويل الأقرب للحقيقة، لأنّه مفكِّر عاش يبحث عن السعادة التي حُرِم منها طوال حياته، ويأمل في تحقيقها، مثله مثل أي إنسان، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السَفَنُ إذ لم يحصد أبو حيّان سوى الخيبة والمرارة· عاش أبو حيّان التوحيدي في الفترة من سنة 347 حتى 400 هجرية، أديباً فقيراً، لكنه كان من روّاد القصور، وفي الوقت ذاته كان مريضاً بجملة من الأمراض النفسية أبرزها شعوره بالخيبة، وكان انتقاله من حياة النفاق في أوساط الأرستقراطيين إلى التصوُّف قد دلَّل لنا بأنّه الأديب الذي وصل إلى مرحلة اليأس والشؤم، حتى أقدم على حرق كتبه إعلاناً وتأكيداً لتمرده على الحياة التي كان يعيشها· ولم يبال أبو حيّان في إظهار وضعه ذاك، بل وجدناه يعترف وبجرأة بذلك في كتابه ''الإشارات الإلهية''· ونحسّ بكتاباته قدرة على استبطان الذات واستقصاء جوانب النفس، وأن مناجاته ذات غور عميق، والتي صاغها وفق سجعات غير مستقرة لكنها جادَّة في إشاراته تلك· يُعدُّ كتاب ''الإمتاع والمؤانسة'' من الكتب المهمة ضمن أسفار التوحيدي التي صنَّفها في حياته، والذي تضمَّن الحديث عن مسائل عديدة، ضمَّتها لياليه الأربعون، فعرض فيه لمسائل الفلسفة والدين والمنطق، واللغة والنحو، والحكم والأمثال، والعادات والتقاليد الاجتماعية· كما احتوى الكتاب على جانبين هما: الجانب الفلسفي، والجانب الثقافي، أي الموسوعية في المادة الشفاهية· والكتاب رسالة جمعت مسامرات وأحاديث وضروباً من المحاورات و(المُثاقفات) أو المثاقفة، كما أسماها التوحيدي نفسه، والمناظرات التي دارت في مجلس الوزير ابن سعدان ببغداد، وسردها عليه وأعاد إنتاجها بعد أن كانت مادة شفاهية· انفرد التوحيدي في هذا الكتاب بين الكتب النثرية العربية التي سبقته، ليس بإضافته الفلسفة ومزجها وصياغتها بأسلوبه الخاص إليه، إنّما بتسجيله حوارات مُفكري عصره وفلاسفته وحكّامه، وبيان هواجسهم وشكوكهم، وهذا فضل توثيقي حفظه لنا أبو حيّان من الضياع، وأزال اللبس عن كثير من مفاهيم عصره، حيث يرجع إليه دور المشاركة المبكِّرة في إدخال مفهومات المنطق والفلسفة إلى التآليف العربية الموسوعية في عهده إبّان منتصف القرن الرابع الهجري في بغداد· كما ضمّن كتابه ''البصائر والذخائر'' مسائل فلسفية وفكرية عديدة، ومثله في كتابه الابتهالي ''الإشارات الإلهية'' الذي أودع فيه أسلوبه الفلسفي الحواري· نحسّ ونحن نقرأ ليالي ''الإمتاع والمؤانسة'' بأنّ المؤلف يدور بنا من مجلس إلى آخر، ومن ندوة إلى أخرى، فنراه مع الفلاسفة واللغويين والإخباريين تارة، ومع المتصوفة تارة أخرى· على أن هذا الثراء في الزّاد المعرفي الذي تمتَّع به التوحيدي إنما يُدلل على براعته وذهنه الوقّاد، حيث ألفَّ الكثير من الكتب والرسائل، وأبدع أيما إبداع في الإمتاع والمؤانسة الذي لا تخلق جِدَته· ناقش التوحيدي في الليلة الأولى من الإمتاع والمؤانسة إشكالية الحديث وشجونه، وردّ على أسئلة الوزير ابن سعدان· ثم تحدَّث عمّا يتصل به نعت العتيق والخَلْق، والفرق بين الحادث والمُحدث والحديث· ثم عرض لفلاسفة ومفكري عصره في الليلة الثانية، فعندما حضر مجلس الوزير ابن سعدان سأله: أول ما أسألك عنه حديث أبي سليمان المنطقي؟ فردّ عليه أبو حيّان قائلاً: أنّ أبا سليمان عمل رسالة في الثناء عليه· ثم أردفه سائلاً: حدثني عن درجته في العلم والحكمة، وعرِّفني محله فيهما من محل أصحابنا ابن زرعة، وابن الخمّار، وابن السمح، والقومسي، وابن مسكويه ونظيف، ويحيى بن عدي، وعيسى بن علي· فأجابه التوحيدي بأنّ وصف هؤلاء أمرٌ متعذر، وبابٌ من الكَلفة شاق· ووصف ابن مسكويه، بأنّه فقير بين أغنياء، وأنا أعطيته في هذه الأيام صفو الشرح لـ (إبساغوجي وقاطيغورياس)، وكلاهما كتاب لأرسطوطاليس· عقد أبو حيّان التوحيدي جُلّ الليلة السابعة عشرة للفلسفة، الذي يرى بأنّها حاويةٌ للحكمة الاعتقادية، والمصلحة الاجتهادية· ثم ذكر لأوّل مرّة (إخوان الصفا) في ''الإمتاع والمؤانسة'' حيث لم يذكرهم أيٍّ من المؤلفين قبله، وقال: هناك من يزعم أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال؛ وصنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة، علميها وعمليها، وأفردوا لها فهرساً، وسمّوها ''رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا''، وكتموا أسماءهم، وبثوها بين الورّاقين، ولقنوها للناس، وادعوا أنّهم ما فعلوا ذلك إلاّ ابتغاء وجه الله، عزّ وجل، وطلب رضوانه، ليخلصوا الناس من الآراء الفاسدة التي تضرّ النفوس، والعقائد الخبيثة التي تضرّ أصحابها، والأفعال المذمومة التي يَشقى بها أهلها؛ وحَشُّوا هذه الرسائل بالكلِم الدينية، والأمثال الشرعية، والحروف المحتملة، والطرق الموهمة· وحملت عدّةً منها إلى شيخنا أبي سليمان المنطقي، وعرضتها عليه، ونظر فيها أياماً، واختبرها طويلاً، ثم ردها عليَّ وقال: تعبوا وما أغنوا، ونصبوا وما أجدوا، وحاموا وما وردوا، وغنوا وما أطربوا، ونسجوا فهلهلوا، ومشطوا ففلفلوا؛ ظنوا ما لا يكون ولا يمكن ولا يُستطاع؛ ظنوا أنهم يمكنهم أن يدسوا الفلسفة - التي هي علم النجوم، والأفلاك، والمجسطي، والمقادير، وآثار الطبيعة، والموسيقى التي هي معرفة النغم والإيقاعات والنقرات والأوزان، والمنطق الذي هو اعتبار الأقوال بالإضافات والكميات والكيفيات - في الشريعة، وأن يضموا الشريعة للفلسفة· بعد كل ما كتب وأشار إليه التوحيدي نتساءل: هل كان أبو حيّان التوحيدي فيلسوفاً؟ في الواقع أنّ المتابع لحياة أبي حيّان في عهد طلب العلم، لوجده يتسم بحب التنوع الذي دفعه إلى الأخذ من كل علم بطرف، فكان من ذلك اهتمامه بدراسة الفقه والحديث، وانشغاله بعلم الكلام والتوحيد، وعنايته بمسائل المنطق والفلسفة، وانصرافه إلى البحث في اللغة والنحو، ثم اشتغاله أخيراً بالتصوف، وليس من شك في أن محاولة الجمع بين كل هذه الأصناف المختلفة من المعارف قد تعرَّض صاحبها لخطر السطحية، ولكن الملاحظ بالنسبة لأبي حيّان أنه كان شخصية فلسفية طليعية تستخلص الأسئلة من كل ما يقع أمامها، سواء أكانت المسائل خلقية، أو اجتماعية أو لغوية أو اقتصادية أو نفسية· كان التوحيدي قد تتلمذ في شطر من حياته على كبار عُلماء ومفكري القرن الرابع الهجري، وتحصل على أصول الفقه والمنطق والفلسفة والإلهيات والتصوف والحديث والنحو واللغة منهم، وهذا ما ولَّد عنده نزعة تفكير موسوعية، بل تميُّز فكره وإنتاجه الأدبي الفلسفي بطابع تحرري تنويري· وعلى الرغم من أنّه لم يكن فيلسوفاً بمعنى اشتغاله في الفلسفة، إلا أنه كغيره من أدباء ومفكري عصره كانت له فلسفة معروفة في سِفْر الحياة كلها· ثم أن اهتمام أبي حيّان بهذه المعارف جاء نتيجة لميله إلى الدهشة، وإلى نزعته نحو التساؤل، واستعداده الحثيث للبحث، وهذا ما حدا بياقوت الحموي في موسوعته الكبرى ''معجم الأدباء'' إلى نعت التوحيدي بأنه كان فيلسوفاً مع الفلاسفة، ومتكلماً مع المتكلمين، ولغوياً مع اللغويين، ومتصوفاً مع المتصوفين·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©