الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هموم خاصة.. وأبطال مأزومون

هموم خاصة.. وأبطال مأزومون
2 أكتوبر 2013 19:47
يمتطي كتاب القصة القصيرة من الشباب حصان السرد ليعدو بهم في منحنيات الذات وشعابها، فيمتاحون مما حولهم حالات إنسانية شديدة الخصوصية، لكنها رغم فردانيتها تتعالق مع هموم المجتمع العامة. بالسرد- غالباً- يبوحون بما تهجس به أرواحهم، يحدقون فيما حولهم، يلتقطون حكاية عادية يحاولون نقلها إلى عالم القص وفنياته بأسلوبيات مختلفة. قصصهم في غالبيتها تتكئ على الذاكرة. تخرج شيئاً من مختزناتها لتبلوره في حدث نادراً ما ينمو أو يتطور درامياً. يكتبون قصة اللحظة/ الومضة/ الحدث المحدد في الزمان/ المنفلت من المكان (يكاد المكان يغيب عن معظم القصص مع استثناءات قليلة). يكتبون قصة تشبه واقعهم المتسارع، حياتهم المشتتة بين نوازع الذات والقيم والحداثة وما يجب وما لا يجب. يكتبون الصراع الداخلي الذي يدور في أعماقهم، تارة يلجأون إلى حوار النفس (المونولوج) وتارة إلى حوار عادي لا يضيف الكثير إلى القصة، أيضاً إلا في استثناءات نادرة. يكتبون قصة واقعية تقريباً، لهذا يلجأون إلى لغة بسيطة، تناسب ثقافة ووعي أبطال القصص وشخوصها، ثم يهربون من الواقع إلى الخيال فيتجلى هذا في النصوص التي تكسر هي الأخرى واقعية القص لتدخل في إنشاء الوصف وشعريته. شـهـيـرة أحـمـد في البحث عن حضور القضايا العامة، القضايا التي تخص المجتمع، والأسئلة الجوهرية التي تثيرها وسائل التحديث المجتمعي ذات التسارع العالي، يمكن القول: إن القصص تناولتها بشكل غير مباشر، وعكست آثارها من خلال الشخصيات التي على مرآتها تتجسد هذه الآثار، لكن الهم الاجتماعي، رغم حضوره في قصص كثيرة، ظل موارباً، يبحث عنه الناقد من خلال تفكيك النص وتحليله. وهو يرتدي لبوسات وأقنعة يمكن أن تتكشف للقارئ الذي يتهجى ما خلف النص، أو الخفي، المتواري في تلافيف السرد. وإذا ما اعتبرنا ظواهر الحب والخيانة والعلاقات المأزومة بين الرجل والمرأة، والزواج ومشكلاته، مؤشر على ما أصاب العلاقات بين الأفراد من تغيرات بنيوية في السنوات الأخيرة، فإن الحديث عن جنون السرعة وحوادث السير والخادمات الأجنبيات وتربية الأطفال وإرسال كبار السن إلى دار العجزة، وغير ذلك مما يعتبر إفرازات وافدة مع الحداثة والتكنولوجيا هو في صميم الهم الاجتماعي، وهي في النهاية مؤشر على الوضع العام وإشكالياته التي تنعكس على الأفراد. الحب و.. همومه مع قصة “إلى هذه الدرجة من الإعياء” لحسنة الحوسني تنتقل عدسة السرد إلى مشكلة أخرى شائكة هي العلاقات المحرمة التي تدفع المرأة ضريبتها باهظة، بل وحياتها أيضاً كما في هذه القصة. “سعاد” فتاة مقبلة على الحياة، لكنها تقع في أزمة نفسية حادة، وتعيش تمزقات روحية تودي بها إلى الموت، بعد أن أحبت شاباً حباً جارفاً، يغويها بالكلام المعسول الذي يدير رأسها إلى حيث يرغب. يغويها، تمنحه نفسها، تحمل، يتخلى عنها ويهرب من فعلته تاركاً إياها تعاني الأمرين. يظهر الحمل فتصارح أهلها بالحقيقة. يخبرون والد الشاب فينتصر لها ويقرر تزويجه منها إصلاحاً لخطئه، لكن القدر كان أسرع حيث تفقده في حادث سير لتصبح أرملة من غير زواج. تذهب إلى المستشفى وهي في حالة إعياء شديد، فتلتقي بها صديقتها علياء، وهي الساردة التي تروي لنا الحكاية التي تختمها بنهاية تقليدية: “كأنه مقدر لي أن أراها للمرة الأخيرة. اتصل بي أحدهم قال: سعاد تريدك. قبل دخول المستشفى سمعت سيارة إسعاف فتوقفت أرى من فيها. بلمح البصر خرج ممرضان يحملان شخصاً على نقالة”. كان يمكن لهذه النهاية أن تكون أوقع لو أن الكاتبة لم تخبرنا سلفاً بأنه “كأنه مقدر لي أن أراها للمرة الأخيرة”، لأنها صادرت المفاجأة التي تحملها النهاية. بيد أن الكاتبة في قصتها الثانية “زفاف إلى البحر” نجحت في حبك نهاية مفاجئة لبطلتها المأزومة، بل وتمكنت تقنياً من توتير الموقف والارتقاء به فنياً إلى العقدة أو الذروة، ثم جعلت موت بطلتها (هدى) أو انتحارها حدثاً تشارك فيه كائنات الطبيعة، وتحزن من أجل الفتاة التي ناداها البحر فلبت نداءه: خرجت من البيت. لم يلحظها أحد. تقدمت فدخلت إليه بقوة خفية تدفعها من خلفها. توقف القمر يرقبها والنجوم. انفتحت عيناها ونام قلبها غائباً عن الوعي وضاع من العقل إدراكه. طوى البحر هدى بين أحضانه، وشيعت قناديله جثمانها الذي غسلته مياه ساكنة. بكى سكان البحر عليها، حتى شعابه المرجانية بلونها الوردي. وكما تفعل الخيانة بالمرأة تفعل في الرجل، تشظيه، توجعه في الصميم، وتتركه ممزقاً يبكي جهاراً على الشاطئ كما في قصة “عندما يبكي الرجال” لعائشة عبد الله محمد علي، التي تغوص في أعماق رجل مخدوع، أحب زوجته بجنون، وترك من أجلها كل شيء، ومنحها كل ما تطلب، ثم خانته في بيته وعلى فراشه. هنا، تقدم لنا الكاتبة الوجه الآخر من الصورة: خيانة المرأة للرجل الذي يكون في هذه الحالة ضحية. لا تقدم الكاتبة القصة بحياد بل تتعاطف معه وتجعل الطبيعة تتعاطف معه أيضاً: “ربما الشمس أبكته وهي تنزف مودعة نهارها الجميل. أو ربما ذلك اللون الأحمر الذي صب على صفحة السماء. ذكرته بالدماء النازفة من عصفور أصابته حجارة شقية فأيقظت الطفل الكامن بداخله فبكى”. لكن هذه التكهنات التي أوهمتنا بها الكاتبة في البداية تتكشف عدم صحتها من خلال السرد، يخبرنا الرجل عما أبكاه، ويصف مشاعره وروحه الجريحة فيما الكاتبة تتساءل: أمعقول؟ رجل يبكي. هل يبكي الرجل القوي الذي كسر رأس ألف امرأة بهراوته. تطلق السؤال ثم تذهب للبحث بين رواد الشاطئ عن ذلك الرجل الذي يحمل الهراوة بيده. في هكذا قصص، غالباً ما يقوم القاص بتجهيل المكان، لكن هذه القاصة تعين المكان بجرأة، وبدقة كاملة: كاسر الأمواج. الخيبة في الحب هي أيضاً موضوع قصة “رجل” للقاصة فاطمة الكعبي، التي تبدأ السرد بالحديث عن رجل عالي القامة وله مكانة في قلبها، ثم يسقط من نظرها أمام اختبار الإخلاص. تكتشف بعد أن تقع في غرامه أنه رجل متزوج، فتغادره هاربة وهي تتساءل: لماذا يصيح باسمها؟. سباقات الموت يحكي خالد سالم الجابري في قصة “ولامست كفي النجوم” معاناته مع الفقد. والفقد هنا فقد معنوي يخسر بسببه صديقه الأثير المقرب إلى قلبه، والسبب سباق السيارات، الذي يصر (ناصر) بجنونه المعتاد على أن يشترك فيه. يفقد ناصر بعد الحادث عقله ويترك في قلب صديقه غصة كلما رآه يسلك مثل الأطفال، إلى حد أنه يتمنى لو مات. تطرح القصة في نسيجها التساؤلي أسئلة عن الحياة، والموت، والمغامرة، والمسؤولية، وغير ذلك مما تثيره عادة الأحداث الكبرى في حياتنا. وتبدو لدى الكاتب قصدية إدانة السرعة وحوادث السير بشكل غير مباشر وعبر الإيحاء ، وذلك من خلال حديث بينه وبين صبي المقهى الذي يعرف مشكلته وأسئلته ويسميه “الفيلسوف”، فهذا الصبي هو أيضاً مشوه الوجه بسبب حادث سير. هكذا، الهموم الصغيرة تخفي وراءها قضايا كبيرة أحياناً. وحوادث السير مشكلة اجتماعية حقيقية في الإمارات، والتهور والسرعة وغيرها مما يتسبب في هذه الحوادث بيئة فنية خصبة لكتابة القصة القصيرة. لا سيما إذا نجح القاص في التقاط الأبعاد الدرامية في الشخصية التي غالباً ما تصبح مأزومة أو تختبر نوعاً رهيباً من المعاناة في حال أصيبت بالإعاقة كما في قصة الجابري. في قصته الثانية “لوحات من الملح” تبدو المشكلة شخصية أيضاً، لكنه يخرجها من الشخصي إلى العام، من قصة تحكي عن ملل وسأم البطل وأخته، إلى ما يشبه حالة عامة يعيشها كثير من الشباب، لأسباب مختلفة. تهتز علاقتهم بالواقع. يهربون إلى الخيال أو الأحلام أو الطفولة يستعيدون جماليات الذكرى كما يحدث هنا مع البطل وأخته. كلاهما في خصومة مع الحاضر ويتركه ليعود أدراجه إلى الماضي. وحين يسأل الشاب عن واقعية هذا الهروب تجيبه أخته: “صدقني. لا أعتقد أن هناك ما يدعى بالواقع فعش في العالم الذي تود أن تعيش فيه”. هامشية الثقافة في نصف صفحة فقط، وهي من القصص القصيرة في المجموعة المقروءة، تحيك ريا مهنا سلطان البوسعيدي في قصتها (هوية) قصة متقنة، محمولة على أبعاد رمزية ومفتوحة على التأويل والانزياح الدلالي. بطلتها (كلمة) تبحث عن هويتها بين الكتب. بداية تثير فضول القارئ: “استيقظت كلمة من نومها فزعة بعد كابوس مرعب رأت فيه أنها بلا معنى، فهرولت سريعاً إلى المكتبة تبحث في مكان ما عن هويتها”. تتابع بعد هذا المفتتح الموحي السرد في جمل قصيرة، متلاحقة، بأبعاد وحمولات صنعتها أصلاً طبيعة الشخصية (كلمة) التي تبحث بلا جدوى ثم تنتهي إلى الضياع: “حتى جاء يوم صار الضياع كتاباً وصارت الكلمة نجمة”. نجمة هنا تفتح النهاية على احتمالات متعددة، النجوم تضيء لنا الدروب وهو المعنى الذي ينطوي عليه تراثنا، فالعرب كانوا يهتدون بالنجوم لكي يستدلوا على الطريق ولا يضيعوا في صحرائهم الشاسعة.. فهل تفعل الكلمات الفعل نفسه؟ لا سيما وأن في ميراثنا وميراث البشرية ما يحيل إلى أن الكلمة هي أصل الحياة، ويؤشر أيضاً على دور الكلمة في هدايتنا وأثرها في إرشادنا إلى طريقنا المبتغى، لكن في النص ما يأخذنا إلى دلالة مختلفة: النجوم بعيدة، الكلمات أيضا صارت بعيدة عنا، عن اهتماماتنا لأننا لا نقرأ ولا نعنى بالمعرفة. وربما لو قرأنا لا نقدر قدسية الكلمة. في النص: “كلمة الآن تجري جوفاء في الطرقات.. تقاتل كسيرة بلا كلمات فلا يبادلها الحديث أحد”. هذا يعني أننا أمام كائن عاجز، لم يعد قادرا على ممارسة دوره أو الاتصال بالآخرين. أما كلمة (جوفاء) فهذا دليل إضافي على فروغ الكلمات من معانيها ومن قدرتها على التأثير. ثمة علامة نصية أخرى تضعنا في قلب احتمال آخر، هذه العلامة هي أن الكلمة / البطلة “يطعنها الحياد”. بهذه الصفة وما يسندها من قرائن تنتقل القاصة من الرمزي إلى الواقعي لتصبح ثيمات القصة على النحو التالي: الكلمة ترمز إلى المثقف أو المفكر الذي يبحث عن دور له وللكلمة والثقافة في المجتمع، لكنه يصطدم بالحياد وهو المعادل الرمزي لغياب فاعلية المثقف أو هامشيته.. وثمة ضوء آخر يسرّبه لنا السرد عندما يخبرنا أن الكلمة/ البطلة: “لم تجد لها مكاناً في وطنها”، وأنها ما زالت “تبحث في الكتب عن بصيص أمل”. ما يعزز التأويل ويؤكد القول: إن الكلمة هنا هي الإنسان الذي يفقد وطنه، لأي سبب من الأسباب، وسواء كان الفقدان حقيقياً أم مجازياً يتجسد من خلال الشعور بالاغتراب، فإننا أمام حالة من التشظي والغربة تقود حتماً إلى الضياع. عذابات الأنثى “الرحلة رقم 8” لريا سلطان البوسعيدي قصة مبنية بوعي. الرقم 8 لا يبوح بدلالاته إلا مع نهاية القصة. امرأة تستمع إلى عراف (توظيف التراث فيما يتعلق بالسحر والخرافة) يقرأ في كفها، فيما هي تستدعي مع كل كشف عن شخصيتها ومستقبلها ينبئها به وجه واحد من أزواجها السبعة، ولما طلب منها أن تضطجع ليقرأ لها الباقي تكشف عن رحلتها الثامنة: (انسحبت يدي من كفه ورفرفت حوله.. وقفت على حائط بدا صلداً.. نقرته فانهار. رفرفت. طارت بعيداً. وطار القلب.. وطارت الرئة.. طارت الاثنا عشر.. طرت أتفكك تارة.. وتارة أتفكك.. أبحث عن كف خضراء تلملمني). هنا يثور سؤال أول: هل الأزواج السبعة مجرد رحلات كما هي الرحلة رقم 8.. هل هم محطات في حياتها تركوا أثرهم الحقيقي ومضوا أم مجرد بشر طارت منهم قبل أن يوقعوها في حبائلهم كما فعلت مع هذا العراف؟. تخبرنا القصة أن البطلة تبحث عن ذاتها، عن (كف خضراء تلملمها) لا عن (كف تبعثرها). الكف الثانية التي رفضتها وطارت منها هي التي تنبئنا بسمات الكف الأولى/ المحلوم بها أو التي يجري البحث عنها، فهي النقيض لكف العراف.. إذن لا بد أنها كف حقيقية تنتمي للواقع وليست كفاً وهمية. وهي كف خيرة لأنها (تلملمها) في مقابل كف شريرة (بعثرتها) وهربت منها. لكن تميز القصة لا يكمن في الحقيقة في فكرتها المفارقة، بل في تقنيات الكتابة التي استخدمتها الكاتبة: التكثيف في الحدث نفسه، وفي الأسلوب حيث استخدمت الجمل الصغيرة المتواترة، والتقطيع الذي يبين تلاحق الحدث، ثم الخاتمة المفاجئة التي لا تخلو من دهشة.. وباجتماع هذه التقنيات والعناصر الأسلوبية تمكنت من إحداث فعل الإدهاش. التعليقات المختصرة والمكثفة التي تأتي مع كل استحضار لإحدى الأزواج عمقت حالة الخيبة التي تعبر عنها الكاتبة، وقدمت أسباباً كثيرة لفشل الزواج أو الحب، وأضاءت مناطق معتمة في ذات البطلة بطريقة هي أقرب إلى الفلاش أو الضوء السريع، لكن القوي الذي يقوم بفعل التبئير ويدفع العنوان إلى مركز القصة لتكون الرحلة رقم 8 هي بطلة النص بالفعل، وكل ما يجري إنما يتم لخدمة الفكرة الأساسية التي يدور حولها النص القصصي. ومع قصة شروق محمد سلمان “ونجحت الخادمة” تطل قضية اجتماعية أخرى هي الخادمات الأجنبيات وأثرهن على الطفل الذي يصل في بعض الأوقات إلى تغيير عقيدته الدينية.. فهذه أم مشغولة بعملها الخير واهتماماتها الاجتماعية وحفلاتها ولاهية عن طفلها واحتياجاته. تركته للخادمة لتربيه كما تشتهي، لتكتشف بعد عودتها من حفلة للأطفال تحرك فيها خوف الأمومة أن طفلها يؤدي طقوس ديانة أخرى غير ديانتها. والقصة بشكل عام واقعية تماماً، وترسل رسالة إدانة للأمهات وتقرع جرس الإنذار فيما يخص ترك الحبل على الغارب للخدم في منازلنا، خصوصاً في ما يخص تربية الأطفال. مرايا ناقدة تدخلنا عائشة الكعبي في “غرفة القياس” بذكاء فني، وحرفية في السرد. في هذه الغرفة، التي هي بطلة النص الحقيقية، نشاهد ونعرف ونرى في مرآة القص نماذج من النساء. نوعيات ومستويات مختلفة من التفكير والاهتمامات. في عرضها لهذه الوجوه البشرية تستخدم القاصة أسلوباً مكثفاً، تعليقات مختصرة، سرد متسلسل، كما لو أننا نشاهد شريطاً سينمائياً. في هذه القصة تشتغل عائشة على بطولة المكان المطلقة. الغرفة هي الحاضرة التي تستقبل وتودع وتنسج العلاقات النصية. تبوح لنا الغرفة بتفاصيل النساء وطرائق تفكيرهن في الملابس والأناقة والزوج والجمال والشيخوخة والتجاعيد والإحباط وغير ذلك من أوجاع الأنوثة المعقدة والمكثفة في جرعة فنية مركزة.. بالغرفة التي تضاء في الصباح تبدأ القصة وبها وهي تغلق في المساء تنتهي.. وبين البداية والنهاية تتواتر الشخصيات كم لو أننا أمام عمل مسرحي يعرض لنا لوحات مسرحية قصيرة يجمعها كلها خيط ناظم هو: المسرح، ثم في النهاية تطفأ الأضواء وتسدل الستارة على الغرفة التي مثلت مرآة عاكسة تتمظهر عليها شيفرات النص الذي يحمل نزعة نقدية للكثير من السلوكيات التي أنتجتها الرفاهية. بالتقنية نفسها، تعالج عائشة الكعبي حالة ملل زوجي يعيشها البطل. هذه المرة تسلمه القاصة حبل السرد ليأتي الكلام على لسانه لا على لسانها. بحياد واضح تترك له أن يعرض وجهة نظره في الزواج التي لا نعرفها إلا في نهاية القصة بعد أن يستعرض لنا الرجل- في ملله وسأمه وانتظاره لصبي المطعم الذي سيحضر له إفطار الصباح- سمات ومواصفات زملائه في العمل، ويقدم لنا بورتريهات لكل منهم، لا تخلو بالطبع من نزعة لانتقادهم، ثم الأهم، انتقاد الزواج، وإعلان القناعة الراسخة بأن من الخطأ أن يحول الرجل حبيبته إلى زوجته، وأنه لو عاد به الزمن لاختار زوجة مثل أمه. في أثناء السرد تبرز مجموعة من المشكلات اليومية، الحياتية التي يعاني الناس من وطأتها. وتحتشد فيها التفاصيل الشخصية التي تحيل على حالة عامة تخص قطاعاً كبيراً من الناس. ويوجه علي عبد القادر محمد خلف الحمادي سهام نقده لبعض الممارسات والسلوكيات السلبية التي تحدث حتى في المسجد، ففي قصته “السلام عليكم” يدين تهافت الناس على الدنيا ومطامعها، وتسخيرهم كل شيء بما في ذلك الدين لتحقيق مصالحهم الضيقة، حتى كلمة “السلام عليكم” لم تعد عند البعض مجرد تحية لازمة بل صارت مقترنة بالمصلحة وقضاء الحاجات. والكاتب في محاولته لتبيان مدى التغيير الذي مس “سلاماتنا” يلجأ لجده ليقول لنا ما تعنيه هذه التحية ومدلولاتها وآثارها الإيجابية على الأفراد والمجتمعات، قبل أن يطلق رده على تحية حفيده “السلام عليكم” مثل رصاصة: “وعلى الدنيا السلام”. والمعنى نفسه يتكرر في قصته “صلاة عصرية” التي يؤديها صاحبها بلا أي خشوع. يؤدي حركاتها وراء الإمام فيما قلبه وعقله مشغولان بالدنيا، وطلبات الزوجة والأولاد، والتعليق على ما يدور في ذهنه من أفكار يوسوس بها الشيطان. البناء الفني الذي لجأ إليه الكاتب هو ما جعل هذه القصة ممتعة، حيث استخدم المونولوج الداخلي، الذي عبر بالفعل عن توتر الشخصية وقلقها، وجعلها تنمو أثناء القص مع تقدم فعل الصلاة نفسه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©