السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عزلة تتمدَّدُ فوقَ قبرٍ

6 أكتوبر 2011 17:20
حازت ليانا ميخيا Liana Mej?a المولودة عام 1960 عددا من الجوائز في الحقل الشعري في سنّ مبكرة من عمرها. كما أصبحت عضوا في هيئة تحرير مجلة “بروميثو” الأدبية ذائعة الصيت في بلدها كولومبيا في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي أيضا. ترى هذه الشاعرة أنها تكتب لأنه ينبغي عليها أن تتقاسم مع القارئ ذلك الإحساس ذاته المُلقى على الطريق بوصف هذا الاحساس هو القصيدة التي لاحظت أن بإمكانها أن تجعل الآخرين يدركون ما يمرّ سريعا عبر حياتهم، إذ أنها دائما قصيدة خطرة حيث الروح العارية للقارئ تجعل منه أكثر حساسية تجاه كل قصيدة جديدة يقرأها. توصف قصائد ليانا ميخيا في بعض الدرس النقدي بأنها شعر “يجابه الموت”، فقد ولدت في مدينة ميدلين وعاشت بها. وهذه المدينة خرافية على نحو تراجيدي بسبب الجريمة والعنف اللذين ملآ شوارعها وأزقتها، وهذا بالضبط ـ أي الجريمة والعنف ـ ما انتزعته من الواقع إلى شعرها. ودون أنْ تسميها، تتعيَّنْ مدينتها الأم من خلال المجاز والمزاج والتوصيف عبر لغة الظلال والخوف. ما يلي ترجمة لعدد من قصائدها: شعر: ليانا ميخيا ترجمة: جهاد هديب أوقات سيئة أمام المرآةِ تبدّل أقنعةً من حماسةٍ، تُقايضُ غيابا بِكُرات صغيرة من “النفتالين” نَثَرْتَها بِحِرْصٍ على ثوبٍ أبيض. إلى هناك تمضي العزلة تتمدَّدُ فوقَ قبرٍ فوق سطحٍ صقيل. مدينة موت كان موْتا سهلا. مثلَ الذي في الغرب الأميركي، كانت تكفي رميةٌ من بندقية في خطٍّ مستقيم تخترق الصدرَ على شارعٍ مُغْبرٍّ بعضَ الشيء. لاحقا، يتلو قِسٌّ تراتيلَ وأرملةٌ، هي واحدةٌ منّا، ترغبُ في العزاء، بالطبع. لطالَما قُلْتَ دائما أن تحوز سلاحا كان أفضلَ من أنْ لا تملكَهُ، عندما يعلو زمانُنا بوِسْعِ الرصاصات أن تجدَ الطريق إلى القلب إثرَ اعترافهم. تلك الصبيحة، عندما لم تُشهِرْ سلاحا عَرَفْتَ أن كلّ شيء قد انتهى. ألَم إنساني ألمٌ إنسانيّ وجوهريٌّ يحيطُ بنا مثل كَفَن. إيماءاتٌ قديمةٌ ومُعادةٌ تُضاءُ فجأةً وتَفْرِدُ النشوةُ أجنحتَها. يوما ما سوف نفنى في النار هذه التي تفترسُ الغرفةَ الصغيرةَ كلَّ ليلة. فوريّ الذوبان تذوبُ أفكارُ الرمل تحتَ نعاسِ منتصفِ النهار. الصوتُ الرتيبُ للبحرِ خلفَ الحلُم. رفّ من طيورٍ في أعلى قِمَمِ الموج ... قد خَمَد. تحجَّرَ في عتمةٍ تحجَّرَ في عتمةِ طفولةٍ في الجوار القريب حين كان الخوفُ عصا ترَجّفُ السقف باهتياج وجيشا من الزواحف يجتاز الغرفةَ بصَوْتِ مِبْرَدٍ يصقُلُ. اليوم، ثمةَ مخاوف أخرى تمنعُنا،كثيرا، عن بسالةٍ خَطِرَةٍ أسفلَ المصباح ذاكَ المخمورِ دائما. امتعاض غيرَ قابلٍ للتبدُّل مثلما هو النَقْرُ على وَجْهِ نَقْدٍ معدنيٍّ إذ يختبر الحنين. مصادفةٌ تُلقي بحجرَيْ نردِها فتسقطُ أنتَ على وجهك إلى الأرض. بذهولٍ، تفتحُ، هيَ، النافذة تلك التي أغلقَتها لأعوامٍ وتَدَع المطر يأتي. شيزوفرينيا كلُّ ما تفعلين يسخرُ من تواطُؤ هؤلاء الذين قتلوا صمتا فيما تواصلين طَرْقَ أبوابٍ ونوافذَ وتَسْحَنينَ كاتدرائيات تافهةٍ من صلصال. يلتمعُ الجنونُ في عينيكِ مثلَ وردةٍ من زجاجٍ ونيون. أحدٌ ما يكسرُ مصباحا جسدٌ في العتمةِ يتقوّضُ كما لو أتمّ للتوّ حفلا لا مثيل له ومن الأحشاء الأكثرِ عمقا يتفجّر ألمٌ مثلَ سوط. تتمزّقين بسبب حَلْقٍ يتشنّجُ بعنف إنهم يناودنكِ بالاسم. غريب في ذاكرتي اليوم، اكتشفتُ تمثالكَ الجصيّ وقد غطّتْهُ فئرانٌ تدمِّرُ عنُقك بأسنانٍ قاطعةٍ صغيرةٍ فأستردُّ القلوب القديمةَ بالقوة، تلك المطوَّقة بنسيجٍ من لدائن، من بين العضلات الجافّة ومن بين أزهارِ جيلاتين ضغيرة تذوي في الشمس قلوب المطر تصدأُ قلوبُ المطر تمرّ الأيامُ، تتساقطُ أحلامٌ وكلماتٌ تضلُّ وما من أحدٍ أبدا يدركُ انتظاري هذا الواضح إلى حدٍّ بعيد. خريفٌ من القصديرِ، يَدْنو. ...بقدمه أزاح الأسنان والأصابع زينب الخالدي ديمقراطية جلس إزاءه، ثبت نظره في وجهه، وقال له: تحدث ما الذي يمنعك؟! أكتب بحرية من ذا الذي يمنعك؟! وبقدمه أزاح الأسنان المتساقطة، واللسان المقطوع، والأصابع المبتورة.. مجهولون يخرجون من أمامك.. من ورائك.. عن يمينك.. عن شمالك.. من فوقك.. من تحتك.. يحاصرونك فأين المفر؟ تحليق نظر حوله فإذا الأشواك تحاصره من كل مكان.. فجأة نبت له جناحان فطار.. حرية المرأة قيدٌ يشبه السوار.. دمية جميلة يحركها الرجل بخيطانه المغرور ينظر في مرآة محدبة.. هل تشظت كل المرايا المستوية؟! الثقافة بضاعة كاسدة يروجها عقلاء في زمن الجنون ولادة ميلاد الكلمات.. جنائز المشاعر الكرسي خشبة ترتكز على عظام وجماجم الضحايا سرعان ما تنهار لتتحول إلى تابوت المجاملة حفلة تنكرية بأقنعة شمعية سرعان ماتذوب تحت شمس الحقيقة العمر حلم ينتهي عندما نستفيق: بدر فهلال فمحاق الندم لحظة يسترد فيها الضمير عافيته اعتذار لو كان الأسف يجدي لمحيت خطايا العالم بالأطنان قلم نشيج القلم عندما يعلو صريره وتنزف كلماته حيرة أم متشائم أنت؟ إذاً أنت خاسر مهزوم أم متفائل؟ إذاً أنت واهم مخدوع وماذا يجب أن أكون؟! لا تصغ كثيراً لما تحمله الريح جمال الموساوي لا أعرف. أول الطريق إلى الحقيقة مباغتة الأفق بحديث عن كثافة العتمة، لهذا لا أريد أن أستيقظ من سباتي الفاره، فقط أنزف لأراني بوضوح على فكرة أو شهقة يرفعها الألم عاليا.. عاليا حيث يختنق الأفق عاليا حيث تخفت الأصوات عاليا حيث الحقيقة تنزح إلى غموض أشد في كثافة العتمة. لا أريد أن أعرف. أعجز عن معرفة ما أريد حقا. بين المجرات التي في الداخل حرب ضارية. ليس في الداخل أدغال فقط هناك حروب وموازين تختلُّ. لا تقل شيئا كثرة الكلام تهلك البدن. لا تصغ كثيرا لما تحمله الريح، من السخرية أن تدْعك عينيك لتطرد غبار الحياة. فلا تبالغ في تمجيد الفكرة لعل أول الجنون سؤال غير متوقع. لا أعرف ما أريد. لاهثا خلف فراشات الضوء، مسرفا في تأمل العالم مثل حيوان يوشك أن ينقرض. هكذا أتحسس الوجود، هكذا تبدو طبيعتي المتلبسة بالخيبة، إلى هناك تنقاد خطوات الكائن، إلى الباب المرئي للحقيقة التي لا غبار حولها. إلى هناك. إلى الباب الآخر. الباب الذي يفضي إلى عتمة أشد. لا أعرف كيف تتسرب كل هذه الأفعال إلى القصيدة؟ الفعل دليل آخر على القوة. لا يقين! القصيدة أرجوحة الروح. الروح، هي الأخرى، عاجزة عن فهم هذا التلاشي. لا أريد أن أعرف. المحو يزحف حثيثا على الخطوط التي نسجتها مع الوجود. أنا الكائن المنذور للعدم. لمَ إذن لم أتحدَّ الضوء واعتصم هناك، في الظلمة الأشد؟ في رحم العدم؟ لمَ إذن لم أكتف بكوني فكرةً، لا حقيقة نسبيةً؟ لمَ إذن، استسلمت للتلاشي طمعا في الخلود؟ لا أريد أن أعرفَ. عبثا. لن أبرأ من أعراض الحياة، سأظل حزينا بما يكفي قلقا بما يدفع الروح خارج الجسد، واهما كأي تائه، حالما كأي مبشر، لكنني، سأحشرني في أنسجة لغوية، كي أوهم الكلمات أنني على قيد الوجود وأن العدم قصة من الماضي، وأنني لن أعود إلى الظلمة الكثيفةِ. الظلام مدركي لا محالة. أَمَحضُ مناجاة أم خوف ضمني؟ أحب الليل. وحده يعيدني إلى حقيقتي: لا أعرف ما أريد. لا أريد أن أعرف. قهوة وحلوى ونجوم لطيفة الحاج * 1 لا أشرب القهوة كنت أفعل قبل أعوام طويلة قبل أن يراك قلبي ويمنعني الطبيب عنها 2 حلقي مر أرغب بقطعة حلوى تلك التي تصنعها جارتنا لا شيء يذهب مرارة حلقي مثل حلوى جارتنا 3 أحدق طويلاً في خط يدك في محاولة لتحليل شخصيتك وأفشل كما فشلت في فهم عينيك 4 السماء حالكة هذا المساء أحبها حين تكون حالكة فالنجوم تكون أكثر فرحاً تنظر إلي من الأعلى وتتراقص 5 عند محل المجوهرات وقفت خلف الزجاج تتمنى ذاك الخاتم كبائعة الكبريت حين وقفت خلف الزجاج تتمنى الدفء 6 معطفك الأسود أنتظر الشتاء طويلاً وأياماً تعلن فيها عن البرد لأراك فيه كم يبدو دافئاً هذا المعطف وقلبك يتدثر به 7 بطاقة أرسلها لك خالية من الكلمات على مظروفها صورة زهرة ذبلت متعبة من الانتظار 8 صوت أعرفه يشبه صوتك ينهمر في مسمعي وينفث في قلبي ألوانا من الفرح يطل الصوت بوجهه ويتهاوى حلمي * العين شهي كسؤال وائل طحّان أكملي ما بدأَ الليلُ ببطءٍ وافقديني خارجَ الضَوءِ كلحْنٍ شذَّ عن نوتَتهِ كسرورٍ غامضٍ في زرقةِ الصّيف افقديني كعناقِ الغيمِ للغيمِ كوعْدٍ لائقٍ بالغيبِ يا منْ تحبسيَن الوقتَ في عينيكِ يا منْ تَخنقُ الشمسَ يداكِ أكملي ما بدأَ الليلُ ببطءٍ وافقديني كي أراكِ موعداً في الريحِ لا يلبسهُ الوقتُ حصاراً واحةً عطشى وعاجاً بارداً يسْرقُ أفكارُ المطَرْ هكذا الشوقُ انتقامٌ واللقاءاتُ سفرْ هكذا العِطرُ طقوسٌ والنهاياتُ فضَاءٌ والزوايا حيْطةٌ أتلفَها الخوفُ وعيناكِ احتِمَالْ هكذا أُترَكُ في ذاكرةِ الصمْتِ شهيّاً كسؤالْ نصف لحظة لا تأتي سناء عبد العظيم * كان مساء تهادت فيه كليوباترا، ساحبة خلفها ذيول الخيبات، والخضات، بدلال تتهادى .. بتوق لهفان إلى ظل غاب .. بوجع مكتوب في القلب قبل الجبين.. بملء الكون حنين لما لا تعرف.. بحلم أبدي بالامتزاج.. بصدى أغنية في البال تتردد: “ليه يا بنفسج بتبهج وأنت زهر حزين؟”.. برؤية تائهة في عالم الأضغاث.. بأي شيء، وكل شيء، كل ما عرفته أنها كانت تتهادى، مقطوعة الأنفاس تلهث في مخاض ملايين الآهات. نظرت شزراً خلفها، فوجدت سهماً بين نقطتين، مغروساً قهراً بين الضلوع، واثق الخطوة يشق لنفسه طريقاً دامياً نحو القلب مستقراً ومستودعاً.. وأماماً ذلك الآتي من خلف البحر، والعمر، يمد لها توقاً وسحراً.. وملايين الوردات.. علها تهديها لطريق نحو الجنة، يميناً ويساراً، من فوقها ومن تحتها.. ملايين الحيات تناديها، ترسم لها حلم الخلود.. هناك، حيث يبلغ الأمل منتهاه، وحيث اليأس سيد مطاع، في عالم اللاوجود، واللاصوت.. صرخت كليوباترا بمدى الصمت: لست ملكة أنا أيها الآتي من خلف البحر والعمر.. أنا تاء التأنيث المربوطة بقيود حريرية.. المسجونة بعيون طفلة خلقها جوبيتر ووحده رآها.. نقطة ليست آخر سطر الموصومات بالحلم.. خرساء صرخت يوماً: حياة.. فناداها رجع الصدى: حمقاء.. أحياناً نتمنى اللحظة، فإذا جاءت تمنينا لو ما جاءت أبداً.. أحياناً نركض بأقصى أفكارنا نحو قطار يرحل، فإذا لحقنا آخر أنفاسه، أوجعتنا لحظة حنين لما تركناه خلفنا.. أحياناً نتساءل هل تساوي اللحظة ما فعلناه، تركناه، خلقناه، قتلناه.. من أجلها؟ أحيانا نتواصل، نتصارخ، نتلامس، نتعانق، وفي لحظة الامتزاج ننظر خلف اللحظة ماذا تحمل في يدها خنجر.. أم قنبلة موقوتة بعمر اللحظة الآتية؟ أحياناً ندعو، نتوق، نحلم، نتمنى، فإذا جاء الوعد، تساءلنا: أهذا حقاً ما تمنينا؟ أحياناً ننتظر ميلاد اللحظة، نرحب، نزين، نرقص، نتغنى، فإذا مضت اللحظة بكينا، للحظة نقصت.. ورصيد تقلص.. أحياناً يؤلمنا الحضور، ويوجعنا الغياب، ويزهق اللاحضور واللاغياب أنفاسنا ببطء.. وتلذذ.. أحياناً تداهمنا الفكرة، تحتلنا، تستبيح نقاءنا، وتستحل طهرنا، فإذا انتشت غادرت.. بلا كلمة عزاء. أحياناً تواتينا الجرأة لنبحر، يشعلنا إقدام أحمق فنبحر بلا شراع ولا مصباح ولا خاتم سليمان، نبحر ونعود بملء الكون حماقات أكبر.. أحياناً تشجينا الغنوة، تضرب أوتاراً منسية، تتحسس أصابع أرواحنا، فوق.. تحت.. تحت.. فوق.. دو.. ري.. مي.. آه.. آه.. فإذا دقت الطبلة الأخيرة، انفض السامر والمسرح. أحياناً تأخذنا غيبوبة زار مجنون، لعفريت مأسور بداخلنا، نلف، ندور حول المعبد، نقدم قرابين بيضاء، وحمراء، وكنوز شتى، عله يرضى، فإذا انتهكنا، وأنهكنا، غادرنا غير مأسوف علينا. أحياناً نتسامر، نتقامر، نعاقر خمراً لا يسكر، نعصر شهداً لا يروي، يغمرنا العطش، فنغرق.. وبين العطش والغرق، نصف لحظة لا تأتي. أحياناً تستهوينا اللعبة، تأخذنا قسراً من ذاتنا، تسرقنا من أقرب لحظاتنا، تخنقنا من أبسط أنفاسنا، ترفعنا، تطرحنا، تجمعنا، تضربنا بأروع ما فينا.. وبنزق أيضاً تلقينا. هكذا أجابته ذات سؤال لم يسأل بـ”لماذا؟”. بدون أن أدري ضغطت يدي على الرد.... هل لأدفع عن نفسي تهمة الغياب؟ أم لأفرض تواجدي على تلك الرحلة؟ بل ربما فقط لأقول: لا بل أنا هنا.. أو هناك.. وبين استراحة المحارب، واستفاقة الحياة، غرست كليوباترا روحاً، وتداً في قاع البحر، وكأنها تخشى المد الآتي.. “نموت قبل الموت”.. ونموت أيضاً قبل الحياة.. نخاف الموت.. ونخاف حد الرعب من الحياة.. نخاف ذلك المجهول الذي نتنفسه كدخان أزرق علناً نجد فيه لذة مفقودة، أو خيال نشوة طال انتظارها، حتى استوحشت محطات العمر من الخواء، فعلقت لافتة: كانت هنا روحاً تنتظر ما لا يأتي.. أيها الآتي من خلف البحر، والعمر.. رمالي أنا متحركة بلا قصور.. تسكنها “النداهة” ويحرسها الغول بلا خل وفي.. ومن النداهة للغول.. يا قلبي ما تفرح.. فليس للفرح مكان.. ولا عزاء.. * دبي آيل للسقوط موزه عوض قلق يعدمُ الضجة، يوقظ الأنين مخافة أن ينام الأشقياء وحدهم. كلما تجافى النهار قَرُبَ. الليل وحده كان طويلا كحبل الغسيل المربوط حول غصن شجرة. ليتني لا أخفق، أحاول الاستمرار وأعدو كي لا أخرج من سرداب الوهم ممتلئة الجسد. الحنين المشترك حول أساور السنين قدْ قدّ قميص الغواية فأحالنا إلى قلوب فارغة. أحتاجك، وخوفا من الحاجة أهرب إلى كوكب لم يعد له أسم بالكون. اختلقتُ حكاية صغيرة جدا تركتها تنمو حول أصابع الاستفهام، ولما كبرت انفجرت ولم تعد تهمهم في شيء. خلف كل جدار أفواه تتكلم، تعلن صفير الموت، تغلق آذانها وقلوبهم صامدة. أحلامنا تلك انتهت، الحب اختفى فلم يعد لي قلبا يحب. لنجمع حصاد الأوطان على أرض مساحتها عقل رجل تكلم ونطق بالحكمة. اليوم كالأمس وغدا قد يكون اليوم، بينما السنة القادمة أحسبها ستموت ببعض التفاصيل المبطنة بالحقيقة. بعيداّ عن الكذب كان الصدق مخترقا لحظة فجائية لها تأثير على قوقعة الأذن الصماء. المغادرون أفياء الحب قد بُتروا من أحلامهم فقد تساقطت أوراقهم الخريفية على أرض كفيفة.. قليلاً من حياء الروح قد يُخضب المدينة ويسترها عن أعين الجبابرة. لا تقل أين أنا، بل قل كيف لنا أن نبني سقفاّ بدون حجاب؟ أكثر الأشياء التي نراها من خلال أنفسنا لها خيال متعب أغلبها ينطبع على هيئة خوف أو مصارعة حرة. لدينا ما يكفي أن نقيد الثرثرة لنصنع منها قالبا من عدم توازن، في حين يبقى علينا أن نقف على طاولة الحوار ونقذف الأخطاء بأناملنا. الغريبة بدرية البليطيح * أربعة أمتار في أربعة.. تلك هي مساحة غرفتها المظلمة ذات الجدران الداكنة والسقف العالي، الذي ألقى بثقله وثقل السنوات على عدة ألواح خشبية بنت عليها العنكبوت بيتها، وهي على ثقة من أن يداً لن تمسه بسوء. يتوسط الحائط شباك خشبي صغير جمعت ألواحه بمسامير طمس معالمها الصدأ، تسللت أشعة الشمس عبر فتحاته الصغيرة بصعوبة، وحوله تسربات من المياه والطين بعد أمطار الشتاء ورياحه العاتية. جلست القرفصاء تحيط ركبتيها بيديها وهي تلف جسدها المرتعش ببطانية بالية، تشربت رطوبة المطر فانتشرت رائحتها النتنة في المكان لتصبح مرتعاً خصباً للبعوض والحشرات الطائرة، استجمعت قواها واقتربت من الحائط تحاول النهوض بيد وباليد الأخرى تمسك بالعصا، وقفت متحدية سياط الزمن الذي نال كل عضو من جسدها الهزيل بلسعاته المؤلمة، فرسم خطوطه بدقة متناهية على صفحة وجهها الذي تحول لطبقات من التجاعيد بعدد أيام العمر وساعاته، حركت مقبض الباب ألقت نظرة على السكة الضيقة أمام منزلها، ففر الأطفال وعلت صرخاتهم وانتشروا وهم يرددون: العجوز.. اهربوا.. ستقتلكم بالعصا!! لم تستغرب فهي غريبة في هذا المكان الذي لم تعد إليه إلا بعد رحيل جيلها وما بعده، وهؤلاء الصغار لا يعرفون إلا عجوزاً تسكن منزلاً قديماً برفقة الأشباح، ويرددون إشاعات بأن هناك أضواء ودخاناً يخرج من منزلها آخر الليل مما يجعل الجميع يهربون من لقائها، ومع ذلك تجد كل ليلة قطعاً من الخبز وبقايا طعام أمام دارها وهو قوت يومها. جاءت منذ فترة من المدينة لمنزلها القديم الذي يخلو من الأثاث والحياة بعد أن تخلى عنها الجميع، وأصبحت ترى نظرات الجحود والعقوق في أعين أبنائها، فكل واحد يحاول التخلص من مسؤوليتها والاستمتاع بحياته مع أسرته، لم تنتظر أن ترمى على قارعة الطريق فهربت لملاذها الوحيد رغم وحشته وخشونة الحياة بين جدرانه التي لانت أمام قسوة قلوب البشر. لم يعد لها رفيق غير عصاها التي تستند عليها وتشكو إليها وهي تأمل أن تفشي أسرارها، ابتهجت وهي تلمح صغيرة تقف أمامها وتنظر إليها بدهشة محاولة إخراج بعض الكلمات وهي تمضغ اللبان، تراقص الفرح بأعماقها حشرت يدها في جيبها تبحث عن الحلوى.. اختل توازنها فسقطت عصاها.. أين هي الحلوى؟ هربت الصغيرة تاركة خلفها طيف ابتسامة ووجهاً بريئاً أشرق به المكان، انهارت قواها جلست على عتبة الباب وهي تردد: تلك الطفلة فيها الكثير من بشرى..! ابنة زياد.. يا لك من ابن عاق يا زياد.. لقد بعتني بأرخص الأسعار!.. بعت جسداً احتواك وغذاك وباع الدنيا في سبيل لقمة تسد بها جوعك في ليلة حالكة باردة كبرودة مشاعرك! أين أنت بعد أن أصاب هذا الجسد الهزال وجمد أطرافه الصقيع وطوى أمعاءه الجوع.. انتظرتك لتجفف دموعي فأحرقت وجنتي بدمع رسم جراحاً لن تندمل؟.. سامحك الله!.. رفعت رأسها للسماء وأطرقت إلى الأرض.. فالصمت لغة عليها الاعتياد عليها منذ الآن.. لون جديد بلا ألوان إنه خريف العمر بين أزقة الجحود. * كاتبة سعودية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©