الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بحارة الإمارات.. صورة «الأعماق»

بحارة الإمارات.. صورة «الأعماق»
6 أكتوبر 2011 17:07
تتوسع اللحظة الخاطفة لتصبح تاريخاً مسجلاً، عندما توثق في صفائح الكتب. تتمدد ومضة العدسة البارقة لتصبح جسداً مرئياً يحيط به عالم من أشياء كثيرة، من أشياء انمحت، صارت ماضياً، إلا أنها تستعيد كيانها من خلال “صورة”. هي صورة الزمن القديم. هي صورة تراث محفور في الذاكرة. هي صورة سنين ورجال، وبحر، ومدن، وتقاليد. هي صورة أناس غادروا عالمنا، بعد أن حفروا في ذاكرة الصورة أحاسيسهم، حياتهم، ملامحهم، أحلامهم. هي صورة من لغة تتحدث عن دولة قبل اكتشاف النفط والغاز من أرض مباركة، حين كانت تسمى “إمارات الساحل المتصالح” فصارت تسمى “دولة الإمارات” على يد بانيها ومؤسسها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله. أعمال فريدة تجسد طبيعة الحياة في هذه البلاد في منتصف القرن العشرين. أعمال متقنة إلى الدرجة الحرجة التي تصبح فاصلة بين فن التشكيل والفوتوغراف. أعمال ملتقطة بمنتهى الدقة حيث ينفصل الظل عن الضوء في جسد الصورة. في هذه الصور نبصر سفناً، شواطئ، رجالاً، بحراً أزرق. تطالعنا سفينة من طراز “كوتية” وهي تغادر أفريقيا والريح تملأ شراعها، مبحرة باتجاه دبي وهي محملة بأعمدة من خشب القرم “الشنادل” والتوابل والأقمشة وأخرى لسفينة بوم راسية في ميناء خورفكان الذي كان يعد آخر مرسى آمن بين الخليج العربي ومسقط. وكي يكتمل الموضوع لابد من أن تكتمل أضلاع المثلث الذي تمثله سفينة جلبوت وهي راسية في خورفكان وقد فردت أشرعتها استعداداً للإبحار فور حدوث المد، حيث لم يكن هناك سوى عدد ضئيل من سفن الجلبوت المجهزة بمحركات، وعند اكتمال صور السفن الثلاث نراها تزدحم عند منعطف خور دبي الذي كان يفصل الشندغة عن دبي، وتبدو في مقدمة الصورة سفينة جلبوت تم سحبها إلى الشاطئ لإصلاحها، بعدما تم تظليل سطح مؤخرتها بالباراساتي الذي هو سعف النخيل أو العريش. خور دبي وانحناءة الشاطئ والبيوت ذات البراجيل وماء البحر الأزرق الرقراق، والحياة البسيطة، وكأننا نبصر في صورة عريضة حياة بأكملها، كل ذلك نتفحصه من خلال عيون المصور الفوتوغرافي الانجليزي “رونالد كودراي”. نتساءل، أي قيمة رائعة تضمنتها صور كودراي حتى أنه جعلها، بل حولها إلى كنز من التاريخ الفوتوغرافي، اعتز به، وبجله، وجعله غايته في الحياة حينما أهداها إلى زوجته باميلا: “أهدي هذا الكتاب إلى زوجتي الشجاعة والحبيبة باميلا التي وقفت دائماً إلى جانبي خلال سنوات زواجنا المديدة. هذا الكتاب يروي بعض الذكريات الذهبية العزيزة على قلبينا، خلال الفترة التي عشناها في الإمارات المتصالحة”. رونالد كودراي 12 يناير 2000 العودة إلى الشواطئ يحتفل البحارة بعودتهم من لجج البحر بعد رحلة غوص مضنية وطويلة وهم يجدفون وأفواههم تردد أغاني العودة والفرح، وثمة نهام عذب الصوت يطلق آهات الحنين التي تستعيد لحظة الحب المفقودة تستعيد لحظة الفرح المرتقب. في عام 1971 ولدت دولة حملت عنواناً متفرداً “دولة الإمارات العربية المتحدة”، وهي دولة خرجت عن النمط الجغرافي المألوف واستمدت قواها من طابعها الصحراوي تارة ومن طابعها البحري تارة أخرى. جبال وصحراء تحيط بخاصرة تلك الإمارات السبع، وهي تتمدد على ساحل البحر الطويل الممتد كالسوار على معصم الأرض. لآلئ وسمك وتجارة كلها أشارت إلى حياة الإنسان على هذه الأرض حينما اكتشف الجمال في اللؤلؤة واعتبر السمكة روح الحياة التي تمنحه القوة، أما التجارة فهي مغامرة المسافر المهاجر. تداخلت أنشطة الناس، بدو وبحارة، من الخارج والداخل، إلى درجة كانت تدفع أولئك الذين كانوا يتسلقون جذوع أشجار النخيل لقطف التمور إلى تسلق صواري السفن التي كانت تمخر عباب البحر ونشر وطي الأشرعة. التاريخ يتكلم تؤكد شواهد تاريخية “بما فيا لوح فخاري تم اكتشافه في موقع مدينة أور الأثري” قيام رحلات بحرية تجارية على امتداد شبه الجزيرة العربية في النصف الأول من الألف الثالثة قبل الميلاد. وإن الاسكندر المقدوني أو قائده البحري نيارخوس 326 قبل الميلاد قام برحلته الشهيرة في الخليج، التي اقتصرت على غرار الكثير غيرها من الرحلات الاستكشافية المبكرة لمياه المنطقة. شاطئ كلباء لسان بحري يمتد تحت سفح جبل وبيوت بيضاء مربعة مبنية بطابوق جبلي أبيض، وثمة نوافذ كثيرة للحصن الرابض عند الشاطئ وتعرجات في قمم الجبال وزوارق عشرة عند ساحل كلباء كما التقطتها عدسة كودراي عام 1949 حيث البيوت البعيدة وهي تتلاصق في حميمية مدهشة. صورة أخرى لأبوظبي التقطت من الجو عام 1949 ويبدو فيها قصر الحصن على أطراف التجمع الرئيسي لمساكن المدينة. ويلتقط كودراي العناصر الأساسية في ديمومة حياة شعب سكان الإمارات المتصالحة والمنطقة بشكل عام ومن أهم تلك العناصر الثروة السمكية الوفيرة. هنا نقترب من خلال صور كودراي إلى فهم طبيعة التعامل الاجتماعي مع ما ينتجه البحر، حيث يأكل سكان الساحل السمك طازجاً، بينما يأكله سكان الصحراء والجبال مجففاً تحت أشعة الشمس لأيام كثيرة. الناس والفضة ويلتقط هذا الفوتوغرافي حياة الناس من سكان الجبال الذين ألفوا تلك السلسلة الجبلية الصخرية التي يبلغ طولها 338 ميلاً والتي تقسم إلى قسمين. صورة لحركة جميلة يتساقط فيها سمك السردين لامعاً كالفضة ورجال يبتهجون على ساحل البحر، هنا نتأكد تماماً كيف روض الرجال البحر المجاور فأعطاهم ما لديه. خير ممتد يلتقطه كودراي حال خروج الشباك من البحر حتى الشاطئ، حيث يتم نثر سمك السردين على الرمال كي يجف تحت أشعة الشمس. كل ذلك يجري حينما يلمح الصيادون سرباً من أسراب سمك السردين لحظتها يتعاون الجميع على سحب الشباك الوفيرة بهذا الصيد الذي يجود به البحر. تمتد الصورة لدى كودراي لتلتقط أوسع مدى، بينما يدون في مذكراته ملاحظاته عن سمك القد الخليجي والبلول والربيل والصافي والشعري والسكين، إضافة إلى أسماك القرش والباراكودا وأبو سيف واللخمة واللساعة والبوفنيش والصدفيات بما فيها محار اللؤلؤ الشهير. يروي كودراي ما رآه عن صيد الروبيان ويصفه بالجراد الطائر البحري، ويتطرق إلى السلاحف البحرية والعنبر الأسود الذي يشبه القار من غنائم البحر النادرة والثمينة والتي تشاهد طافية فوق سطح مياه الخليج بعد أن تلفظها الحيتان. البانوراما التصويرية مما يلاحظ على صور كودراي اتساع حجمها واقتراب عدستها من العالم الذي تريد تصويره، وهذا الأمر يدعونا للاعتراف بإمكانية هذا المصور الفوتوغرافي البارع، فما بين سعة العدسة واقترابها إلى الأشياء براعة كاملة وقوة تعبيرية متمكنة، ويتكرر هذا الأمر لديه لأكثر من مرة في الوقت الذي تصبح فيه الجزئية/ النقطة عامرة بالحياة. المثال الأوضح على ذلك هو العنبر الأسود، الذي يستخدم في صناعة العطور كونه ذا رائحة زكية وهو ما يجود به بحر الخليج الهادئ على ضفاف الإمارات وكان وجوده دليلاً على وجود الحيتان التي تشاهد وهي تطلق نافورة من المياه شمالي الخليج خلال فصل الربيع. الروبيان الطائر ينطق الأسود بالضوء ويتحرك الملون بالظلال البراقة، حين يقدم كودراي صورة لفتى وهو ينظف ما اصطاده من السمك بماء الخليج، ضوء وظل وماء وصخور وفتى يجلس وبيده سكين كي يقطع السمكة وسبع سمكان في قدر لامعة بالبياض. ولا نزال في الأسود والأبيض حيث نرى صيادين يجمعان حصيلة ما اصطاداه وفي خلفية الصورة كميات هائلة من السردين وهي تجف تحت أشعة الشمس. ونتحول إلى الصور الملونة التي أبدعها كودراي حيث نجد صورة بانورامية عريضة لبحر وصيادين وأطفال ورمال وامرأة وأخرى لأربعة صيادين وهم يحملون الشبكة الكبيرة، ملامح رجال من ذاك الزمان تعبر عنها سماء صافية، مزرقة، بينما نرى صورة قديمة (أسود وأبيض) لصيادين يسحبون زورقهم إلى الشاطئ والمدينة ببراجيلها تبدو هادئة والعشش تحاذي البحر، هذا هو عالم البحر عند كودراي، الجراجير يحملها الرجال والنساء من البحر وإليه، جرجور صغير وآخر عملاق. وفي دبي تلتقط عدسته سرب الجراد الذي طار فوق خور دبي عام 1953، صورة لمدينة دبي وبيوتها وبراجيلها المحاذية للبحر، تلك الأبواب الرصاصية القديمة وإلفة التراث الذي يعبق برائحة المكان والناس والزوارق الراسية في البحر وآلاف الجراد المتطاير فوق الماء والمدينة والذي كان يعرف بـ “الروبيان الطائر” وكان الناس يصطادونه بغترهم “الكوفية” أو الإزار ثم يطعمونه إلى جمالهم أو حميرهم. حكمة الشيخوخة لم يستثن كودراي صور البورتريه، كونها كما يرى تنطق بالحكمة وتجاعيد وجوهها تحكي عن زمن يروي الكثير صورة لصياد مخضرم وهو يتأمل البحر، وأخرى لتاجر لؤلؤ يصقل لآلئ لتحسين شكلها إذ أن سعرها يتغير بتغير شكل اللؤلؤة خلال عملية الصقل. صورتان لرجلين يتأملان لؤلؤتين وبيديهما كيسين صغيرين يحتويان لؤلؤاً كثياً، ومن خلال عدستي نظارتيهما يبدو اهتمامهما واضحاً بما يقلبانه، الصورة تكشف مهارة كوادري واهتمامه بالموضوع الذي يتمحور حول قضية، هي قضية المكان واللؤلؤ والناس. يستغل كودراي مسقط الضوء ومساحة العدسة وفتحتها ليلم العالم الذي يتناوله بإحساس القصة وأهميتها. الوجه لديه انفعال وملامح وتقاسيم وعرق وصفاء وتأمل وصفون. الوجه لديه إحساس ولون وأسارير وحركة وانبساط وفرح وانقباض وحزن. الوجه لديه كيان. العبرة هي من أكثر الكلمات المتداولة في قاموس لغة أهل الساحل، أهل البحر والخور، يلتقط كودراي مجموعة من الفتيات اللواتي حفظن القرآن الكريم في الكُتاب وهن يركبن العبرة لاجتياز خور دبي وقد ارتدين أزهى ملابسهن، أقراط في الآذان وألوان ملابسهن تشي بروح ذاك الزمان وتيجان الحلي تزين رؤوسهن وقلائد الزينة تطرز صدورهن، وبحار يجذف في ماء الخور. البحر والناس حكاية لا تنتهي حاول كودراي أن يحكي جانباً من قصتها. الغوص لم يترك كودراي جانباً من حياة أهل الإمارات المتصالحة إلا وقد أرخها في لقطة، أشياء الغوص تتحرك عبر عدسته، غواص يرتدي ملابس بيضاء واقية من قطعة واحدة مصنوعة من القطن لحمايته من قناديل البحر المشهورة بلسعاتها المؤلمة. لؤلؤ على قماش من الكتان ويد ممتدة تشير إلى وفرة الرخاء. رونالد كودراي.. من الهمالايا إلى الإمارات «على متن صورة» ولد رونالد كودراي في الجانب الهندي من منطقة جبال الهيملايا في يوليو من عام 1924، وخدم في سلاح الجو الملكي البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1946، تم انتداب كودراي للعمل في القاهرة، التي انطلق منها مسافراً إلى العديد من الدول العربية. ثم التحق للعمل في ائتلاف نفطي وانتقل إلى ما كان يعرف حينئذ بالإمارات المتصالحة “دولة الإمارات العربية”. وبعد أن أمضى ثماني سنوات في جنوب شرق شبه الجزيرة العربية وقطر والبحرين، قضى كودراي 24 سنة في سوريا، العراق ولبنان قبل أن يعود إلى المملكة المتحدة، كما زار كودراي خلال تلك الفترة العديد من الدول العربية الأخرى، وقابل 25 رئيس دولة عربية. وتمكن كودراي، بفضل موهبته وشغفه بالتصوير وقدرته على تركيب المشاهد، من التقاط الآلاف من الصور الرائعة التي نشر الكثير منها أو تم عرضه في المعارض الفنية. كما قام كودراي بتأليف وتصوير الأجزاء الستة لسلسلة كتب الألبومات العربية المصورة وكتاب لحظة واحدة في العالم العربي. وفي عام 1975 تم تكريم رونالد كودراي بوسام الامبراطورية البريطانية، تقديراً “للجهود التي بذلها في خدمة المصالح البريطانية في لبنان”، كما تم تكريمه في بعض الدول العربية، حيث فاز بالجائزة الأدبية لمؤسسة سلطان العويس الثقافية والعلمية، تقديراً لسلسلة كتب الألبومات العربية المصورة ليكون بذلك أول شخص غير عربي يفوز بتلك الجائزة. توفي كودراي في شهر مايو من عام 2000 وهو في الخامسة والسبعين من العمر، مخلفاً وراءه زوجته باميلا وابناه كريستيان وجوستين، اللذين لا يزالان يقيمان علاقات ودية من العديد من أصدقائهما العرب. ملاحظة: أصدر رونالد كودراي كتاب “بحارة الإمارات.. صور من الألبوم العربي” بدعم من بنك دبي الوطني عن دار موقف إيت للنشر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©