الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«أشياء» هدى سعيد يرصد مفردات المخيلة الشعبية والطقوس العفوية

«أشياء» هدى سعيد يرصد مفردات المخيلة الشعبية والطقوس العفوية
22 سبتمبر 2012
(الشارقة) - يكشف معرض “أشياء” للفنانة هدى سعيد سيف المقام حاليا في الشارقة عن حالة افتتان بالمشاكسات اللونية لعالم الطفولة، وما يحدثه هذا الاستدعاء اللوني والفطري من تعويم مقصود للتفاصيل البعيدة والرابضة والمطمورة في اللاوعي الجمعي المحاط بمفردات المخيلة الشعبية، والطقوس العفوية الشفيفة والملائكية في علاقة الأم بوليدها. ومن خلال ألوان نافرة ومتوهجة في ذات الوقت، تنسج هدى سيف من مكعبات وتقسيمات لوحاتها ما يشبه الحوار الصامت والإيمائي، أو ما يمكن أن نطلق عليه: العبث المُروّض لطاقة المنظور وإيحاءاته. بحيث تتحول المسافة بين بؤرة اللوحة وحوافها، إلى حيّز مزدحم ومحتشد بالأحلام والأخيلة المتخطية لمفهوم الزمن التصاعدي، لأننا هنا في حالة نكوص وعودة هي أشبه بالعودة الذهبية إلى يوتوبيا الحنين، وفردوس الملذات الافتراضية المتخلصة من أذى الراهن وأوجاعه. خمس وعشرون لوحة هي مجموع ما قدمته الفنانة هدى سيف في معرضها الشخصي الثاني الذي نظمه رواق الفنون بالشارقة التابع لإدارة الفنون بثقافية الشارقة، من أجل إشراك الفئات والمرجعيات المختلفة في المجتمع مع الذائقة الجمالية التي يقدمها الفن من خلال رؤى وأساليب وتقنيات تشكيلية متعددة المشارب والمذاهب. اللوحات لم تحمل أعمال المعرض عناوين محددة ولكنها في المجمل انشغلت بترك انطباع حار ومتدفق من التأثيرات اللونية والتأطيرات غير المستقرة لأطياف بلا ملامح تحاول جاهدة أن تنبعث وتنوجد في سديم هلامي يخصها أو يعبر بالأحرى عن خصوصيتها، وسط فضاء تراثي لا يفرض حضوره بقدر ما يكتفي باللمح والإشارة والخطوط الذائبة في ماء الذاكرة وفي نهر أسرارها. ففي لوحة المرأة التي تحمل رضيعها بين يديها ينسحب التعبير التفصيلي للوجوه، لصالح التعبير الكلي للحالة العاطفية التي تجمع الأم بطفلها، تهيمن الألوان هنا وتتداخل بين الشخوص وبين المكان المحيط حتى تصبح اللوحة أمام نظر المتلقي أشبه بالتجلي البصري المتخطي لحاجز الثنائيات المتنافرة بين الذات والموضوع وبين الجسد والجماد، وكأننا هنا وسط هالة لونية شاملة يتبخر فيها التعيين ويسكن فيها التنزيه، ويتلاشى الحضور كي يتسيد الغياب، لأن المعنى هو الغالب على المبنى والمغزى هو المهيمن على المحتوى. وتسلّم معظم لوحات المعرض قيادها لذات النداء الشبحي أو الضبابي، غير أن الأشياء المحايدة التي لها علاقة مباشرة بعوالم الطفولة أو بملكوت الطفل مثل الحقائب والأقفال والأحذية والمفاتيح وقناني المشروبات تتمسك في لوحات هدى سيف بخصوصيتها الصلبة والراكزة في سراب الأيام الفائتة والمتفلتة والمنسربة من بين أصابع الزمن، وكأن الخطوط اللونية القوية والحادة التي تشكل طبيعة هذه العناصر الطفولية البعيدة، هي أشبه بالمقاومة الداخلية للفنان ضد الزوال والضياع والمحو الذي يمليه الصعود القاسي والخشن للزمن ولأعمارنا المتراكمة والذاهبة نحو مصيرها الأخير. فكرة الانفصال أما التقسيمات الوهمية التي وضعتها الفنانة في عدة لوحات، خصوصا تلك المتعلقة بالوشائج الروحية بين الأم ووليدها، فهي أشبه بتقسيمات تنبؤية حول فكرة الانفصال، وهي فكرة مؤلمة وجارحة وتبرز بشكل أوضح لدى الطفل عندما يكبر، وعندما يفتقد الملامسات الحميمية لأمه، ويتحول فجأة إلى كائن مستقل عليه أن يتحمل وحيدا عبء الوجود الثقيل والمخيف، وأن ينكشف فجأة أمام رعب الافتراق المرّ، كي يدخل في هذا المعترك الوجودي العاصف، عاريا من الحنان ومنزوعا من دفء الحضن الأول، بكل طهره وقدسيته، ومن هنا أيضا يمكن للمربعات اللونية داخل اللوحة أن تتحول إلى لعبة من المتاهات القاسية، أو إلى لغز المكعبات الذي يؤدي أقل عبث بنظامها الأصلي إلى كارثة وانهيار وخلل كامل في العلاقة الوشيجة والمتلاحمة بين الطفل وأمه، أو بين الثمرة والشجرة اللذين يشكلان في النهاية مرويات الخلود الأرضي في احتفالنا المتواصل بالحياة. بين زمنين تضعنا لوحات المعرض أيضا في أتون اختبار روحي وتمزقات ذهنية بين زمن الاستحالة وزمن التحقق، فزمن الاستحالة هو زمن الطفولة الذي توزعت كنوزه على ارث النسيان، وزمن التحقق يتمثل في العجز الكلي على تعويض خساراتنا العاطفية وطاقاتنا المبددة في استرجاع الماضي، ولكن الفن، وربما الفن وحده هو القادر على استئناس الوحش النائم فينا، وردم الهوة الفاصلة بين التنافرات الداخلية، والبؤس القابل للانعتاق والذهاب إلى أقانيم أكثر إشراقا وإبهارا سواء من خلال ضربات الفرشاة المغموسة في ضوء الذاكرة، أو من خلال مفردات الماضي ومفاتيحه القادرة على فتح مغاليق المحبة المنسية والغائرة في لا وعينا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©