الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

آباء يهبون أعمارهم للأبناء.. ثم يحصدون مرارة الجحود

آباء يهبون أعمارهم للأبناء.. ثم يحصدون مرارة الجحود
10 مارس 2009 00:50
ما زالت الأسرة العربية متماسكة، يسودها الوئام والحب بين أفرادها، وما زالت بسمات الرضا والمشاعر الإنسانية القوية تتألق في محراب هذه الأسرة، كاشفة عن القيم الأخلاقية، والانتماء العميق للشرف والخير والجمال في عاداتنا وطبائعنا الأصيلة الموروثة عن الآباء والأجداد، حيث يحنو الكبير على الصغير، ويحترم الصغير الكبير معترفاً بفضله، ومكانته· لكن بعض الآباء في مجتمعاتنا العربية تصل بهم التضحية درجة يذوون فيها كالخريف، أو يشتعلون كالشموع حتى الاحتراق من أجل أبنائهم، وهذا العطاء الكبير، والعطف والحنان الزائد عبر كل سنوات التربية منذ الولادة حتى تخرج الأبناء من الجامعة، يتحول في النهاية إلى مأساة، وجراح نفسية غائرة في الأعماق الداخلية للآباء والأمهات، الذين تنكر لهم الأبناء، ولم يعودوا يعترفون بفضلهم وإنسانيتهم حين يكبرون· صحيح أن ظاهرة عقوق الوالدين في المجتمع العربي ما زالت أقل مما هو حاصل في مجتمعات أخرى، لكنها ظاهرة بدأت تتشكل وتتصاعد أخطارها، وقد تصل بالآباء إلى درجة الفقر المدقع حين يكبرون، لأنهم لم يدخروا لأنفسهم شيئاً وهم ينفقون المال بسخاء على أولادهم، الذين لم يردوا الجميل، وبدلاً من ذلك، فإنهم يجلبون العار والأذى النفسي نتيجة ضياعهم وتشردهم وعقوقهم· إن من يزرع الشوك لا يجني العنب، وهناك خطأ في التربية منذ الأساس، لكنها قاعدة يصعب التحكم فيها أحياناً، فلكل قاعدة شواذ، خاصة أن الزارعين هم أناس طيبون جادوا بالغالي والنفيس من أجل راحة أبنائهم وسعادتهم· صرنا نسمع في الوقت الحاضر قصصاً وحكايات محزنة عن الغدر والخيانة وعدم الوفاء للآباء والأمهات· هل نحن في زمان مختلف؟ ما هي الأسباب التي أدت إلى الإضرار بقدسية الأسرة، وتجاوز القيم الدينية والاجتماعية والإنسانية من قبل بعض فلذات الأكباد، حيث لا يملك الآباء إلا السكوت والانصياع وطلب الهداية لأبنائهم أمام هذا الجحود القاسي؟ هل بقي شيء من التراث الجميل، والعلاقات الإيجابية بين أفراد الأسرة العربية لم يتم العبث به من قبل هؤلاء الذين ظنوا أنهم ولدوا من فراغ، وتناسوا فضل أقرب الناس إليهم منذ الطفولة، حتى أن البعض منهم يخجل من ماضيه، ولا يعترف بأهله، ولا بمسقط رأسه، ولا بهويته الوطنية، هذه الظاهرة وإن كانت محدودة في مجتمعاتنا، إلا أنها جديرة بالمناقشة والطرح والتحليل· يقول أحد الصحفيين: سألت أحد مديري التحرير في إحدى البلدان العربية يوماً، والذي كانت زوجته موظفة كذلك، هل قمت ببناء بيت لك في بلدك، أو إنشاء مشروع معين كي تعيش من ورائه عندما تكبر في السن؟ أجاب ذلك المدير الذي أفنى عمره في العمل: إنني أبني ثلاثة مشاريع دفعة واحدة، فأولادي الثلاثة يدرسون في جامعة السوربون بباريس· وبعد مضي السنين تكرر نفس السؤال على المدير، ولكن باستيضاح أكبر عن مشاريعه الناجحة في أولاده، فأجاب: كلها مشاريع خاسرة، لقد تزوجوا جميعاً، ولا أراهم إلا في المناسبات· أما محمدية، فقصتها مختلفة وإن كانت تصب في الاتجاه ذاته، فهذه المرأة البسيطة التي كانت تضج بالحيوية والعنفوان في شبابها استطاعت من خلال راتب زوجها المحدود، وبتدبيرها شؤون المنزل أن تبني بيتين في إحدى العواصم العربية على امتداد ثلاثين عاماً من الغربة، لكن خطأها القاتل أنها قامت بتسجيل البيتين باسمي ابنيها الاثنين اللذين أنجبتهما وزوجتهما، لكن الابنين لم يعودا يطيقان الأم داخل البيت، فبدأت تعيش عند قريباتها وصديقاتها إلى أن ودعت الحياة، حيث كان زوجها قد سبقها إلى ذلك· وهناك شخص يدعى أبومصطفى في السبعينيات من عمره يعمل خياطاً في دكان ليس ملكه، وحين يذهب إليه شخص ما يرى فيه ما يطمئن إليه، فإنه يسرد قصته أمامه، ويبوح له بأوجاعه وآلامه النفسية، وأحياناً يبكي من شدة الحرقة والعذاب، ثم يتذكر أبومصطفى ويسأل الزبون عن الشيء الذي يريده· هذا الرجل المعذب كان يملك محلاً للخياطة، ويعيش كغيره من الناس في هدوء واستقرار، وكان ابنه مصطفى يتعلم في الجامعة، ولأنه ابنه الوحيد، فقد أغدق عليه بالمال إلى أن اضطر إلى بيع دكانه، وبعد تخرج مصطفى مهندساً تزوج من زميلته في الجامعة ورمى بأبيه وأمه في الشارع، مما اضطر الرجل المسن إلى العمل أجيراً عند الناس، يعيش على الذكريات المريرة، ويلعق الجراح التي لا يستطيع السيطرة عليها في أغلب الحالات· أما أبومحمد، فكان أغنى شخص في بلدته، تزوج من امرأتين في أقل من سنة، وطالما كان يتفاخر بأنه أبو المال والعيال، استطاعت إحدى زوجاته أن تستقطبه إليها أكثر من الأخرى، وكان يدللها، ويحبها، ويأخذها معه إلى كل مكان يذهب إليه، فيما كانت زوجته الثانية أقل منزلة في نفسه، وهو ما انعكس على أولاده، فأولاد المرأة اللعوب كانوا أيضاً مدللين يحق لهم أن يخطئوا، ويتعدوا حدود الذوق والأخلاق دون محاسبة، فيما يتعامل مع أولاه الآخرين كمواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة في بيته العامر· وعندما كبر أبومحمد فإن جميع أولاده من امرأته المدللة فشلوا في حياتهم، ولم يبنوا أي مستقبل، وتحول مستواهم المعيشي من الغنى في ظل الأب، إلى الفقر المدقع حين تزوجوا وصاروا آباء، أما أولاد المرأة الثانية الذين تربوا على الأخلاق والقيم الرفيعة فقد تخرجوا جميعاً من الجامعات، وظلوا امتداداً لوالدهم في الغنى والجاه والمكانة الاجتماعية العالية· الأخصائي الاجتماعي إسماعيل الحسيني يقول عن ظاهرة العقوق: الأصل في هذه المسألة هو في التربية، فإذا كانت تربية الأفراد في الأسرة قائمة على الدين، ومخافة الله سبحانه وتعالى، فمن المستحيل أن يتم التنكر لفضل الوالدين، لأن الشخص يدرك أن هناك قوة خفية تراقبه، وبوجود القيم الدينية والأخلاقية والتربوية في الأسرة، يصبح الأولاد قادرين على الحياة بصورة طبيعية، لذا فإن الغرس الطيب يبقى طيباً، والنبت ''الشيطاني'' يكون حليفاً للشيطان في كل سلوكياته وأخلاقه وتصرفاته· وأضاف الحسيني إن تدليل الأبناء إلى حد كبير، والإنفاق عليهم بصورة تتجاوز المعقول نتيجة للحب الكبير لهم، قد يخلق مردوداً عكسياً، تجعل من هؤلاء الأبناء لا مبالين، يعتمدون على الغير في تحقيق مصالحهم وذواتهم· وتابع: قد تصل الأمور إلى وجود أمراض نفسية، تؤدي بالأبناء إلى ضعف في الشخصية، وفشل محتم في دراستهم وعملهم في المستقبل، لافتاً أن التربية ينبغي أن تكون متوازنة، وألا يلعب المال وحده الدور الأكبر في عملية التربية دون أن يقترن بالأخلاق والدين والثقافة وغرس قيمنا الاجتماعية النبيلة، وعاداتنا وتقاليدنا الحميدة في نفسية الأبناء، لأن المجتمع لا يسامح المتنكرين لقيمه، والخارجين على أخلاقياته الطيبة·
المصدر: أم القيوين
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©